حوار (استذكاري) مع الأديب الفلسطيني رسمي أبو علي

(ثقافات)

 

حوار مع الأديب الفلسطيني رسمي أبو علي*

مجمل ما كتبت هو  سيرتي الذاتية … وحياتي نفسها رواية.. !

حاوره: يحيى القيسي

عُرف رسمي أبو علي كقاص فلسطيني ساخر أوّل الأمر، وشاعر وروائي فيما بعد، وأيضاً كاتب مقالات، ومعدّ للبرامج الإذاعية الثقافية، واشتهر بتجربة “الرصيف” للأدباء المُهمّشين في بيروت أثناء الحصار الشهير بداية الثمانينيات برفقة عدد آخر من الكتاب الفلسطينيين والعرب، ورغم أنّ “أبو علي” وصل إلى السبعين من عمره إلا أنّه ما يزال شاباً في فكره وطريقة حياته وتنوّع ثقافته، وربّما كما يقول في الحوار هنا إنّه دخل عالم الأدب متأخراً وهو في الأربعينيات، ما ساهم في قلة نتاجه قياساً لمجايليه، لكن كتابته القصصية تحديداً تعد نوعيّةً ومغايرةً للسائد من الكتابات القصصيّة الفلسطينيّة لمن هم في جيل أبو علي وحتى لمن جاء بعده، لهذا نالت الكثير من الاهتمام، وقد صدرت له في عمّان مؤخراً الأعمال الأدبية بدعم من وزارة الثقافة ودار مجدلاوي، والتي ضمَّت قصصه وروايته وأشعاره ومقالاته، وتقول سيرته الحياتية والإبداعية بأنّه من مواليد المالحة في فلسطين عام 1937، ولجأ في العام 1948 إلى بيت لحم، وفي العام  1952 جاء إلى عمّان ودرس الثانوية فيها وبدأ في العام 1963 بالعمل في الإذاعة الأردنية، وفي العام 1966 غادر عمّان إلى القاهرة حيث عمل مذيعاً و معلقاً في اذاعة منظمة التحرير، كما درس اللغة و الادب المسرحي في المعهد العالي للفنون المسرحية، واعتباراً من العام 1971 أقام في بيروت وحتى العام 1982 حيث غادر بعدها إلى سوريا ثم  ذهب إلى عمّان ورام الله، وهو يعيش في عمّان حاليّاً ويقدَم بعض البرامج الثقافية في إذاعتها، ويكتب مقالاته الصحفية في الصحف الأردنية، أما مؤلفاته فهي: قطّ مقصوص الشاربين اسمه ريّس 1981 – بيروت،  لا تشبه هذا النمر – مجموعة شعرية أولى – دار الحوار – دمشق 1984 ، ينزع المسامير و يترجّل ضاحكاً – مجموعة قصصية عن وزارة الثقافة في رام الله، الطريق إلى بيت لحم – رواية – القاهرة 1990، تلك الشجرة الجليلة وذلك الانحدار السحيق – سيرة ذاتية ضمن أوراق من عمان الخمسينات،  ذات مقهى – مجموعة شعرية ثانية – عمان 1998 .

هنا حوار حول أعماله الأدبية وتجربته بين الحياة والإبداع :

 –  ما الذي يعنيه لك صدور أعمالك الأدبية بعد ما يزيد عن الثلاثين عاماً من الكتابة وهل هي وقفة لمراجعة الذات أم للاحتفاء بما انجزت ؟

 –   أولاً أنا سعيد جدّاً لصدور هذه الأعمال الخمسة في مجلّد واحد بعد أن صدر كلٌّ منها في بلد عربي تقريباً. فمجموعة (قطّ مقصوص الشاربين اسمه ريّس) صدرت في بيروت عام 1980 و مجموعتي الشعرية (لا تشبه هذا النهر)  صدرت في دمشق عام 1984 أما روايتي (الطريق إلى بيت لحم) فصدرت في القاهرة في أوائل التسعينات من القرن الماضي و لم أحصل منها الا على بضع نسخ، أما مجموعتي القصصية (ينزع المسامير و يترجّل ضاحكا) فنشرت في رام الله في التسعينات أيضاً، في حين صدرت مجموعتي الشعرية الثانية (ذات مقهى) و كتابي (أوراق من عمّان الخمسينات) في عمّان، هكذا صدر كلّ كتاب من كتبي في مدينة. لهذا أحسست أّنني مبعثر أو حتى أشبه ذلك الفرعون أوزوريس الذي قتلوه و قسّموا جسمه في أنحاء متفرّقة من مصر. رأسه في الإسكندرية، وقدماه في الصعيد – إضافة إلى ذلك فإنّ قرائي في بيروت وهم جيل كامل لا يعرفون شيئاً عن كتاباتي بعد خروجي من بيروت بسبب ضعف توزيع الكتب .. الخ،  و كذلك الحال في دمشق. أمّا في عمان فالأمر مختلف إذ أنني أقيم فيها منذ عدت عام 1987 – أي حوالي عشرين سنة. إذن جمعت أوصالي هنا و هناك و قامت أيزيس الخفية ( و لا اعرف من هي في الحقيقة ) وجمعت أوصالي في كتاب واحد، في جسد واحدٍ، في كتاب كنت أود أن اسميه خمسة وجوه للجر … ولكنني خشيت أن أتهم بالمبالغة و المنفخة .

صدور هذا الكتاب و قفة مع الذات أيضاً لتفحص تجربتي، و ربّما محاولة كتابة جديدة تتجاوز ما كتبت حتى الآن و قد شرعت في ذلك فعلا. و أيضاً للإحتفاء بما أنجزت ونفض الغبار عن نفسي علّ ناقداً أو أكثر يعيد لي الاعتبار و المكانة التي استحقها منذ زمن بعيد و حالت ظروف لا أودّ الحديث عنها دون ذلك .

من الملاحظ أنّك كاتب متعدّد الأجناس الأدبية فثمّة رواية وقصص قصيرة وقصائد ومقالات متنوعة في كلّ شيء – جادّة و ساخرة فأين تجد ذاتك كأديب..؟ ولماذا لم تتعمّق في جنسٍ أدبيّ دون غيره؟

 تاريخيا … أي منذ أن كنت طالباً في كلية الحسين بعمان عام 1954 كتبتُ قصّة قصيرة أثارت إعجاب أستاذي الراحل عبدالرحمن الكيّالي وكان عنوانها “البئر” و كان مفروضاً تبعاً  لذلك أن أستمر في كتابة القصّة ولو لعقدٍ أو عقدين من الزمن. لم يحدث هذا و توقفت عن كتابة القصّة كما لو أنّ تلك القصّة في كلية الحسين لم تكن بداية. و كأنّها كانت واجباً مدرسيّاً أنجزته وانتهيت منه، لكن بعد 23 سنة من ذلك التاريخ، وكنت قد أقمت في بيروت، وكان عمري أربعون سنة كتبتُ قصّتي المعروفة “قط مقصوص الشاربين اسمه ريس”، والتي قال لي عنها صديقي رشاد ابو شاور في لحظة صدق وبوح استثنائية بأنّها غيرت مجرى الأدب الفلسطيني كله، وأنّه يكفيني فخراً أنّني كتبت تلك القصة، ولو لم أكتب غيرها لكانت هي كافية. وبعد هذه البداية المشجّعة جداً لم أتخصص أيضاً في كتابة القصة وإنما لزمني الشعر كأداء سريع مكثّف خاطف لشن حرب عصابات شعرية ضدّ كل أنواع الشعر التي كانت رائجة في بيروت في تلك الايام ضمن إطار  مُضمر مجنون بعض الشيء هو محاولتي إحداث ثورة في الثورة عن طريق الثقافة، و قد كان هذا في الواقع هو جوهر فكرة الرصيف .

 

 لننتقل إلى روايتك الوحيدة (الطريق إلى بيت لحم) حدثنا عن تجربتك في كتابتها ولماذا أيضاً لم تواصل توجهك نحو الرواية ؟

–  هذه كتبتها وأنا في دمشق بعد خروجنا من بيروت في أيلول 1982 بعد صمود مديد مشرّف استمر حوالي ثلاثة أشهر و بعد خروجنا كلّ في طريق أحسست أنني اقف في الفراغ وأنّني بدفشةٍ صغيرةٍ سأسقط في هاوية لا قرار لها. عندها استيقظت فيّ روح أجدادي في “المالحة” و خاصّة جدتي لأمي لطيفة اللطفي. جدتي وعرّابتي الأسطورية التي لا تعرف الخوف أبدا، تلك العجوز التي صمدت وحيدة في المالحة عندما هرب منها الجميع – إلى أن اعتقلتها العصابات الصهيونية، و أودعتها في السجن رغم أنّها كانت في التسعين من عمرها. أبداً لن اغفر لهم ذلك..!

أذن استيقظت فيّ روح أجدادي وروح قريتي فاستعدت تلك الأيام في رواية حملت عنوان (الطريق إلى بيت لحم) ونشرت على حلقات في جريدة النهار في عام 1983 –  كانت الرواية  فعل صمود وفعل نبوءة أيضاً إذ أنني وصلت إلى بيت لحم عام 1997 أي بعد أربعة عشر عاماً من كتابة تلك الرواية، والتي كان عنوانها هو النبوءة إذ أن هذا العنوان لا علاقة له تقريبا بالرواية. إذن أنت ترى أن الظروف هي التي حدّدت نوع كتابتي بين فترة وأخرى، وربّما يضاف إلى ذلك نزعتي التجريبية و ضعفي أمام مائدة الإبداع من شعر و قصة و مقال و رواية وحتى مسرحية. أنا ضعيف أمام أنواع الإبداع ضعفي سلة من الفواكه.

من الواضح في قصصك حضور الذات كمركز تدور الأحداث من حوله او كشاهد فهل تعتقد انك استفدت من سيرتك الحياتية و خبراتك اليومية ام ان الأمر مجرد أسلوب أدبي اخترته للتعبير ؟

– أنا كاتب ذاتي تماماً، ولم أكتب إلا نادراً شيئاً خارج هذه الذات، فأنا من هذه الزاوية أنتمي مباشرة إلى مدرسة هنري ميللر التي كانت كتاباته تنويعات او أجزاء من سيرته الذاتية،  طبعاً لا أضع نفسي قريباً من هنري ميللر العظيم، و لكنني أردت أن اقول بأنني أنتمي إلى هذا الخط، و الحقيقة أن كل ما كتبت له علاقة بالسيرة الذاتية إذ إنني كتبت تجاربي وأحاسيسي بأشكال تعبيرية مختلفة، وعلى هذا فأنني أنظر إلى نفسي ككاتب و ليس كمؤلف، المؤلف هو نجيب محفوظ الذي يستطيع أن يشيد عمارة روائية بحسابات ومعادلات و توازنات أنا لا أستطيع أن أولف أو بالأحرى لم أكن بحاجة إلى التأليف، فما عشته و رأيته و عانيت منه يتخطى التأليف. لست بحاجة إلى أن أؤلف رواية، فحياتي نفسها هي الرواية وأنا كتبتها. ربما ليس كما ينبغي و لكن مجمل ما كتبت هو سيرتي الذاتية عينها.

  • تفوح السخرية واضحة من كتاباتك ولا سيما القصص القصيرة فهل تعد نفسك كاتبا ساخرا ؟وهل السخرية نوع من مواجهة العالم وقسوته و التحايل عليه ؟

 نعم السخرية سلاحٌ قويٌ و فعّال وأظن أنها تأتي أساساً من ارتطام المثالي في داخلنا بواقع بائس مريض لا يرجى شفاؤه. هنا إما أن تبكي وإما أن يكون لديك قدر من الكبرياء لا تستطيع أن تتنازل عنه لأنّه شرفك، ولأنه وجودك فتتجلد وتتماسك وفي هذه الأثناء تصبح ساخراً. أيضا يمكن أن يولد حسّ السخرية مع الإنسان، وفي حالتي فحسّ السخرية و الفكاهة و المرح وحتى التهريج أخذته كله من والدتي  الراحلة رتيبة العبدالله من المالحة، والتي كانت لا تقرأ ولا تكتب لكن كان لها ذلك الحس الكاريكاتيري المذهل و تلك الحاسّة النقدية الغريبة.  أخذت كل هذا منها وهي الأميّة، وسأروي عنها هذا الأمر المذهل.  فقد عرفت حقيقة مرتبتي الوجودية في وقت مبكر و في أكثر من مناسبة كانت تقول بأنني أشبه عضو البقرة (( وكانت تستخدم كلمة أخرى مباشرة )) لا في الجلد ولا في العظم. بعد أكثر من خمسين سنة عرفت صواب رأي أمي المبكر في شخصي المتواضع حيث اكتشفت بعد دراسة ذاتي أنني انتمي إلى منطقة ثالثة في كلّ شيء. فكتابتي مثلا ليست ذكورية ولا أنثوية، وربما تكون مزيجاً متوازناً منهما. وكانسان فلست رجلاً بالمقاييس الشرقية للرجولة. لكنني بالطبع لست امرأة وإن كنت أنطوي عن حاسّة أنثوية قوية، ولا ميول جنسية مِثلية لدي للعلم.

  • دعنا ننتقل إلى تجربتك الشعرية فهل توقفت عنها، واستقلت من الشعر لصالح أجناس كتابية أخرى؟ وهل الأمر ينطبق على الرواية أيضا باعتبار أنّك كتبت ونشرت رواية واحدة؟

  • لا أجد حرجا في أن أقول – وقلت ذلك سابقا أكثر من مرة –  بأنني في الأصل كاتب قصّة قصيرة و أظن ان موهبتي تكمن هنا . أمّا الشعر فله حكاية طريفة إذ نشرت أول قصيدة لي في بيروت ربما في عام 1978 و كان عمري أربع و أربعون سنة. الأمر الذي جعل أحد أصدقائي الظرفاء يعلق على هذا الأمر قائلا  الناس تموت في هذه السن وأنت تبدأ بكتابة الشعر .. !

إنّه لأمر عجيب، صحيح أمر عجيب وليس هذا فالكثير مما يتعلق بي يمكن وصفه بأنه عجيب و غير مألوف و غير منطقي أيضا، ولكن هكذا تسير الأمور معي –  وبالنسبة للشعر فيبدو أنني اتخذت قرارا إراديّاً بكتابة الشعر.  قرار إرادي أي أنني قررت كتابة الشعر نظراً لكثافته  كأسلوب حرب عصابات ثقافية و فق نظرية أضرب وأهرب. كنت باختصار أحاول أن أقوم بثورة ثقافية – أي ثورة في الثورة، وربما سبق أن قلت انني كنت أجد الثورة الفلسطينية محافظة جداً في كل شيء. بالنسبة لي حلمت وسعيت في حدود طاقتي الإبداعية إلى إحداث هذه الثورة، ولكن “شارون” لم يمهلنا إذ اجتاحنا بفظاظة مع جيشه المدجّج – لكننا صمدنا في وجهه أكثر من ثلاثة أشهر بعد ان أشهدنا العالم كم كنا شجعاناً وكم كنّا صامدين، لكننا كنا ندرك حتى حدود الشجاعة والصمود.

– حدثنا عن تجربة “الرصيف” في بيروت وماذا تبقى منها اليوم ؟

الرصيف لم تكن مجلة فقط حملت نفس الاسم – وإنما كان أشبه بنظرية مستقبلية حول أسلوب مواجهة عالم سيؤول إلى أن يصبح أحادي القطب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وكنت قد تنبأت في البيان الافتتاحي للعدد الأوّل بانهيار الاتحاد السوفيتي – وهي النظريّة التي أسميها الخطّ الثالث أو الخيار الثالث في علاقتنا في الغرب عموماً على أساس لا قطيعة و لا تبعية وقد ظهرت فيما بعد نظريات في الإطار نفسه من بينها نظرية العقيد القذافي مثلاً. إذن فالرصيف حمل بعدا تنبوءياً وهذا ليس أمراً غريبا فالشاعر أو الفنان هو إنسان رائي بالضرورة يرى ما لا يراه الآخرون.  كنا في هذا الاتجاه ولكن بوسائل وأدوات متواضعة على (قدنا) فلم نكن إلا عدداً محدوداً من الشعراء المتمردين على الحاضر ولكن حالمين بالمستقبل. على الأقل هذا ما كنت أفكر فيه لكن كانت لكلّ منا طموحاته و فهمه الخاص للرصيف.

الان يبدو لي أن العالم يتهيأ ليخرج من حالة القطب الواحد، وإذا ما حدث هذا فإنّ الرصيف يكون قد أدى واجبه خلال الثلاثين سنة الماضية. وعلى كل حال أحس أنّني مقصر في كتابة تجربة الرصيف. فهي تجربة فريدة غنية فكرية إبداعية مستقبلية وضاحكة أيضا إن لعبناها ضاحكين و هازئين و ساخرين كي لا يفتكوا بنا – ومع ذلك لم ننج من هرواتهم، و آمل أن أتمكن من تسجيل هذه التجربة في أول فرصة ممكنه .

 * نشر الحوار في القدس العربي يوم 4-1-2009

رسمي أبو علي: 1937 – 2020

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *