كيف لي أن أنام …!


سميح القاسم *

واضحٌ 

كُلُّ شيءٍ هُنا واضحٌ.. لا غُبار على شُرفةٍ أو ضَبابْ

محنةُ الحلمِ واضحةٌ بتضاريسِها في بلادِ العَذابْ

والمراسيمُ لا تدَّعي سطوةً
واضحٌ.. كُلُّ شيءٍ هُنا واضحٌ كغموضِ السَّرابْ
والألفباءُ مُشرقةٌ في المراثي ومُشرقةٌ في الأغاني
في مثالثها والمثاني
وأنا واضحٌ فوقَ سطحِ الترابِ وتحتَ الترابْ
بينَ فيجنةِ الوالدَين وتفّاحةِ المعرفة
واكتشافاتها المترَفة
واضحٌ
كُلُّ شيءٍ هُنا واضحٌ مثل سطرٍ أخيرٍ سيُنهي الكتابَ
وما مِن كتابْ..
كُلُّ شيءٍ هُنا واضحٌ كغموضِ الوطن
واختلاطِ اللغاتِ على فكرةٍ
شَتَّتَتْها رياحُ الجنونِ ولم يُنْجِها موقعٌ عاقلٌ
في حُدودِ الزمن
واضحٌ
كُلُّ شيءٍ هُنا واضحٌ.
***
قسمتي أنني لا أطيقُ الرِّياء
وأخافُ كثيراً على الأصدقاءِ منَ الأصدقاء
ورضيتُ بما كانَ مِن قِسمتي
أصدقائي الذين على رسلهم يرحلون
واضحون
صدقُهم واضحٌ
والتواءاتُهم واضحة
وانكفاءاتُهم واضحة
وأنا أكتفي بدموعِ الوفاء
ضحكاً أو بُكاء
عندما أقرأُ الفاتحة
والحديثَ الرَّصين
«أُذكروا..»
وأنا واضحٌ مثل دائي الخطير وقلبي الحزين
كَم تمنَّيتُ للإخوةِ الرَّاحلين
طولَ طولِ البقاء
وأنا أذكرُ..
وأعيدُ الحديثَ الرّصين
«أُذكروا..»
حسناً. كُلُّ شيءٍ هُنا واضحٌ
كَرْمَتي غادَرَتْها العناقيدُ. لا نحلَ. ما مِن طيورٍ
تَدِفُّ إلى عنبٍ غائبٍ. نخلتي هَجَرَتْها العثاكيلُ
وانفَضَّ خُفَّاشُها يائساً. وأنا تحت زيتونتي
نائمٌ حالمٌ بهدوءِ الرَّحيل
بعدَ ليلِ الوضوحِ الطَّويل
كُلُّ شيءٍ هُنا واضحٌ..
***
الصّراطُ الذي أشتهي ليس هذا الصراط
المراسيمُ مَرهونَةٌ للجراد
ومصيرُ البلاد
كُرَةٌ بين أقدامِ كُلِّ العِباد
وأنا لاعبٌ مُبعَدٌ. نبذَتْهُ طقُوسُ البلاط
لاعبٌ راهِبٌ فوق مقعدِهِ تحت سقف «احتياط»
قلبُهُ حمأٌ قذفَتْهُ البراكينُ غاضبةً
من قلوب الجمادْ
وأنا لا أُريدُ الحياد
في جَحيمي.. ولا
لا أُطيقُ الحياد
وطني وطني
وأنا وطني
لسْتُ أسطورةً طُرِحَتْ في مزاد
وطني وطني
وأنا وطني
لا مكان هُنا لافتراضٍ ولا لاشتِباهٍ
ولا لاجتهاد
كُلُّ شيءٍ هُنا واضحٌ..
***
وردةُ النار في ياقتي
أتباهى بِها عابراً غير مكترِثٍ بالزِّحام
وَهْيَ ما ظَلَّ مِن باقتي
كُلُّ ما ظَلَّ لي.. والسلام
وأنا حافظٌ عِطْرَهَا
حارِسٌ سِرَّها
مِن حنيني لقصرِ شَبيبٍ.. إلى
شَغَفي برؤى رامتي
وردةُ النارِ في ياقتي
وَهْيَ بغدادُ والشَّام والقاهرة
وَهْيَ بيروتُ والقدسُ والناصرة
وَهْيَ تطوانُ والقيروانُ
وفاتحةُ الذاكرة
وردةُ النارِ في ياقتي
وَهْيَ دُنيايَ والآخِرة
كُلُّ شيءٍ هُنا واضحٌ
كُلُّ شيءٍ هُنا واضحٌ.. واضحٌ..
***
وأنا مَن أنا
عربيٌّ بسيطٌ أنا. وأُحبُّ جميعَ الأُممْ
رغمَ كُلِّ الألَمْ
عربيٌّ بسيطٌ أنا. وأُريدُ السَّلامْ
رغمَ ما كَدَّسوهُ على كاهِلي
واستفزُّوا بِهِ مِعْصَمِي
واستثاروا بِهِ كَاحِلي
عربيٌّ بسيطٌ أنا. وأُحبُّ السَّلامْ
رغمَ ظُلْمِ الغُزاةِ وعسفِ الطُّغاةِ وفوضى الظلامْ
عربيٌّ بسيطٌ أنا.. وكلامي وُضوحُ الكَلامْ
عربيٌّ بسيطٌ أنا
وبلادي حلالي أنا
ومَقامي هُنا
ورحيلي هُنا
ونشوري هُنا
وأنا
فوقَ ظهري صُخورٌ ولكنَّهُ ما انحنى
ما انحنى
ما انحنى
وأنا واضحٌ..
كُلُّ شيءٍ هُنا واضحٌ..
***
كيفَ لي أنْ أذوقَ الطعامْ
والملايينُ حرمانُها خبزها
والدُّموع الإدامْ
كيفَ لي أنْ أنامْ
والملايين في الصَّهد والبردِ والشوكِ فرشَتُها
والمآسي خيامْ
والأماني صيامْ
كيفَ لي أنْ أعيشَ الهدوءْ
ناعماً بالصَّلاةِ وطُهرِ الوضوءْ
والملايينُ مقهورَةٌ باللجوءِ وَرَاءَ اللجوءْ
كيفَ لي أنْ أُطيق
كُلَّ هذا الجنون وهذا العذاب وهذا الحريق
حسناً،
أيُّها الجسدي فاحترِقْ
ولتُضئ عَتَماتِ الطَّريق
وليكنْ كُلُّ شيءٍ هُنا واضحاً
كُلُّ شيءٍ هُنا.. واضحٌ..

• من مجموعة شعرية بعنوان «بِغَضّ النظر»، تصدر للشاعر قريباً.

– الرأي الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *