قصّة “تركة الأيام الثقيلة ” لعدي مدانات

(ثقافات)

 

 “تركة الأيام الثقيلة ” لعدي مدانات

   كان صوت  التلفاز على خفوت، حين أفاق سالم مسلّم الشامي من نومه صباح يوم عطلته، وخرج إلى صالة الجلوس. اقترب من التلفاز ونظر. كانت محطة الجزيرة تعيد بثّ أخبار اليوم السابق مصحوبة بالمشاهد نفسها، المظاهرات الحاشدة والهتافات المدويّة ، في سورية وليبيا واليمن، وفي المقابل أصوات الرصاص، وهدير الدبابات، وصور القتلى والجرحى، فأشاح عنه ممتعضاً. كانت آثار النوم الطويل ظاهرة على وجهه، وبدا كأنه تخلّص من تركة الليل الثقيلة، وأخذ قسطه من الراحة، وليس في نيّته تكرار انفعالاته معها.

   أطفأ التلفاز واتّجه إلى الحمام وأفرغ مثانته، ثمّ غسل يديه ووجهه وحدّق بنفسه في المرآة المثبتة فوق المغسلة، هابطا بنظره من شعره الأجعد الذي ازداد طولاً وبياضاً وفوضى، إلى صدره المكشوف بارز العظام، وذراعيه الناحلتين. بلّل شعره بالماء ثمّ دفع أصابعه لتتغلغل فيه. خرج من الحمام وعاد إلى الصالة. كان النوم يفرض سيطرته على المنزل، فالحركة منعدمة فيه. غرف النوم مغلقة على أبنائه النيام، وزوجته في غير مكان. جلس رافعاً قدميه على طاولة الوسط، وما لبث أن نهض وأعاد تشغيل التلفاز. تنقّل بين فضائيتي الجزيرة والعربية، فما أتتا بجديد، فأطفأه مرة ثانية، متجنّباً ضجيج الهتافات وأصوات الرصاص، فما يُمسي عليه مع الأخبار يُصبح عليه، مع أنّه ليس منشغلاً بالسياسة وأسرارها الغامضة، ولكنّه لا يتقبّل أن يتعرّض الناس لهذه القسوة المُبرحة، لمجرّد أنّهم خرجوا إلى الشوارع للتظاهر، مُفترضاً أن لديهم ما يشكون منه، وما هو أشدّ إيلاماً من الرصاص القاتل، وهو ليس أكثر من موظف في دائرة حكوميّة لا تهدأ حركة العمل فيها طيلة ساعات الدوام، حتى إنّه وزملاء العمل لا يجدون الوقت الكافي لتداول الكلام في شأن متشعّب المسالك، أو إنّهم يتجنّبون الحديث في مواجهته، جهلاً منهم بجانب من يصطّف، بوصفه سوريّاً، وإن فعلوا يعبّرون عن حيرة وعدم يقين. هو ليس سوريّ الجنسية، وإن حملت عائلته اسم عاصمتها المتداول شعبيّاً، فهذه التسمية تنسحب على كثير من الأسر المختلفة، لجذور تاريخية واحدة.

   قال لزوجته قبل أن يأويا إلى الفراش، وبعد أن تنقّلا من نشرة أخبار إلى أخرى :

  ــ  هل يُعقل أننا فقدنا الإحساس بقيمة الحياة حتى بتنا نشاهد صور القتل بأبشع حالاتها، ثمّ نأوي إلى الفراش، كأنّ شيئاً قاسياً ودامياً وبشعا لا يحدث!

أجابته :

 ــ كأن النوم استراحة محارب بين معركتين.

   وهذا ما حصل فعلاً، فقد سبقته لمغادرة الفراش وشغّلت التلفاز، ولكنّها على خلافه تمتلك القدرة على الابتعاد عنه، وتمضي في أعمال منزلها التي لا تنتهي. خرج إلى الباحة المخضّرة شحيحة المساحة حيث اعتادا الجلوس في أيام العطل مع قهوة الصباح ولا يتبادلان الكثير من الكلام، فما يدّخره كلّ منهما بصدره يتأخّر في الإفلات من معقله، ما يجعل من تلك الجلسة على صغرها واحة هدوء. كانا يلتفتان إلى وريقات النبتات الجديدة المتفتحة، أو التي في طريقها إلى التفتّح، كما يلتفتان إلى النمل المتوزّع في الأرجاء في نشاطه الصباحي، ويستطيبان النسمات الباردة، ويصغيان إلى هسهسات الصباح الخافتة، فينهل كلّ منهما قدراً من الهدوء المحيط ما يطيّب خاطريهما، وما يغيّب عنهما أوزار الأيام السابقة. يغيّب صور الصدامات التي تزعجه من كلّ الأنواع، صدامات مع رئيس الدائرة المتعجرف الذي هبط عليه من فضاء مجهول، كما هبط آخرون على سدّة الحكم، صدامات مع سائقي السيارات الذين يحشرون أنفسهم بين السيارات ويتنّقلون من مسرب إلى آخر في مجازفات خطرة، صدامات المجاورين في السكن، بين من يُطلق أصواتاً مزعجة، وبين من يطلب حصّته من هدوء الليل.

    ليست الصدامات وحدها ما تعمل على تعكير صفوه، وإنما أيضا الخيبات من كلّ الأبواب، خيبته من سياسة الإدارة بالكيل بمكيالين، فيُمنع عنه ما يُمنح لغيره، خيبته حين تضيق عليه الوحدة، فيتّصل بالأصدقاء واحداً واحداً ، ولا يُحظى منهم سوى بكلام لا يحمل الدفء المرتجى، خيبته وهو يتصفّح الصحيفة ويكتشف أن الفاسدين أفلتوا من المساءلة، خيبته حين يعود إلى المنزل، فيجد أن زوجته التي أضناها التعب، لم تُعدّ وجبة طعام للعائلة، ما يكلّفه عناء العودة ليبحث في المحال التجارية عمّا يؤكل. ليس هذا فحسب، فهو يدّخر واجباته العائلية كلّها بيوم عطلته، ما يجعل يوم عطلته قصير، يقضيه في تنقّلات مُضنية.

    أمِل أن يجدها على صفو النفس الذي يماثل صفوه. لم تكن في الباحة، فعاد واتجّه إلى المطبخ وهناك وجدها جالسة واجمة في ضوئه الخافت، فلم تُشعل الضوء أو تُزح ستارة النافذة ليدخل ضياء النهار، وهو سلوك مُحبط في كلّ الأحوال. ألقى عليها تحيّة الصباح وجلس قبالتها، ولكنّها عوضا عن ردّ تحيته بمثلها، شرعت من فورها في سرد ما فاته من أخبار محطات التلفاز :

   ــ الطفل ابن الثالثة عشرة الذي تلقّى طلقة اخترقت رأسه، صار حيّاً ميتاً، ” موتاً سريرياً”. كان يسير في جنازة مع غيره وهذا كلّ ذنبه.

    نفرت دمعة في عينها، وتابعت :

  ــ في البحرين اصطادوا طفلا في مثل عمره، كم كفن يكفيهم ليخرّ آباء وامّهات وأعمام الأطفال ساجدين شاكرين نعمة القتل؟ وفي ليبيا قتل جنود القذافي أسراهم، ومن كانوا معهم ولم يعودوا ينفعونهم، وفي اليمن حصد الرصاص عدداً من الأشخاص، وفي لبنان قتل رجل ستة من أفراد عائلة شقيقته وبينهم طفل، لخلاف على قطعة أرض. ما الذي يحدث هذه الأيام، حتى تحوّل البشر إلى وحوش؟

   تركها تتابع مسلسل الأخبار الكفيلة بأن تجعل من الصباح جحيماً، ووقف ليصنع قهوته آملاً أن تكفّ عن الحديث، فلديه اليوم بطوله لسماع مثل هذه الأخبار. أزاح الستارة، ثمّ فتح النافذة على وسعها وعاد ليجلس قبالتها. كفّت عن الحديث، فتهيّأ له أّنها أفرغت ما لديها، فأخذ بدوره الحديث :

   ــ خطر ببالي أن نخرج مع الأولاد في رحلة، مجرّد مشوار في السيارة نستمتع بالهواء الطلق ونرى المرتفعات المكسوّة بالأشجار، أنا لا أشاهد إلاّ أشجاراً بائسة متفرّقة.

 قالت:

   ــ وهذه أيضا مهدّدة بالقتل.

    لاحظ أنّ القهوة شرعت في الغليان، فنهض وأطفأ شعلة الغاز وعاد وجلس، ثمّ تابع :

  ــ تذكرين، حين كانوا صغاراً كنّا، نأخذهم في رحلات.

    نهضت وأحضرت ركوة القهوة وفنجانين، وفيما كانت تسكب، قالت :

  ــ في يوم الجمعة تشتعل الساحات وينفجر الغضب.

    تجاوز ملاحظتها وتابع :

  ــ قد نتناول وجبة خفيفة، أرغفة شاورما وعصير.

    قالت :

  ــ وسيسقط المزيد من الضحايا.

    حطّ عصفور على حافة النافذة، فأشار إليه وقال :

 ــ عصفورك الفلسطينيّ.

     شاركته النظر وقالت :

  ــ والصهاينة يقتلون الفلسطينيين والأنظمة العربية غير معنيّة.

     أنهى قهوته ونهض. سألته :

   ــ أين تذهب؟

   ” لأشاهد الأخبار” أجاب وهو في طريقه إلى صالة الجلوس، وما أن بلغ باب المطبخ حتّى صرّحت بوجعها الخاص حصيلة مهاتفات الأمس :

  ــ أختي سقطت عن السلّم، ارتطم ظهرها بالأرض ورأسها بزاوية المقعد فشُجّ. أخذوها إلى المستشفى ومن واجبنا زيارتها. ابنة أخي فشلت في امتحان قيادة السيارة للمرّة الثالثة ومن شدّة غضبها أسمعت لجنة الفحص كلاما نابيا فاحتجزوها، وأخي هناك الآن لمعالجة الموقف. ابنك صدم سيارته وانبعج الباب من جهته، أنت كنت نائماً ولم تعرف، وأنا لم أستطع النوم. الحمد لله على سلامته، في المال ولا في العيال.

    عاد وجلس.

    جاء ابنه فيما كان هو يتخيّر ما يقول، وضع يديه على إطاري الباب، وقال :

  ــ الرصاص يلعلع، خمسة قتلى حتى الآن في الربيع العربي.

     تفحّصه وقال :

  ــ الحمد لله على سلامتك.

              ثمّ رشق بقيّة قهوته على الجدار، ونهضت الأم لتنظيفه.

                              *************************

 نقلا عن مجموعة تحمل اسم القصة  صدرت العام 2013 عن الدار الأهلية في عمان بدعم من وزارة الثقافة الأردنية.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *