مفهومُ التمثيل في مشرع إدوارد سعيد النقديّ

مفهومُ التمثيل في مشرع إدوارد سعيد النقديّ

د.رشيد وديجى*

إنَّ الحديث عن مفهوم التمثيل عند إدوارد سعيد، هو حديثٌ عن أهم المفاهيم الفكريّة الحديثة،  والتي تغلغلت بشكلٍ عميق داخل ثنايا المشروع النقديّ لإدوارد سعيد، مما أضفى أهميةً كبيرة على تحليلات إدوارد سعيد الاستراتيجيّة للظواهر الثقافيّة المعقدة كـ(مفهوم الهُوية، والثقافة، والسلطة، والامبرياليّة، وعلاقة “الأنا” بـ”الآخر”، وكذا مفهوم التمثيل…)، وذلك خاصّة في كتابه ” الاستشراق” الذي كما وصفه كمال أبو ديب بأنّه ” على درجة مدهشة من حدة اللمعة الفكريّة، ونفاذ الحدس، وجوهرية التحليل، لأسئلة جذريّة في الثقافة والإنسان، أسئلة تدور حول مفاهيم ” الحقيقة ” و” التمثيل”، القوة وعلاقات القوة، وعي الذات والآخر؛ حول التصوّرات التي ينميّها الإنسان لذاته وللعالم، والتمييزات التي يقيمها بينه وبين الآخر” . مما جعل مشروع إدوارد سعيد النقديّ – سواء في كتابه “الاستشراق” أو في أعماله الأخرى خاصّة منها “الثقافة والامبرياليّة”- يتميز بـ”الشمول والتقصّي، وقوة الربط بين المرجعيات وتمثيلاتها الخطابيّة” .

إلا إنَّ القضية الفكريّة والمعرفيّة التي لازمت “سعيد” طوال تجربته الفكريّة والنقديّة الحافلة بالأحداث الشائكة والمواجهات السياسيّة والمعرفيّة المعقدة، هي “قضية التمثيل”(Représentation)، ذلك لأنَّها شكّلت في أغلب أعماله النقديّة البؤرة الأساس، إضافةً أنّها لا تنفصل عند “سعيد” في شيء عن “قضية(الأنا) و (الآخر)” وهي قضية ملتبسة طرحها دائمًا لأنّها شكّلت عنده “صلب موضوع الهُوية الثقافية” .

     إنَّ المقصود بمفهوم التمثيل في معناه العام عند إدوارد سعيد، هو “الكيفية التي يقوم بها الخطابDiscoursبتمثيل المرجعيات، ثم أثر ذلك “التمثيل” في صياغة وعي اختزالي بتلك المرجعيات بما يجعله ينتقي ما يوافقه منها” .

بعبارةٍ أخرى، التمثيلُ هو الطريقةُ التي يعمل بها الخطاب في تمثيل مرجعياتٍ معينة لخدمة مرجعياتٍ أخرى، بما في ذلك التمثيل من تنميطٍ واختزالٍ وإقصاءٍ… لوعي المرجعيات الممثلة.

وللتدليل على أهمية مفهوم التمثيل عند إدوارد سعيد نجد هذا الأخير يبرهن في كتابه “الاستشراق” على هذه الأهمية؛ ذلك لأنَّ إنتاجَ المعرفة الاستشراقيّة وممارستها مبنيٌّ- حسبه- على أساس “التمثيل الرغبوي” للشرق بحيل خطابيّة استجابت للرؤية الغربيّة للعالم، وهذا الأمر، دفعته رغبةٌ في إنتاج شرقٍ يطابق مواصفات الغربي وتصوراته وبنيته الثقافية العامة، فأفضى ذلك إلى اختلاق شرق موافق للرغبة أكثر مما هو مطابق للحقيقة…” .

أمَّا في كتاب “الثقافة والإمبرياليّة” نجد إدوارد سعيد لا يكتفي بالبرهنة على قضية وجود مفهوم التمثيل في الإنتاجات الثقافيّة الغربيّة، كما لا يكتفي بتحديد العلاقة الوثيقة بين السرد الروائيّ الغربيّ والمصالح الإمبراطوريّة (الإنجليزيّة والفرنسيّة) الاستعماريّة في الشرق، بما في ذلك من تشكيلات ثقافيّة وإيديولوجيّة واجتماعيّة معقدة، بل قام إدوارد سعيد – في كتابه سالف الذكر – بتوسيع “وظيفة التمثيل” لأنَّها ستسعفه في كشف وتحليل “التواطؤ الذي هو نتاج التفاعل والتوازي بين نشأة الإمبراطورية الاستعماريّة وتطوّرها وتوسّعها، ونشأة الرواية الحديثة واكتمال خصائصها النوعيّة، وقد انبثقت أهمية “التمثيل” هنا، في أنّه ركّب صورةً نمطيّةً ومشوّهةً ل”الآخر” الذي هو موضوعٌ مشتركٌ لكلٍّ من الاستعمار والروايّة. فالمستعمِر والخطاب الروائيّ أنتجا صورةً رغبويّةً لـ”المستعمَر” وافقت منظومة القيم التاريخيّة والفنيّة التي ينتميان إليها” .

وهذا سيجعل الأبعاد الكبرى لقضية التمثيل عند إدوارد سعيد تزداد قوةً وحيويّةً، ذلك لأنَّ تضافر الإمبريالية والرواية الحديثة في تمثيل هوية “الأنا” أي (الذات الغربيّة) مقابل هُوية “الآخر” غير الغربيّ(الشرقيّ)، قد أنتجا وضعًا إشكاليًا مزدوج الفعاليّة في ما يتعلق بتمثيل الذات والآخر. يقول عبد الله إبراهيم في طرح إدوارد سعيد إشكالية التمثيل: “ففيما يخصُّ الذات أنتج “التمثيل” ذاتًا نقيّة، وحيويّة، وبذلك ضخّ مجموعةً من المعاني الأخلاقيّة على كل الأفعال الخاصّة بها، وفيما يخصُّ الآخر أنتج “التمثيل” آخر شابه التوتر والالتباس والانفعال أحيانًا، والخمول والكسل أحيانًا أخرى” .

وبهذا، يكون قد خلق “التمثيل” وضعًا متباينًا بين الذات والآخر، لدرجة معها انتفت عنه بشكلٍ مطلق كلُّ المعاني الأخلاقيّة، والعلميّة الموضوعيّة مما “أفضى إلى ظهور متوالية من التعارضات التي أعطت شرعيّة أن يقوم الطرف الأول باختراق الثاني، وتخليصه من الخمول حتى لو اقتضى ذلك الغزو أو الحرب” .

      وبناءً على هذا تكون “آلية التمثيل” بكلِّ أشكالها وألوانها قد جعلت “الذات” محصنةً ومنزهةً عن كلِّ معاني الخمول والكسل والتخلف والتصرفات العاطفيّة التي تتنافى مع مقومات التطوّر والتحضّر، كما جعلت من “الآخر”- بالموازاة – كائنًا مهمّشًا ومقصيًّا ثقافيًّا وحضاريًّا وحتى إنسانيًّا، وكل هذا كان من نتائج ما يُسمّى بثقافة التمركز حول الذات؛ ذلك لأنَّ “ثقافة التمركز” تُعدُّ المظهر الأبرز الذي يسم الثقافة الغربية الحديثة، هذه الأخيرة التي “تشكّل صرحُها إبّان الحقبة التاريخيّة التي عني بها كتاب «الثقافة والإمبرياليّة»” .

وبالرجوع إلى قضية التمثيل التي طرحها إدوارد سعيد بشكل علائقي موسّع شمل “جهات جغرافيّة أوسع في العالم تتجاوز الشرق، كما يشمل حقول بحثٍ وإبداعٍ كالرواية والشعر، دارسًا في هذا الكتاب التحليليّ الواسع الاطلاع والمعرفة، علاقة صعود الرواية وتطورها بالتوسع الإمبرياليّ” .

الأمر الذي سيدفع إدوارد سعيد أثناء قراءته للإنتاج الروائيّ الغربيّ، إلى عدم ربط الفضاء الروائي بمكوّناته الفنيّة، “ربطًا آليًا جامدًا- كما رأينا مواصفاته في النقد البنيويّ- بل يربط ربطًا حيويًّا خلّاقًا جماليًّا، كما هو الشأن دومًا عند النقّاد الجدد” ؛ وذلك من أجل توضيح الكيفية التي تتجسّد بها الروابط في بنية الرواية الغربيّة وآليات تشكّلها، لكن دون أن يعني هذا أنَّ ما سيقدمه “سعيد” من تحليلات للروايات الغربيّة خاصّة الحديثة منها، هو مصادرة على المطلوب؛ لأنَّ “مشروعه النقديّ لا يظهر أبدًا على أنّه صاحب نتائج جاهزة، وتكاد تكون إحدى أهم مهاراته المنهجيّة تتجلّى في قدرته على مخض البيانات والمعطيات التي يشتغل عليها، ثم استخلاص المضمرات الأساسية الكامنة خلف مجموعة من الأحداث والوقائع المندغمة في الأساليب والأبنيّة…” .

 وبناءً على هذا يكون الغرضُ الجوهريُّ من مشروع “سعيد” النقديّ واضحًا، ألا وهو الكشفُ عن الظواهر الكامنة في السرد الروائيّ الغربيّ، وما ينطوي عليه هذا الأخير من مقاصد ودلالات تكون في أغلب الأحيان مضمرةً تحت خطابات لطالما كانت- حسب سعيد- متورطةً، أيّما تورّط في تمثيل وصياغة وعي الآخر غير الغربيّ، وفق تصوّر نمطيٍّ اختزاليّ يختلف بالضرورة مع التصوّر (الموقف) الذي صاغته الثقافة الغربيّة لنفسها في إنتاجاتها الأدبيّة خاصّة الروائيّة منها.

من المعروف أنَّ إدوارد سعيد كان ينطلق في دراسته للأدب عامةً، والرواية خاصةً من نظرته الواقعيّة، والتي ستقوده في ما بعد إلى ابتكار عدة نظريات؛ من أهمها في هذا السياق نظرية “دنيويّة النصوص”؛ ذلك لأنّها كما تقول سامية بن عكّوش: “تقف معارضة للنّظريات الما بعد حداثيّة التي تغرق النصوص الأدبية في تجريديّة نظرية، وتعزلها عن سياقها المنتج” .

إلا إنَّ ما يجعل من تصوّر إدوارد سعيد الواقعي للأدب، تصورًا أكثر جرأةً هو ربطه “النصوص الروائيّة التي أنتجها الغرب في الفترة الكولونياليّة بالظروف السياسيّة، التي امتازت بإرادة القوة والملكية والهيمنة للغرب على الشرق، أي ارتباط الرواية الغربيّة بالسّلطة” .

لقد كان القصد من ربط النصوص الروائيّة بالظروف السياسيّة والاجتماعيّة التي أنتجتها، عند إدوارد سعيد، هو تفكيك خطاب الرواية الغربيّة، وقد استند “سعيد” في هذا على استراتيجيّة “القراءة الطباقية”، والتي ابتكرها في كتابه “الثقافة والإمبرياليّة”، وذلك لكشف “التمثيلات الذهنيّة للغرب عن الآخر، وارتباط الثقافة الغربيّة بالإمبرياليّة في مرويات الغرب الحديثة” .

سبقت الإشارة إلى أنَّ إدوارد سعيد قام في كتابه “الثقافة والإمبرياليّة” بتوسيع مفهوم التمثيل خاصّة في علاقته بالرواية الغربيّة الحديثة، إلا أنَّ ما نريد إضافته هنا هو أنه قدّم أيضًا في الكتاب نفسه نماذجَ روائيّةً غربيّةً (رواية “كبلنغ” و”كونراد” و”جين أوستن”…)، والتي عمل على تحليلها واستنطاقها، ليدلّل على وجود تمثيلات ذهنية غربية مرتبطة بالمشروع الإمبريالي الغربي في الشرق.

إنَّ تحليلاته للروايات الغربيّة خاصّة رواية “كونراد، وكبلنغ، وديكينز، وكامو، وأستين” وغيرهم، أوصلته إلى كشف كل المصادرات الخفيّة التي قامت بها الرواية الغربيّة وهي تصوغ الآخر غير الغربيّ، وهذا ما يؤكّد أنَّ “الرواية لم تنج من الضغوط التي مارستها المؤثرات السياسيّة والاجتماعيّة، إنَّما هي أسهمت في إضفاء شرعيّة على الوجود الامبرياليّ، في اختزالها الأفريقيّ أو الآسيويّ أو الأمريكيّ اللاتينيّ أو العربيّ إلى نموذج للخمول والكسل واللامبالاة، فيما صوّرت أراضيهم على أنّها خالية، وبحاجة إلى من يقوم بإعمارها ” .

يبيّن هذا سقوط الرواية الغربيّة تحت تأثير الثقافة الإمبرياليّة، التي أضفت الشرعية على وجودها في كل مستعمراتها خاصّة الشرقية، بفضل الكتابة الروائيّة التي اختزلت دائمًا الآخر غير الغربي، سواء كان هذا الآخر عربيًّا أو أفريقيًّا أو آسيويًّا…، في تمثيلات لا أخلاقيّة تنم جلّها عن دونيّة وضعف الآخر (غير الغربيّ) الأمر الذي سوّغ تاريخيًّا كلَّ أشكال الاستعمار التي تعرض لها هذا الآخر.

من خلال ما تقدم، فإنَّ طرحَ إدوارد سعيد لقضية التمثيل، مرتبطٌ بعدة قضايا أهمها؛ علاقة صعود الرواية الغربيّة الحديثة بالتوسع والامتداد الجغرافيّ الامبرياليّ في كل من إفريقيا وآسيا، بما في هذه العلاقة من تواطؤ ينمُّ عن حضور ما هو امبرياليّ استعماريّ في ما هو روائيّ، وهو ما يؤكّد أنَّ “الرواية لدى سعيد شكلٌ ثقافيُّ الأهمية، قبل أن تكون شكلًا أدبيًّا لما تمتلكه من خصوصيّة نوعيّة، تنفتح على استيعاب المنظور الحواري القائم على تعدديّة وجهة النظر، والإشارات والتجارب، وتلوّنها بآفاق مختلفة في طبيعة استيعاب الرؤى” .

الهوامش:

 – ادوارد سعيد، الاستشراق، المعرفة، السلطة، الانشاء، ترجمة، كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط 7، 2005، ص: 2.
 – عبد الله إبراهيم، الهوية، والسرد، والإمبراطورية اشتغال مفهوم التمثيل عند إدوار سعيد، ضمن كتاب ادوارد سعيد: الهجنة، السرد، الفضاء، تأليف مجموعة من الأكاديميين العرب، ابن النديم النشر والتوزيع، دار الروافد الثقافية، ناشرون، ط1، 2003، ص: 73.
 – المرجع نفسه، ص: 73.
 -نفسه، ص: 74.
 -نفسه، ص: 74.
 -نفسه، ص: 74.
 -نفسه، ص :76.
 -نفسه، ص: 76.
 -نفسه، ص: 76.
 – حفناوي بعلي، آفاق الآداب المقارن العالمية في تصور الناقد ادوارد سعيد، ص: 16 (بتصرف).
 -المرجع السابق، ص: 20.
 -عبد الله إبراهيم، الهوية، والسرد، والإمبراطورية اشتغال مفهوم التمثيل عند إدوار سعيد، مرجع مذكور، ص: 76.
 – سامية بن عكوش، الطباقية أسلوب للتواجد والمقاومة في فكر إدوارد سعيد، مرجع مذكور، ص: 149.
 – نفسه، ص: 150.
 -نفسه، ص: 154.
 – عبد الله إبراهيم، الهوية، والسرد، والإمبراطورية اشتغال مفهوم التمثيل عند إدوار سعيد، مرجع مذكور، ص 78.
 -حفناوي بعلي، آفاق الأداب المقارن العالمية في تصور الناقد ادوارد سعيد، مرجع مذكور، ص: 19.

*أكاديمي من المغرب

Oudija1979@hotmail.com

(عن مجلة أفكار – وزارة الثقافة الأردنية)

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *