داء الإنغلاق على الذّات الذي لا دواءَ لهُ

(ثقافات)

“داء الإنغلاق على الذّات الذي لا دواءَ لهُ “

أزهر طوالبة

‏هُناكَ ثمّة فَرق كبير في الماهية بينَ مَن يُحاول أن يقومَ بليّ عُنقِ الواقِع وإعادَته إلى الخَلف بطريقةٍ مُرعِبة ومُثيرة للإستغراب والتعجُّب، وبينَ مَن ظنَّ أنّهُ مِن تيّار القوى الواعية، وعكفَ على قراءة الواقِع، لكنّهُ، لَم يقُم بقراءة الواقِع بالطريقة الصّحيحة، التي تمكِّنهُ ‏مِن تفسيرِ الواقع تفسيرًا منطقيًّا عقّلانيّ، يكونُ حقًّا مُنبثِقًا عَن شخصٍ واعٍ، ويملِك ولو القليل مِن الإطلاع على حيثيّاتِ الواقِع .

فالأوَّل، قد يكونُ يحمِل فكرًا دينيًّا أو أيديلوجيًّا مُعيّنًا، يرزَح وبشدّة تحتَ وطأة الفِكر الذي يقول فيه قاسم أمين “مِن الغفلة، بل مِن أسباب الشَّقاء أن تكون شؤوننا في حياتنا قائمة بعوائدٍ لا نفهم أسبابها، ولا نٌدرِك آثارها في أحوالنا، بل إنّما نتمسَّك بها ؛ لأنّها جاءت إلينا ممن سلفنا، و ورثناها عمّن تقدّمنا”..أمّا الثّاني، فقَد يكون مُتبنّيًا لمنهجيّة ‏التّجارب، ومُتجاهلًا كُلّ المحطاتِ النظريّة التي تسّبقها، والتي هي بالأساس، يجِب أن تعامل كأعمِدة رئيسيّة لمثلِ هذه التّجارُب، بمعنى، أنّها بحاجة لقراءة حصيفة ودقيقة، قبل اتّخاذ قرار الولوج إلى عالَم التّجارُب، التي لا تحمِل منضدتها معيارًا هامشيّ .

وعلى الرّغم مِن كُثّرة أوجُه ‏الإختِلاف، وتعدُّد الفُروقاتِ الجوهريّة الواضحة بينَ الطّرفين، واستحالَة إلتقائهما، إلّا أنّنى أرى، أنّ المُحصّلة المرجوّة لكُلٍّ منهما ؛ هي القَفز مِن فوقِ أسوارِ الواقِع، وحصرهِ في بوتقةٍ ضيّقة، بل ضيِّقة جدًا، وهذا ما يبدو واضحًا وجليًّا، وفقًا لإنتماءاتهما، وبُنات أفكارهما.

فكُلّ يوم يتّضِح لي، بأنّ إحدى أبرَز المٌشكلات التي تجّعلنا متقوّقعينَ على ذواتنا، وصارفينَ أُنفُسنا عمّا ينشَغِل به العالَم في ميادين التطوّرات العلميّة، وفي حقولِ التقدُّم الفكريّ، سابحينَ في حالةٍ مِن الهذيانِ المُطلَق ؛ هو عدَم قُدرتنا على أن نُمرِّن أنفُسنا على الإطلاع على ‏ما يأتي بهِ الآخر، أو مُحاولة فِهم كيفيّة ما أتى بهِ الآخر مِن علمٍ أو فكرٍ مُعيّن، ولا سيّما توجّسنا مِن التّشابُك في مسائلٍ مُهمّة، يكون أحد أطرافها مُختَلفًا معنا عقائديًّا، أو مُتخلّخِلًا في إيمانهِ حسبَ ظنِّنا.

وهذا، وبكُلّ صِدق، ما أراهُ سببًا وجيهًا في عدَم تمكُّننا، بل في قصورنا على فهم ذواتنا بالطريقة الصّحيحة، التي تجّعلنا في تصالُحٍ دائمٍ معها، دونَ الحاجة لخوضِ اشتباكاتٍ مؤرِّقة، نخرُج في الأغلبِ منها، ونحنُ نجرُّ أذيالَ الخيبة والهزيمة خلفنا.

 فحالات القُصور هذه، تكمُن في خوفنا مِن الإطلاع على ما هو مُناقِض لنا، ممّا يجّعلنا مِن أحدِ سُكّان ‏أقبيَة الخوف، مُتناسينَ أنّهُ إن أردنا أن نعرِف أنفُسنا على حقيقتها، فلا بُدَّ لنا مِن كسرِ حواجزِ الخوف والتوتُّر مِن الإطلاع على الأفكار المُناقضة لأفكارنا التي نتبنّاها، وخاصةً تلكَ الإيمانيّة منها، فمِن المُستحيلِ أن تكونَ صاحبَ إيمانٍ هَش لهذه الدّرجة، حتى يُبدِّده اطلاع، بل يُبدَّد قبل الإطلاع أصلًا.

ولذا، دائمًا ما أقول، بأنَّهُ : ” قَد نقِفَ عندَ مُفتَرق طُرق، ولا يكون بإمكاننا أن نختارَ طريقًا لنسّلُكَهُ، وذلكَ ليسَ لعيبٍ يُذكَر في أيٍّ مِن هذه الطُرقات، بل لأنَّنا لا نملِك الجُرأة الكافية التي تُمكِّننا مِن أن نختارَ قرارًا كهذا…أو نعلَم ما الذي يُفقِدنا هذه الجُرأة؟!

وبكُلّ بساطة..الإجابة هي : عدم فهمنا لأنفُسنا.

فالمُجتمَع/الشّعب/الأُمّة وكُلّ مَن لا يفهَم نفسهُ، لن يكونَ بإمكانهِ أن يختارَ طريقًا لحياتهِ ليسلُكها ؛ حتى وإن كانَت كُلّ الطُرقِ أمامهُ مُعبَّدة، وفيها مِن التّنظيمِ ما لا يوجَد عندَ غيره.

لذا، لنَعرفَ مِن أينَ تبدأ مسيرتنا على طُرقِ/طريق حياتنا التي نُريد ؛ فعلينا أن نفهمَ أنفُسنا أوّلًا، ومِن ثمّ نختَر أداتنا…وبغيرِ ذلك، سنبقى مُقيمينَ في نفقِ “الإنغلاق على الذّات”، ولَن نتمكَّن مِن أن نصلَ الضّوءَ في يومٍ ما.

شاهد أيضاً

الكتابة الخضراء.. الفلسفة والبيئة!

(ثقافات) الكتابة الخضراء.. الفلسفة والبيئة! ساسي جبيل   يقول الكاتب الأميركيّ ريتشارد لوف: «بوسع طفل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *