حكايات من جنازة بوتشي”.. السرد وتفكيك أنساق الفكر المتطرف

(ثقافات)

حكايات من جنازة بوتشي”.. السرد وتفكيك أنساق الفكر المتطرف 

د. أيمن حماد

تصور رواية” حكايات من جنازة بوتشي” للكاتب الكبير أحمد صبري أبو الفتوح، والصادرة عن دار ميريت في العام٢٠٢١، العلاقة بين الشرق والغرب والاختلاف في المعتقد والعادات والتقاليد بين هاتين الحضارتين اللتين سعى كثير من المبدعين والكتاب العرب إلى البحث عن روحانية تجمع بينهما، كما فعل توفيق الحكيم في رواية “عصفور من الشرق” (1938) وسهيل إدريس في “الحي اللاتيني” (1965)، والطيب صالح في “موسم الهجرة إلى الشمال (1966)، وسليمان فياض في “أصوات” “(1972)، وغيرها من الروايات التي تصور سردية التقاطب الحضاري بين الشرق والغرب.

    يغزل أحمد صبري أبو الفتوح على ذات المنوال ولكن برؤية مختلفة وسرد شاعري شفيف، ولغة رشيقة تصور الأحداث عبر تخييل روائي جذاب، بحيث يظل المتلقي (أو القارئ) متشوقاً لمتابعة الأحداث إلى نهايتها، دونما انقطاع.

     وإذا كان ثمة تشابه بين هاته الرواية وبين ما سبقها من الروايات المشار إليها، من حيث تصوير الاختلاف بين حضارتي الشرق والغرب من خلال شخصية بطل في صورة طالب مبتعث للدراسة في إحدى دول الغرب الأوربي، أو ذهابه للعمل هناك، وصدامه مع معطيات الحضارة الغربية وعادات وسلوكيات أهلها، ومحاولته جاهداً إيجاد صيغة للتواؤم أو التقارب بين بيئته الشرقية التي نشأ فيها وبين البيئة الأخرى الوافد إليها، والبحث عن الروحانية المفتقدة هناك، فإن مفجر الأحداث في “حكايات من جنازة بوتشي” وبطلتها الرئيسية التي تدور حولها الأحداث هي الكلبة «دايزي». فالكلبة هنا تعد بمثابة الحافز الذي يحرك الأحداث والصراع والحوارات بين الشخوص، أو هي العامل أو الفاعل، بمفهوم البنيويين، وأصحاب علم الدلالة البنيوي، بداية من فلاديمير بروب Vladimir propp (١٨٩٥-١٩٧٢م)، الذي أفاض في شرح ذلك في كتابه العمدة “مورفولوجيا الحكاية”(١٩٢٨م)، ومرورًا ألجيرداس جريماس A J Greimas(١٩١٧-١٩٩٢)، الذي بني على جهود بروب وأضاف إليها بأن أبان عن الدلالة التي تنطوي عليها بنية النص، التي أضحت بنية مفتوحة وليست منغلقة على نفسها، كما كان لدى بروب وغيره من أصحاب المنهج البنيوي الشكلي، وهو ما أفاض فيه جريماس  في كتابه “علم الدلالة البنيوي” (١٩٦٦م).

      وتحكي الرواية، التي أخذت عتبة عنوانها من الفصل الأخير (١٢)، حيث وفاة الكلبة “بوتشي” ابنة “دايزي” التي توفيت هي الأخرى بفعل كبر السن والمرض، كيفية تغلب جاك شهاب الدين أرسلان، بعدما كان طالب بعثة للدراسة في لندن وحصل على الدكتواره، على الصعوبات التي واجهت زواجه من الإنجليزية جويندلين جوين التي أحبها وأقنعها بأن ما حذرته منه أمها وخالتها بعدم الزواج من شاب عربي مسلم، ليس إلا محض أوهام ولا أساس له، وقد ترجم ذلك عمليًا بأن أعطاها الحرية بالإبقاء على مسيحيتها وإطلاق أسماء عربية وأجنبية على بناتهما أليس(فاطمة)، وليليان(فريدة)، وجنيفر (زينب)، وكذلك أقنعها بالمجيء إلى مصر والإقامة معه في بلدته بمحافظة المنصورة، لكن بعد مرور ثلاثين عامًا على ذلك الزواج، فإنه لم يتغير إزاء تشدده في بعض أمور الدين ونظرته للحضارة الأوروبية، على الرغم من إقامته هناك في أوربا فترة من الزمن، وعلى الرغم أيضًا من التقدم العلمي المذهل الذي مرت به البشرية وثبوت عدم صحة كثير من المعتقدات والخرافات لدى كثير من البشر المشدودين إليها وإلى الماضي بجبال من حديد.

      ولقد عالج الكاتب هذه المسألة بذكاء شديد، مركزاً على أن التشدد في بعض أمور الدين، التي تعددت حولها آراء الفقهاء والمذاهب، هو سبب التطرف الفكري ومناصبة العداء للآخر والتقدم والمستقبل جميعًا، وأنه إذا كان اختلاف الفقهاء والمذاهب رحمة فلماذا نغلق باب الرحمة بتشددنا والتفاتنا للماضي، بعاداته وتقاليده وخرافاته البالية التي ثبت ضعفها وعدم صحتها وتمسكنا بالرأي الأوحد؟

     وهذا ما يحسب للكاتب، الذي عالج هذا الأمر ببراعة في الرواية من خلال ذلك الحوار الذي دار بين جاك شهاب الدين وابنته جنيفر حول مسالة نجاسة الكلاب من عدمها واختلاف الفقهاء حولها بين متشدد مؤيد ، ومعارض رافض ، استنادًا إلى الأدلة القولية والفعلية والعلمية، منطلقاً من ذلك إلى وضعنا في مواجهة القضية الأبدية الرئيسية الكبرى وهي علاقة الشرق بالغرب، وأن التيسير في أمور الدين والأخذ به، والتسامح والاستناد إلى التقدم العلمي هو طريقنا للتنوير والنجاة من الوقوع في الصدام مع الآخر والارتماء في أحضان التطرف والفكر الماضوي الظلامي.

    ولعل حديث جوين زوجة جاك إلى الكلبة دايزي التي آتت بها الابنة جنيفر لتقيم معهم في البيت ورفض الأب لهذا الأمر، وبعد نقاش وجدال حول ذلك لجأ الاثنان إلى صلاة الاستخارة. نقول لعل حديث جوين المفعم بالحزن إلى الكلبة دايزي ليدل دلالة كبيرة على ما أشرنا إليه.

ويكشف هذا الحديث/ المونولوج عن خيبة أمل جوين بعد ثلاثين عاماً من الزواج، لم تسفر عن تغيير بقيد أنملة في طبائع وعادات وتشدد  زوجها، وينحسب ذلك أيضًا على من حوله في البيئة التي انتقلت إليها وأقامت بها . تقول جوين: “ما كنت أتخيل في أسوأ كوابيسي أن التطور التكنولوجي – وهو من أهم منجزات العلم – سيأخذ الناس هنا إلى تلك العصور السحيقة، إلى ما قبل نور العلم وسيادته، وأنا الآن في حيرة، الأمور والأفكار هناك تتغير بمتوليات هندسية، ساعة بساعة ويوماً بيوم وسنة بسنة، أما هنا فإن الأمور لا تكف عن العودة إلى الخلف قبل أن تتسللي وتفاجئيني بوجودك الآن أمامي كنت أسأل نفسي: ما الذي يجعل الدنيا تتغير في كل مكان على وجه الأرض ولا تفعل هنا؟ وأدركت أن المشكلة ليست في اختلاف الثقافات والمنابت، بدليل أن الناس في كل أرجاء العالم -على اختلاف منابتهم ومراحل تطورهم وثقافاتهم – قطعوا أشواطًا هائلة في اتجاه التقدم، بل ويقدمون في هذا إسهامات رائعة ومؤثرة، انظري إلى اليابان والصين وسنغافورة وكوريا وكوبا، وحتى فيتنام التي دمرتها الحرب، إنهم هناك ينطلقون ربما أكثر مما ينطلق الغرب، أتعرفين لماذا؟ لأنهم حرروا عقولهم من الخرافات وآمنوا بالعلم، لم يتخلوا عن عقائدهم، ولم يهجروا صراعاتهم، لكنهم أدركوا أن العقائد الجامدة لا تغير العالم إلى الأفضل ، وأن الخرافات تعيق التقدم، ما هو دنيوي لا سبيل لتطوره إلا بالتفكير والتجريب وحقائق العلم” (الرواية ص 51، ص52).

جدل الماضي /الحاضر

يضعنا الكاتب – من خلال المفارقة بين وضعيتنا المأزومة في الحاضر وتغييب العقل وبين ما أدركه العرب مبكراً من قيمة كبرى لأهمية إعمال العقل ونبذ التشدد والتطرف في الفكر، وذلك أيضًا من خلال حديث الزوجة جلوين عن الفيلسوف العربي ابن رشد ودوره العظيم في التأكيد على أهمية العقل في النهوض بالإنسان وتنويره، ولكنهم حكموا على الرجل بالكفر وأحرقوا كتبه، وتحت وطأة كراهية العقل ومخاصمته ضاع معظم ما أبدعه (ص52)

أراد الكاتب أن يقول: إن ثمة نهضة كبيرة كانت مأمولة لدى العرب والمسلمين، متمثلة في تراثهم العلمي والفلسفي وأعلامه كابن رشد والحلاج ومحيي الدين بن عربي وعطاء الله السكندري، وشمس التبريزي وجلال الدين الرومي وغيرهم كثر، لكن سيادة عصور الفتنة والظلام أوقفت مسيرة هذه النهضة وجعلتهم يرتدّون على عواقبهم.

ولعل الفارق بين موقف الأم جوين، مع زوجها جاك، فيما يتعلق باقتناء الكلاب في البيت، متمثلة في كلبتها “فوكسي” قبل زواجهما (الماضي)، تختلف عن موقف الابنة جنيفر “زينب” بعد مرور ما يقرب من ثلاثين عامًا على هذا الزواج (الحاضر) ؛ فقد انصاعت الأم إلى رغبة الزوج بعدم اقتناء الكلاب في بيت الزوجية، فتركت كلبتها في لندن، ولم تأت بها إلى المنصورة بعدما أفنعها جاك بمستقبله المبشر في مصر، لكن الابنة جنيفر حاججت الأب بالثقافة الدينية التي حصلتها، وضرورة الأخذ بالمذهب الوسطي في الدين، وأقنعته بأن ما يستند إليه هو التشدد بعينه، فوافق على إقامة الكلبة دايزي معهم، بل إنه صار صديقًا لها مثل زوجته وابنته، وهنا يبز التحول من التشدد إلى اللين، ومن التعصب ورفض الآخر إلى العفو والتسامح. وتلك من أهم رسائل الرواية التي نجح الكاتب في إيصالها للمتلقي بمقدرة فنية بارعة.

ويلحظ القارئ تركيز المؤلف بوضوح على قضية الزمن وأثره وتحولاته على الإنسان والحيوان، على حد سواء؛ وهو ما تجلى في تصويره حياة الزوجة جوين وإقامتها، بعد وفاة الزوج جاك شهاب الدين، وزواج الابنة جنيفر، بمفردها في البيت بصحبة الكلبتين دايزي وابنتها بوتشي، وقد تقدمت بهم السن جميعًا، وأصابهم الوهن والمرض، فماتت دايزي وبعدها بوتشي، وبقيت جوين في وحدتها، ما يعني أن الإنسان رغم اتخاذه الحيوان أليفا، وصحبته لرفقائه وأصدقائه من بني البشر، فلا بد من وقوعه في براثن تلك الوحدة الأبدية الموحشة، التي ستصحبه إلى الموت في نهاية المطاف، وحيدًا هناك أيضًا في العالم الآخر.

التشخيص:

يتجلى في الرواية تشخيص الحيوان ومنحه البطولة فيها، متمثلاً في الكلبة دايزي، فهي تعي وتفهم وتدرك ما يدور حولها من أحاديث هذه الأسرة، وخاصة ما يتصل بأمر بقائها في هذا البيت، حيث ترقب تصرفات الزوج جاك وتشعر بأنه لا يريد بقاءها، لولا إلحاح ابنته جنيفر- زينب عليه.

وقد جاءت لغة السرد الشاعرية معبرة عن ما يجول بخاطرها وما يعتمل داخلها من أحاسيس، يقول السارد كلي العليم، حيث إن السرد بضمير الغائب هنا بمثابة تشريح وكشف عن دخائل الحيوان، وهو الكلبة دايزي، وكذلك وصف لسلوكها:

“بعد تناول الطعام خرجوا إلى الشرفة، وبقيت هي واقفة لا تدري إلى أين تتجه، ثم هداها حدسها إلى الاختباء خلف باب الشرفة، وبأذنيها المطرطعتين وطاقتي أنفها أدركت أن الحديث وإن كان لا يتناولها بشكل مباشر، إلا أنها اشتمت فيه رواح فرح وترقب، تتلاقى مع رائحة توتر مخبوء برزانة.. لديها من الذكاء والبصيرة ما جعلها تدرك أن التجاهل الذي يبديه ثلاثتهم تجاهها ليس حقيقياً، لهذا لم ينقبض قلبها فخلف هذا التجاهل ميزت ذبذبات ترقب أفشت برغم وهنها اهتمامهم جميعًا بوجودها”. (الرواية ص 20، ص21).

تقنيات السرد

– المونولوج الداخلي

 اتكأ الكاتب في إبراز طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب، متمثلة في علاقة الزوج جاك شهاب الدين بزوجته الأوربية جويندلين أرسلان جوين، على أسلوب المونولوج الداخلي، وهو ما تجلى في بداية الرواية خلت جوين لين إلى نفسها، مستعيدة فشلها في إقناع الزوج باقتناء كلبة في البيت، لعقديته الشرقية بشأن نجاسة الكلاب.

ففي مونولوج يكشف جاك شهاب الدين عن خيبة أمله وفشله في الحفاظ على تنشئه بناته على النمط الإسلامي الذي يريده، مرجعاً ذلك إلى ضعفه وتسامحه الزائد معهن يقول: ” ياه يا شهاب الدين، حتى اليقين الذين قدمت التنازل تلو التنازل للحافظ عليه، جاء الوقت لتنازعك فيه نفسك، ولتساوم عليه، تركت بناتك يرتدين ما يخترن من ثياب، لم تفرض عليهن إلا الاحتشام المعهود، سمحت بثلثي الكم، ونصف الكم وحتى بالأكتاف العارية، سمحت بالقصير حتى الركبة وبالجينز والباديهات القصيرة، سمحت بالمكياج والروح والرموش الصناعية والسفر دون محرم، وتسامحت في صلاتهن المرجاة ونسيان ما حفظن من القرآن في طفولتهن ، كل هذا لتدعم فكرة المسلم المتسامح، المواطن العالمي الأول الذي يفوق كل ما عداه، وياليتك نجحت، فها انقلبت عليك سماحتك، وأوشك الطريق أن يكون هو العثرة، فماذا تبقى لك لتفعله أيها المفرط الكبير! لو كنت ذا قلب جسور لكان بمقدورك أن تنفذ شريعة الله على أقرب المقربين، لكنك لم تمتلك يومًا ذلك القلب، وأنت أول العارفين أن هذا ليس له إلا اسم واحد، هو الضعف” (الرواية: 77).

كما يأتي الحديث إلى النفس (المونولوج) ليعبر عما يعتمل داخل شخوص الرواية من مشاعر وأفكار وأحاسيس مختبئة، ويكشف ما يدور داخل ذهن الشخصية، مثل المونولوج الذي يتحدث فيه جاك الزوج إلى نفسه متسائلاً ومتعجبًا أيضًا من جدال ابنته معه في أمر التشدد في مسائل الدين، معبرة عن رفضها لما ورد في كتاب الإمام البخاري بشأن حديث الكلب وأنها من أتباع الإمام مالك الذي رأت فيه مثالًا للتيسير وعدم التشدد، يقول الزوج: “أي أحمق هذا الذي يظن أنه سيكسب بسهولة صراعاً مع امرأتين ( ص44) – يقصد زوجته وابنته جنيفر – زينب، اللتين تبيحان تربية الكلاب.

وهنا يضعنا الكاتب أمام قضية بالغة الأهمية، وهي قضية التسامح وتعدد الآراء، والاختلاف الذي هو رحمة، متمثلاً في المذاهب الفقهية، وأنه إذا كان هناك من ييسر أمور الدين والفقه فيه ومسائله الدينية الشائكة بالاستناد إلى الأدلة، فلماذا نلجأ إلى التشدد والمتشددين مادامت هناك سعة في الأمر؟ مع أن اختلاف المذاهب جاء للرحمة والأخذ بالأيسر. ورغم أن الأحاديث والنبوية تشير إلى أن الرسول عليه السلام ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وهذا أدعى للتيسير والتسامح ونبذ التعصب المقيت.

– الحوار

يبرز الحوار أيضًا طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب، تلك الطبيعة المتناقضة في كثير من العادات والتقاليد وقبلهما العقيدة.

ويأتي هذا الحوار مفعمًا بالشاعرية أيضًا وممزوجًا بالسرد، كاشفاً عن تلك الفروق بين الشرق والغرب، ومساهمًا في تأكيدها عبر حوار جاك مع الزوجة، ومانحاً الرواية السمة الدرامية المؤدية إلى تصاعد الأحداث فيها، من هنا تأتي قيمة الحوار المرتبطة باستراتيجية الكتابة وبما يناط بها من وظائف، وهنا يتضح ذكاء الكاتب في توظيف الحوار لإبراز ذلك التقاطب (أو التجاذب) الحضاري، عبر السرد الحواري بين الشخوص، والذي يختفي فيه الراوي وينسحب من عملية التلفظ ويفسح المجال (الصفحات من (13-15).

      وتبدو الكلبة دايزي بسلوكها وحركاتها، وحوار الأم جوين معها ومحادثتها كأنها إنسان عادي لتعبر عن نفسها مباشرة ودون واسطة، مما يحدث نوعًا من الإيقاع الدرامي المتصاعد للحدث، ويكون ذلك بمقتضى عاملين، يكمن الاول في أن الحوار هنا قطعة من السرد، منتظم في بنيته، كائن به لا يعتق من إسارة ولا يتحرر منه، ويكمن الثاني في أنه يبدو مستقلًا مكونًا مشهدًا منعزلًا عن السياق الحاف به وإن كن مرتهنًا به. هو محاصر به ناتج عنه، عامل على تحديد أفقه وإبراز هويته، كما يقول بعض الدارسين. (محمد الناصر العجمي: المشهد الآخر في كتابه الذات في رامة والتبين لإدوار الخراط، مكتبة علاء الدين، صفاقس، تونس، 2009، ص 13).

ولعل ذلك ما يتضح في الحوار بين الزوجين بشأن الكلبة دايزي وبقائها في البيت كما أشرنا، ففيه إفصاح عن معتقد جاك المسلم الذي يستشهد فيه بآيات القرآن وآراء الفقهاء القاطعة بنجاسة الكلاب وحرمة الاختلاط بها.

– ما رأيك أنت يا حبيبي

– بدا أنه لم يكن يسأل لتجيبه، إذا انطلق يقول: من حيث المبدأ أنا أعرف أن الكلاب من أكثر المخلوقات إخلاصاً ووفاء، وقد ذكرت في القرآن في أكثر من موضع، وما قصة كلب أهل الكهف ببعيدة.

– ثم جاء دور ولكن:

– ولكن الإسلام هو من حرم الاختلاط بها، لأنها بكل بساطه مخلوقات نجسة.

ونظر إليها:

– لا تسأليني ما الذي يجعلها هي بالذات كذلك فأنا في الحقيقة لا أعرف لماذا الثعابين سامة، ولماذا الظرابين رائحتها نتنة، والخنازير لحمها وشحمها حرام أكله وغيرها وغيرها، فقط أنا أتبع عقيدتي وصحيح البخاري هو أصح كتاب بعد القرآن ذاخر بعشرات الأحاديث التي تحرم الاختلاف بها والظهر من نجاستها كما سبق وأفهمتك من قبل ثلاثين عامًا ليس كأي طهر وختم حديثه بالقول:

– لا أستطيع أن أسمح لها بأمر كهذا، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وبدا أنه لن يقول شيئاً أخر فقالت جوين:

– هي إذن مخلوقات شريرة.

– انتفض معترضاً:

– لا تقولين ما لم أقله يا جوين، أنا لم أقل إنها شريرة، لكنها نجسة، وهذا قدرها، ثم أردفت متأففًا:

– أنا حتى لا أعرف كيف احتضنتُ زينب وآثار الكلبة في يديها وملابسها.

– لم تتمالك جوين نفسها فتهكمت:

– مع كل هذا التقدم في العلم لم يثبت لنا أن الكلاب لديها في سوائل أجسادها شيء يختلف عما في سوائل اجساد الكائنات الأخرى، كما أننا لم نسمع أنها طورت سلاحاً نووياً أو بيولوجيا أو كيماوياً! أو شنت حربا أهلكت البشر

– ابتسم:

– نعم هي لم تفعل شيئا مما ذكرت، وقبل بضع مئات من السنين لم يكن أحد يعرف أن الأرض كروية.

– والأن الجميع يعرفون هذا، ومن يدري ما الذي سيكشفه العلم في الكلاب بعد عشرات أو مئات السنين؟ ثم أردف مؤكداً:

– إنه الدين يا جوين، ولا حيلة لنا في الأمر” (الرواية ص (23-25)

      ومن خلال الحوار بين الشخوص أيضًا، يضعنا الكاتب من خلال الراوي العليم، متمثلًا في الأم جولين التي تبين لابنتها جنيفر، ما الذي يتوجب على من يحكمون على الناس ويصنفونهم على أساس الدين أو العرق أو اللون، فعله حتى ينعم الناس بالتسامح والمحبة، ويختفي التطرف الفكري والديني، وتلك رسالة في غاية الأهمية، وخاصة لدى من يتمسحون برداء الدين لتحقيق أهدافهم الخبيثة والدين منهم براء. تقول جوين:

” أنتم في حاجة إلى أن تعيدوا التفكير في كل شيء، وأن تفكروا في العالم كوحدة واحدة، فالإنسان هو الإنسان في مصر وفي نيكاراجوا وزيمبابوي وألمانيا وغابات شرق آسيا، في كل مكان في العالم، لا تفرقه بينهم بسبب الدين أو اللون أو الجنس، وقد قطع العالم أشواطًا في هذا الطريق ولم يعد أحد يفكر بطريقتكم ، فأنتم تقسمون العالم إلى قسمين، حزب الله وحزب الشيطان، وتتعاملون مع غيركم من أتباع الأديان الأخرى مضطرين حتى إذا ما واتتكم الفرصة تفرضون عليهم إما اتباع دينكم أو دفع الجزية، في حين أنكم لو فكرتم قليلاً ستجدون أن خير أي إنسان هو للبشرية كلها، فمكتشف البنسلين أنقذ نصف البشرية، إن لم تكن البشرية كلها، ومخترع الكمبيوتر هو من مكن قبائل الغابات من التواصل مع غيرهم في أركان العالم، لهذا أصبح العلم قيمة متنحية في حياتكم، لحساب الدين، والدين برئ من كل هذا، أما العقل فقد جعلتموه آثمًا في كل ما يبدعه” (الرواية ص 127).

– الرسائل

كما لجأ الكاتب أيضًا إلى تقنية الرسائل، للكشف عن خبايا ودخائل شخوصه، ويتجلى ذلك في الفصل السادس الذي هو بمثابة خطاب من الأب جاك إلى ابنته جنيفر التي سافرت إلى القاهرة للإقامة لدى عمتها كاميليا وفيه يحكي جاك ويسرد جانبًا كبيرًا من تاريخ حياة والده شهاب الدين أرسلان وزواجه من أمه الإنجليزية كاترين باتكر وإنجابها هو وأخيه إدوارد جلال الدين أرسلان، وانضمام الأخير إلى تنظيم الإخوان في ذلك الوقت وتأثير ذلك على جاك الذي وإن لم تنضم إليهم، فإنه أخذ بعض آرائهم وتأثر بها وامتنع، لكنه بعد ذلك أدرك خطورة التشدد وعدم الأخذ بالأيسر من أمور الدين الذي تركه العلماء والفقهاء، معترفًا بخطئه حينما أصر على الأخذ بالآراء المتشددة، فيما يتعلق بنجاسة الكلاب وغيرها من المسائل الشائكة، التي لا تمثل إلا جانبًا فرعيًا من الدين، وعليه فقد قبل باقتناء دايزي وإقامتها بينهم في البيت.

وكان اتكاء الكاتب تقنية الرسائل هنا وعلى مدار صفحات ليست بالقليلة، بمثابة كشف وبوح وكذلك إضاءة على حياة جاك شهاب الدين وحياة والده ووالدته في فترة شبابهم اليافع، كما أنه اعتراف بوقوعه في براثن الفكر المتشدد الذي نجح في التخلص من آفته، خلافًا لأخيه الذي فشل في التخلص منه فوقع في بئر التطرف والارتماء في أحضان المتطرفين، ممن يسمون “الإخوان المسلمين”.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *