(ثقافات)
قراءة في رواية “جمعة مشمشية” للكاتب أحمد اغبارية
صباح بشير
عن دار الشّروق للنّشر والتّوزيع (2023)، صدرت رّواية “جمعة مشمشيّة” للكاتب أحمد اغباريّة، والذي يشير عنوانها إلى تلك الفترة الهاربة من الزّمن وهي موسم قطف ثمار المشمش، التي تنضج في بداية فصل الصّيف وينتهي موسمها في وقت قصير. وفي بلادنا ما زالت الرّوح الزّراعيّة حتى الآن، تهيمن على طرق التّفكير والتّعبير خاصّة في القرى والمناطق الرّيفيّة، وما تزال الرّموز اللّفظيّة والتّشبيهات توجز المعاني وتقلّص المسافات في الثّقافة الشّعبيّة التي تحفل بمفردات من الطّبيعة، وبما أنّ التّراث هو أحد مكونات الثقافة، فالحفاظ عليه إذن فيه استمرار للثّقافة والذّاكرة الجمعية. بهذا يكون العنوان قد عبّر عن التقاطة ذكية من المؤلف، حين احتوى على مقاصد دلاليّة تشير إلى ذلك، وتتّصل بفكرة العمل وما يدور بين سطوره من أحداث.
وبالإشارة إلى الغلاف فهو يحمل صورة ضبابية لقافلة من الجمال، انحصرت كمعلومة بصريّة في الواجهة، لتعكس عوالم وفضاءات النّصّ الرّوائيّ، وترمز إلى مضمونه وما يكتنفه من مكوّنات سرديّة وتعبيريّة.
جسّدت تلك الصّورة، التّحوّل والتّطور الذي عرفته البشريّة، والتّباين في معطيات الفكر القديم والحديث للإنسان في أسلوب العيش ونمط الحياة.
الأحداث:
تدور الأحداث حول شخصيّة الفتى “طارق” وهو من أُمّ الفحم، نشاطه اليوميّ، أسرته وبلدته والمناطق المجاورة لها، المغامرات التي عاشها وطفولته الشقيّة، مدرسته وأحلامه البريئة وقصّة حبّه الأوّل، وحنينه إلى الماضي وإلى الأماكن التي أحبّها، وكلّ الشخوص التي أحاطت به.
تمرّ الأيّام بصخبها ويعود رجلا إلى بلدته بعد عقد ونصف من الاعتقال، فيصدم بواقع آخر تحوّل وتبدّل، بعد أن تطوّرت حياة القرية، وحلّ عليها التّغيير والحداثة، والتحوّلات المعماريّة، التي فرضتها الحاجة والظّروف السياسيّة والاقتصاديّة، فيرتدّ إلى ماضيه في ذاكرته حيث طبعت الذّكريات أحاسيسه بالمشاعر والصّور الحيّة، التي لم تفارقه بأصواتها وحركاتها وألوانها.
تبرز الأحداث قدرة الكاتب على تمرير أفكاره داخل النّصّ، بما احتوى من تداعيات على امتداد مساحة السّرد، وذلك في إطار الحديث عن هذه الشّخصيّة، المسكونة بالحنين إلى الأرض.
نعم.. فالحنين هو أهمّ الأعمدة التي ارتفع عليها البناء السّرديّ، الذي رصد تغيّرات الواقع القرويّ، وانسلاخه عن طبيعته الأصليّة واستسلامه إلى حداثة دخيلة.
الموضوع:
يقرّبُ هذا العمل القارئ من روح الفطرة، يدخله في أعماقها؛ ليستنبط الموضع الدّاكن من النّفس البشريّة؛ ويكتشف ذلك النّقاء في جوهر الإنسان حين يمتزج بالطبيعة، وذلك من خلال الصّور والمشاهد المكثّفة المتلاحقة، التي تتحرك بحيوية بين السّطور؛ لتؤدي دورها في نمو الحدث، فمن الذّكريات والأحلام والمشاعر إلى الوصف والتّفصيل والتّداعيات والرّغبات، كلها تجتمع في هاجس واحد؛ لتسكن المتلقي إلى حالة من التّأمل، وتشدّ إدراكه إلى ذلك الزّمن المنسيّ الجميل، حيث الدّهشة وجموح التخيّل واصطخاب الذّاكرة بالحنين إلى الرّيف، بوهجه وصورته الأنقى والأكمل، والأكثر ألفة وإغراقا في الغياب والحضور.
للوهلة الأولى يبدو هذا العمل غامضا بعض الشّيء، رغم بساطته الظّاهرة، فهو يبعث في قارئه الحيرة عند تحديد معناه، لقد عالجه الكاتب بمنظوره الفنيّ الخاص، وكأنه يرنو بنظرته، إلى حقيقة الإنسان وفلسفة الرّحلة، مما جعل النّصّ يقترب إلى شكل ومضمون الحلم، الماضي والطفولة والحاضر، والذّكريات التي اتّخذت شكل المكان وهويته، أمّ الفحم بأحيائها وشوارعها وواجهاتها الحاضرة، وماضيها الغائب وحاضرها الجديد.
السّمات الفنيّة:
