في ذكرى رحيل الفنانة منى السعودي: البدايات العمّانية
هاني حوراني
ما من إشارة مبكرة تشي بأن منى السعودي، الصبية الأردنية التي لم تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها، كانت حين صعدت إلى الباخرة في ميناء بيروت، متجهة إلى فرنسا، في شتاء 1964، تنوي دراسة النحت في باريس، فقد عرفت في شبابها المبكر كرسامة واعدة، لكن لم تعرف لها تجارب، أو اهتمامات سابقة، بالنحت.
تعرفت على منى السعودي في مطلع الستينيات، حين كنت أمارس، مثلها، الرسم كهواية جادة، لكن منى لم تكن مجرد هاوية للرسم، فقد شاركت أختها الأكبر، هناء السعودي، في عرض أعمالها في المعارض الجماعية التي كانت تقام في العاصمة الأردنية، في مطلع الستينيات. كما أنها كانت قد أقامت معرضين شخصيين لأعمالها في عمّان، قبل أن تتم المرحلة الثانوية(1)، وهذا جهد استثنائي لصبية في عمرها. وفي أكتوبر/ تشرين الأول 1963 شاركت منى، وأختها هناء، في “معرض الخريف الكبير”، الذي أقامته “ندوة الرسم والنحت الأردنية”(2)، إلى جانب عشرات الفنانين والفنانات التشكيليات من ضفتي الأردن، وحظي حينها برعاية الملك الراحل الحسين بن طلال.
شاركت منى في “معرض الخريف الكبير” بخمس لوحات فنية(3)، مثل معظم الفنانين، الذين شق بعضهم طريق الشهرة: مهنّا الدرة، وكمال بلاطة، ورفيق اللحام، وتوفيق السيد، وصالح أبو شندي.
المعرض الشخصي الأول بين عمّان وبيروت
كان المعرض الشخصي الأول الذي أقامته منى السعودي لأعمالها في عمّان فريدًا ولافتًا للنظر. دفعني هذا إلى كتابة مقالة مسهبة عنه، أرسلتها في حينه للنشر في مجلة “الأسبوع العربي” البيروتية. وكنت أنا نفسي حينها، في سن منى السعودي، فكلانا، من مواليد عام 1945. ولفت نظري في أعمالها المبكرة استخدام الألوان القاتمة، وغلبة اللون الأسود عليها. لم ينشر مقالي حينها في المجلة اللبنانية الأسبوعية المعروفة، لكن مقاطع منه ظهرت لاحقًا على صفحات المجلة عندما نقلت منى معرضها الشخصي إلى بيروت في العام التالي، حيث نشرت المجلة مقالة لمحررها الفني، اقتبس عني، من دون الإشارة إلى اسمي فقرات عدة مسهبة. ورغم استيائي لعدم نشر مقالتي في حينها، فقد وجدت أن “اقتباس” فقرات مطوّلة من مقالتي عن أعمال منى السعودي هو نوع من الاعتراف بقدرتي على تحليل الأعمال الفنية!!
في بيروت، أقامت منى السعودي معرض لوحاتها الفنية في “مقهى الصحافة”، الذي كان ملتقى الفنانين والكتّاب. هناك، تعرفت لأول مرة على العديد من الفنانين التشكيليين والشعراء والكتّاب الذين لفتت موهبتها وشخصيتها انتباههم، والذين تحوّل عدد منهم لاحقًا إلى “أصدقاء عمر” بالنسبة لمنى، مثل أدونيس، وبول غيراغوسيان، وحليم جرداق، ونزيه خاطر، وآخرين.
حظيَ معرض منى السعودي المبكر في بيروت بتكريم النقاد، وبتغطية صحافية جيدة، والأهم من ذلك أنها أفلحت في بيع عدد من لوحاتها، ما مكنها من شراء تذكرة سفر إلى باريس عن طريق البحر. وقبل مغادرتها بيروت، اطلعت في قرية راشانا على أعمال النحات اللبناني المعروف ميشيل بصبوص، وكانت تلك أول مناسبة تشاهد فيها أعمالًا نحتية حديثة… فهل كان لتلك الزيارة أثر مباشر في حفزها على دراسة النحت في باريس؟!
الأب المتدين والأشقاء المستنيرون
لم تكن خطوة منى السعودي بمغادرتها عمّان إلى بيروت، ومن ثم إلى باريس لدراسة الفن التشكيلي، بالخطوة العادية. فمنى، ابنة الحاج عبده السعودي (عبد المجيد السعودي)، الذي كان يملك محل صرافة على زاوية شارعين مهمين في وسط عمّان، شارع الهاشمي، وشارع الرضا، كان رجلًا متدينًا، عُرف بصوته الجميل، وترتيله المدائح النبوية. وهو سليل عائلة دمشقية هاجرت على الأرجح إلى عمّان في عشرينيات القرن الماضي، بالتزامن مع قمع الثورة السورية الكبرى على أيدي القوات الفرنسية المحتلة (وهو الأمر الذي أطلق أوسع هجرة شاميةـ درزية جماعية إلى الأردن)، وكانت إمارة شرقي الأردن قد تشكلت للتو، في حين تحولت عاصمتها، عمّان، إلى مدينة العرب الباحثين عن “فرص جديدة”.
درست منى في مدرسة الملكة زين الشرف، في جبل عمان، حتى العام ما قبل الأخير من المرحلة الثانوية، وعرفت بتفوقها الدراسي، ومشاركتها في الأنشطة الفنية والثقافية للمدرسة، بما في ذلك عروض رقص الباليه في حفلات المدرسة، حسب شقيقتها هناء التي شاركت منى هواية الرسم.
وعلى الرغم من تدين الوالد، والعائلة عمومًا، إلا أن الأخيرة تمتعت بنوع من الانفتاح، الأمر الذي سمح لمنى أن تنتقل إلى لبنان، وأن تلتحق في سنتها الأخيرة من المرحلة الثانوية بكلية عالية الوطنية في عام 1963، وأن تنتقل بعدها إلى بيروت لتقيم فيها معرضها الشخصي، الذي شكل بداية انطلاقتها الفنية في العاصمة اللبنانية.
والواقع أن أشقاء منى (هاني وفتحي وغازي)، الأكبر سنًا منها، وفروا لها، ولأخواتها الآخريات، نوعًا من الرعاية والمظلة الثقافية. لقد ظلت منى تتحدث عن أخيها فتحي، الذي تُوفي وهي في سن العاشرة، وكان مولعًا بالأدب والشعر، وكيف ساهم في تغذية ميولها الأدبية من خلال قراءاته الشعرية لها. أما شقيقها هاني، فقد انغمس في السياسة مبكرًا، وعرف الاعتقال لفترة في شبابه، جرّاء نشاطه السياسي المعارض. وكانت منى حتى سن متأخرة تحتفظ بوثيقة وضعها شقيقها هاني، وهي عبارة عن “مشروع للدستور السوري”. وفي ما بعد، عمل هاني من بيروت، حيث أقام، مع زوجته اللبنانية، وأدار مكتبًا للصرافة، قبل أن يدير أعمال أبيه في هذا المجال، وليمارس في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي الكتابة الاقتصادية في الصحف اليومية الأردنية.
ومثله الأخ الأصغر لهاني، وهو غازي السعودي، الذي عمل رئيسًا لقسم الصحافة الأجنبية في وزارة الإعلام الأردنية، قبل أن يستقيل، ويساهم في تأسيس “جمعية أصدقاء الآثار الأردنية”، ويعمل رئيسًا لها.
وهكذا، فإنه على الرغم من البيئة العائلية المحافظة إلا أن منى (ولاحقًا أختها فتحية السعودي(4)) وجدتا داخلها، دائمًا، من يتفهم تمردها وهروبها المبكر من الإطار البطريركي الذي ضاقت به، رغم قبضته الرخوة على منى وشقيقاتها الخمس.
يجب القول بأن الأردن، لا سيما العاصمة عمّان، كانت تشهد خلال عقديّ الخمسينيات والستينيات تحولات سريعة نحو الحداثة، على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقد شكلت هذه التحولات بيئة داعمة لمنى السعودي، وقراراتها الجريئة في السفر والدراسة، من دون حساب للمحددات الاجتماعية والعائلية، التي، كما تظهر سيرتها الذاتية المختصرة، لم تكن لتشكل عائقًا أمام طموحها للانعتاق والسفر.
في عاصمة الأنوار
انتقلت ابنة عمّان المتمردة إلى باريس، بعد إقامة قصيرة لها في بيروت. وفي باريس، عاصمة الفن، حيث “تحفل متاحفها بفنون القارات كلها”، و”يختلط في شوارعها الناس من كل الألوان والأجناس”، كما وصفت في كتابها “أربعون عامًا في النحت” العاصمة الفرنسية(5)، أحست بأنها تولد من جديد، فقد وجدت نفسها في فضاء نابض بالفن والجمال والحياة والحرية. وهكذا بدأت فور وصولها بالدراسة في المدرسة العليا للفنون الجميلة. لم تقل منى لماذا اختارت دراسة النحت دون غيره من فروع الفن التشكيلي، لكنها تحدثت عن “اكتشافاتها” من دراسة جسم الإنسان، وهو أول وأساس ما تعلمته في مدرسة الفنون الباريسية: “بدأت اكتشف العلاقة بين عري الإنسان وعري الطبيعة (…)، وتعلمت بأن الإنسان هو مركز الكون، وأن في جسد الإنسان أسرار مبادئ الحركة والتكوين، الامتلاء والفراغ والتناسق، النور والظل ودرجات اللون”، كما روت في سيرتها المنشورة، والمذكورة آنفًا.
كانت مدرسة الفنون على طرف نهر السين، الذي يشق باريس، و”كان يكفي أن أعبر الجسر إلى الضفة الأخرى، لأصل إلى “متحف اللوفر”، حيث تسكن التماثيل العظيمة”. هناك اكتشفت منى “حضارتنا القديمة التي شعرت بعمق انتمائي إليها”. هنا تشير إلى المنحوتات السومرية والفرعونية والأنصاب النبطية، كما تشير إلى عمق تأثرها بـ”مبادئ التجريد والرمزية والاختزال التي ميزت فنون الحضارات الشرقية والأفريقية، والتي غيرت الفن الغربي، في مطلع القرن العشرين، وفتحت أمامه آفاق المغامرة الحرة في رؤى فنية جديدة”.
تستعرض منى السعودي أسماء الفنانين الكبار التي تعرفت على أعمالهم في متحف الفن الحديث وصالات العرض الباريسية، وتشير بشكل خاص إلى “برانكوزي، الذي أحدث تغييرًا جذريًا في النحت الحديث”.
العمل النحتي الأول: “أمومة الأرض”
في عام 1965، أي في العام الثاني لوصولها إلى باريس، وشروعها بدراسة النحت، أنجزت منحوتتها الأولى “أمومة الأرض”. وقد نفذت بمادة الحجر “مادة الأرض الأولى”. ومن هذه المنحوتة بدأت منى مسيرتها الطويلة مع الحجر، بمختلف خاماته، حيث وجدت لذة اكتشافها لتحويل الحجر إلى منحوتة فنيّة. اكتشفت أن النحت هو بالنسبة لها بحث في الشكل، وهو بحث وتوليد لا نهاية لهما. وقد تعلمت من النحت “أن الحياة والكون في استمرارية تكوين دائمة”.
عملت منى في “محترف كولامارليني/ Atelier Colamarlini”، الذي جمع نحاتين من مختلف الجنسيات، كل منهم يعمل على خامته الخاصة، أما منى فقد كانت النحاتة العربية الوحيدة بينهم. ولاحقًا احتفى كولاماريني بطلابه وأقام لهم معرضًا جماعيًا في “متحف رودان”. كان ذلك عام 1972، تحت عنوان: “كولاماريني وتلامذته”.
ثورة الطلاب
بعد ثلاثة أعوام من الدراسة والإقامة في باريس انتقلت منى السعودي إلى إيطاليا، وبالتحديد إلى كرارا، الشهيرة برخامها ومعامل النحت فيها، حيث ينفذ كثير من نحاتي العالم أعمالهم فيها، مستعينين بعمال كرارا المهرة في تنفيذ منحوتاتهم الرخامية وصقلها. وهناك أمضت صيف 1967، الذي صادف اندلاع حرب يونيو/ حزيران المأساوية، حيث نفذت بعض أعمالها النحتية المبكرة، قبل أن تعود إلى باريس لتشهد، في مايو/ أيار 1968 ثورتها الطلابية الشهيرة، التي زعزعت أركان الدولة الفرنسية، وعجلت في رحيل زعيمها التاريخي شارل ديغول.
شاركت منى في تظاهرات الحي اللاتيني الطلابية، وانغمست في تنفيذ الملصقات الثورية التي كانت توضع في الأماكن العامة للمدينة. تقول: “كانت تجربة عميقة فتحت أمامي مجالات الوعي الثقافي والسياسي”، وأنضجت فهمي “لوظيفة الفن ولعلاقته بالمجتمع والسلطة”. وتضيف أنها أصبحت أكثر وعيًا “بسيطرة الغرب على العالم الثالث، وأعمق إيمانًا بتعددية الثقافات وحرية التعبير والتغيير والدفاع عن القضايا الإنسانية، وكانت القضية الفلسطينية واحدة منها”.
مع انتهاء الثورة الطلابية، وسيطرة القوات الأمنية الفرنسية على الجامعات، وإغلاق أبوابها، شعرت منى برغبة عارمة للعودة إلى الأردن، “لأكون جزءًا من حركة تغيير في مجتمع أكون جزءًا من نسيجه”. عادت في أواسط 1968، وكان لديها مشروع للعمل مع أطفال المخيمات النازحين من الضفة الغربية إلى الأردن، بعد حرب حزيران/ يونيو 1967.
أنا ومنى السعودي
حين حدثتني منى عن مشروع العمل مع أطفال المخيم، كنت طالبًا في السنة الثالثة، في الجامعة الأردنية، وكنت أجمع ما بين ممارستي للرسم وكوني ناشطًا طلابيًا، أقود في حينها “جبهة النضال الطلابي”، التي بادر تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إلى تشكيلها. التقيت بمنى السعودي في مرسمي، في الدوار الثالث من جبل عمّان، وكان عبارة عن قبو من ثلاث غرف صغيرة في عمارة حجرية، سبق أن استخدمه الفنان مهنّا الدرة كاستوديو له.
وقد اخترنا في حينه مخيم البقعة لمشروع العمل مع الأطفال، الذي أُنشئ بعد حرب 1967 على أرض أهلية ما بين عمّان وجرش. لم أتردد في العمل معها على ذلك المشروع الذي يشجع الأطفال النازحين على التعبير عن تجربتهم الخاصة، وهم يمرّون بمحنة الاحتلال والنزوح. وكان علينا أن نزودهم في مدارسهم بالألوان والأوراق للتعبير عن معاناتهم الخاصة.
لم تكن منى حين عادت إلى عمّان تعرف كيف يمكن لها أن تشرع في تنفيذ مشروعها هذا، فالأردن تغير كثيرًا بعد حرب 1967، وبدأت التنظيمات الفدائية بالظهور، وافتتاح مقرات لها، أولًا في المخيمات الفلسطينية، ثم في الأحياء الشعبية من عمان، وغيرها من المدن.
تخليت عن دوامي اليومي في الجامعة، لبضعة أشهر، حيث كنت أدرس العلوم السياسية والإدارية، وتفرغت بصورة شبه كليّة لرحلاتنا اليومية إلى مخيم البقعة، وشرعنا في بناء جسور التعاون مع معلمي مدارس وكالة الغوث الدولية (الأونروا) لمساعدتنا على الدخول إلى صفوف الأطفال في المرحلة الابتدائية المبكرة، وتكريس حصص، أو أوقات معينة لهم، لممارسة الرسم، والتعبير بشكل حر عن مشاهداتهم وتجاربهم الخاصة.
كنا نزوّد أطفال المخيم في كل جلسة رسم بالألوان، وغالبًا ما كانت على شكل أصابع من الشمع الملوّن، أو الباستيل، بالإضافة إلى الورق والكرتون. وكنا نعود في نهاية النهار بحصيلة رسوم قد تصل إلى عدة مئات في اليوم الواحد، وفي مرسمي، في جبل عمّان، كنا نقوم كل مساء بفرز هذه الرسوم، حسب العمر والجنس والموضوعات. وهكذا، بعد شهور من العمل مع أطفال المخيم، وصلنا إلى حصيلة جيدة ومعبرة من الرسوم التي تعكس الحالة النفسية والذهنية للأطفال، وتصوراتهم عن حرب 1967، وما تخللها وتلاها من انطباعات واقعية وصور متخيلة.
لقد ساعدنا على العمل بحريّة في هذه التجربة تفهم وتعاون عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، السيد عبد الله حمودة، الذي كان قد اتخذ مقرًا له في مخيم البقعة. وغني عن البيان أن تنفيذ هذا المشروع كان يتم في ظروف أبعد ما تكون عن الظروف الملائمة. فقد كانت مدارس الوكالة، لا سيما صفوف الأطفال، مؤلفة من خيام مؤقتة، مقامة على أرض ترابية، وكانت الأمطار عندما تهطل تملأ أرضية الصفوف والطرق الترابية بالأوحال. وفي ما يخصنا، فقد كنا نعتمد في ذهابنا وإيابنا من المخيم إلى عمّان على الحافلات القليلة المارة، من أمام المخيم، وكذلك على السيارات الخاصة التي كانت تتوقف إشفاقًا علينا، في الليالي الباردة والماطرة، وتقلنا مجانًا إلى عمّان.
وقد اختتمت تجربة جمع رسوم الأطفال النازحين في مخيم البقعة بإقامة معرض لهم في المخيم نفسه، في إحدى القاعات التابعة لوكالة الإغاثة الدولية. وعشية إقامة المعرض (21 ـ 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 1968)، قام د. صادق جلال العظم، الذي كان قد اطلع على مشروع رسوم أطفال البقعة، وكان في حينه يُدَرس الفلسفة في الجامعة الأردنية، خلال ذلك العام، بكتابة مقالة تعريفية عن التجربة، نشرها في صحيفة “النهار” اليومية البيروتية، وقد أعاد طباعة مقالته على شكل “مطويّة”، حيث تم توزيعها في حفل افتتاح المعرض الأول لهذه الرسوم. ساهمت مقالته هذه في تعريف العالم العربي على هذه التجربة الريادية، من خلال قراءة تحليلية أولى لهذه الرسوم ودلالاتها(6).
من البقعة إلى بيروت
أخذت منى السعودي الحصة الأكبر من رسوم الأطفال لتعيد عرضها في بيروت، ومن ثم في بعض العواصم الإسكندنافية. وبدوري استعنت بمجموعة من رسوم أطفال البقعة في إعداد روزنامة حائط، لصالح الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين التي كنت أحد نشطائها (بعد انشقاقها عن الجبهة الشعبية في 22 فبراير/ شباط 1969)(7). ولم تلبث أن قامت منى بإعداد كتاب يضم نماذج من رسوم أطفال البقعة حمل عنوان: “شهادة الأطفال في زمن الحرب”، صدر في بيروت عام 1970. وقمت بدوري بإعداد دراسة تحليلية مطولة عن رسوم أطفال النازحين الفلسطينيين في مخيم البقعة، نشرتها مجلة “شؤون فلسطينية” الصادرة في بيروت، في عددها السادس، (يناير/ كانون الثاني 1972)، وغطت 25 صفحة من صفحاتها.
معرضان لرسوم الأطفال في ستوكهولم وغوتنبيرغ
كانت منى قد تعرفت على ستفان بيكمن/ Staffan Beckman، الصحافي والكاتب اليساري السويدي، عند قدومها إلى ستوكهولم في مارس/ آذار 1969، عن طريق زوجته Vana Beckman، التي كانت تعمل مراسلة للإذاعة السويدية في عمان، إبان تواجد فصائل الثورة الفلسطينية في الأردن، بعيد حرب حزيران 1967.
في تلك الفترة، كانت تتشكل أول لجنة مساندة لفلسطين على يد بيكمن، وعدد آخر من النشطاء اليساريين، وكان من بينهم المناضل التونسي نور الدين الشطي، الذي كان في بداية إقامته في السويد.
يقول نور الدين الشطي إنه استدعي للمساعدة في تنظيم معرض لرسوم أطفال مخيم البقعة في العاصمة السويدية. المعرض أقيم في قاعة تابعة لاتحاد النقابات العمالية ABF، وحظي باهتمام واسع من الصحافة والأوساط الثقافية والسياسية السويدية. وكتبت عنه صحيفة S.V.D في 24 مارس/ آذار 1969 تقريرًا تقريظيًا (أنظر صورة عن التقرير). كما نظمت رحلات لطلبة المدارس لزيارة المعرض، والتعرف على معاناة الأطفال الفلسطينيين جراء حرب 1967.
وبعد ستوكهولم، استضافت مدينة غوتنبيرغ معرض رسوم الأطفال، وسجل بدوره نجاحًا غير عادي، مما شجع على نقله إلى كوبنهاغن، عاصمة الدنمارك. لكن الأوساط الصهيونية القوية نجحت في منع تنظيم المعرض في المدينة، وذلك بعد أن نشرت الصحيفة الدنماركية Berlingske Alternative تعليقًا انتقاديًا للمعرض تصفه بأنه “دعاية معادية لإسرائيل”!
منى السعودي… من فنانة إلى “إرهابية”!!
ولقطع الطريق على معرض رسوم الأطفال في كوبنهاغن، والإساءة إلى سمعة منى السعودي، نصبت المخابرات الإسرائيلية فخًا لها، عن طريق عميل سويدي تظاهر بأنه مساند للقضية الفلسطينية، حيث قام بدس أسلحة في غرفة الفندق الذي كانت تقيم فيه، مما أدى إلى اعتقال منى السعودي والتحقيق معها من قبل الشرطة الدنماركية. وقد أطلقت الشرطة الدنماركية سراحها بعد أن تبين لها أن القضية مدبرة لتشويه سمعتها، ومنعها من إقامة معرض رسوم الأطفال الفلسطينيين في العاصمة الدنماركية. عادت منى السعودي إلى عمان برفقة شقيقها الأكبر هاني، الذي كان قد سافر للاطلاع على ظروف اعتقالها ومساعدتها على الخروج من هذا المأزق.
استقرت منى السعودي في بيروت في نهاية الستينيات، ارتبطت خلالها بصداقة سياسية مع قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لا سيما مع د. وديع حداد، الذي اشتق له طريقًا خاصًا عن طريق خطف الطائرات الغربية، لإثارة الانتباه للقضية الفلسطينية، و”ضرب المصالح الإمبريالية”. وكانت الجبهة الشعبية قد مولت طباعة كتاب منى “شهادة الأطفال في زمن الحرب”، مما أثار شائعات عن علاقة منى السعودي بعمليات خطف الطائرات التي كان يقوم بها تنظيم وديع حداد في حينه.
بين النحت والرسم والشعر
وبينما طغى طابع النشاط السياسي على صورة السعودي حتى ذلك الحين، فقد عادت خلال سبعينيات القرن الماضي لتكرّس وقتها أكثر فأكثر للنحت، ولتكريس صورتها الفنية كنحاتة عربية صاحبة اتجاه فني خاص بها. ففي عام 1972، عادت لتواصل دراستها في باريس، وأمضت عامها الدراسي الأخير في المدرسة العليا للفنون الجميلة، حيث تلقت، بعدها، درجة الماجستير في الفنون الجميلة. وخلال السنوات الأربعين الأولى من ممارستها للنحت (1964 ـ 2004)، أقامت نحو 20 معرضًا شخصيًا لأعمالها، توزعت ما بين بيروت، وعمّان، والكويت، والمغرب، والولايات المتحدة، فيما شاركت في عشرات المعارض الجماعية التي أقيمت في عدد من عـواصم العالم.
وإلى جانب معارضها الفنية، أصدرت منى عددًا من المطبوعات، من بينها كتابان يجمعان ما بين رسومها وأشعارها، فضلًا عن إصدارها مجموعات فنية لرسومها، مستوحاة من أشعار أدونيس، ومحمود درويش، وراشد حسين، أو مقتطفات من روايات غسان كنفاني. كان آخر هذه المطبوعات وأهمها كتابها: “منى السعودي… أربعون عامًا من النحت” (2007)، الذي وَثّق أبرز أعمالها النحتية، وسيرتها الذاتية، وضمّ مقتطفات من مقالات كتبت حول أعمالها، حملت أسماء أعلام كبار، مثل خالدة سعيد، ونزيه خاطر، وجبرا إبراهيم جبرا، وسمير صايغ، وكمال أبو ديب، وعبد الرحيم عمر، وأدونيس، إضافة إلى مساهمات كتّاب ونقّاد عرب وأجانب قدموا لمعارضها، أو لكتابها.
في أواخر سبعينيات القرن الماضي، تعاونت منى السعودي مع منظمة التحرير الفلسطينية والإعلام الموحد لحشد الدعم الفني والثقافي لصالح القضية الفلسطينية، وذلك من خلال إقامة ملتقى عالمي للفنانين التشكيليين الداعمين للشعب الفلسطيني في بيروت عام 1978. وعادت خلال الأعوام 1978 ـ 1982 لتقيم معرضًا دائمًا للفنانين التشكيليين العرب لذات الغرض.
عمّان تستعيد منى السعودي
اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، وكانت منى السعودي في هذه الأثناء تقيم معرضًا لرسومها المستوحاة من شعر أدونيس في صالة (Contemporain) البيروتيّة. ورغم العنف الذي طال مختلف أرجاء بيروت، فقد واصلت منى السعودي العيش في بيروت، المدينة التي احتضنتها منذ بداياتها الأولى، وفي العام التالي 1976 تزوجت منى من الصحافي الفلسطيني حسن البطل(8)، وأنجبت منه ابنة وحيدة هي ضياء، وذلك في العام 1978(9).
وبعد ذلك، عادت منى، بصحبة ابنتها ضياء إلى عمّان، إثر الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في صيف 1982. وبدا وكأن عمّان استعادت منى ثانيًا، فقد كُلفت من قبل بنك البتراء بتنفيذ ثلاثة أعمال نحتية كبيرة الحجم، استقر واحد منها في أحد ميادين عمّان الغربية، واثنان مقابل المبنى الرئيسي للبنك. وفي عام 1986 كلفت من جديد من قبل رجل الأعمال الفلسطيني المعروف عبد المحسن قطان بتنفيذ منحوتة لوضعها في الفضاء الخارجي لمباني جامعة العلوم والتكنولوجيا في شمال الأردن، وكان العمل مستندًا إلى تصميم وضعه المعماري الياباني الشهير كنزو تانج/Kinzo Tange.
تتوجت إقامتها العمانية بإنجاز منحوتة ضخمة الحجم، بطلب من معهد العالم العربي في باريس. وقد تكفلت الحكومة الأردنية بنقله وإهدائه إلى المعهد المذكور، حيث استقرت هناك، أمام إحدى واجهاته. وقد شارك الملك الراحل، الحسين بن طلال، إلى جانب الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، في حفل الافتتاح، في نوفمبر/ تشرين الثاني 1987، وشهد تدشين منحوتة منى السعودي هناك.
شجعت النجاحات المارة التي حققتها منى في مدينتها الأولى، عمّان، على الاستقرار فيها. وهكذا بدأت في عام 1989 بإقامة مبنى في ضاحية عبدون بعمّان، ليكون مركزًا للنحت، استغرق إنجازه سنوات عدة. وفي عام 1993، منحت الحكومة الأردنية السعودي جائزة الدولة التقديرية في الفنون. خلال النصف الأول من التسعينيات، أقامت منى معرضين شخصيين لأعمالها، الأول في غاليري البلقاء في بلدة الفحيص 1992، والثاني في دارة الفنون، عمّان، 1995. كما شاركت في أعمال ملتقى النحاتين العرب الأول، الذي نظم بمبادرة من غاليري بلدنا، ومهرجان جرش، في كل من عمّان ومدينة جرش الأثرية.
عادت منى إلى بيروت في عام 1996، فلم تفلح عمّان في الاحتفاظ بها أكثر مما فعلت. كان بيتها في منطقة الحمراء في بيروت قد تعرض لأضرار خلال سنوات الحرب الأهلية، فعملت على ترميمه ليصلح منزلًا للسكن، واستوديو للعمل، وفضاء لعرض أعمالها النحتية. ومنذ ذلك الحين، باتت بيروت مُستَقَرًا دائمًا لها، حتى وفاتها في 17 فبراير/ شباط 2022. لقد اكتشفت منى إصابتها بمرض السرطان في عام 2016، لكنها لم تبلغ أحدًا بمرضها هذا سوى ابنتها الوحيدة ضياء، ولم تعلم عائلتها عن مرضها، حتى قبل أشهر قليلة من وفاتها، حين جاءت إلى عمان لإجراء بعض المعاملات الرسمية.
واليوم، وبعد نحو ستة عقود على ممارستها للنحت، تترك منى السعودي بصمة لا تُمحى على صعيد المنجز النحتي العربي. ولعل أول ما يميزها هو تمسكها بالحجر، على اختلاف أنواعه، كخامة وحيدة لعملها، وهو الأمر الذي يشكل ملمحًا رئيسيًا من هويتها الفنية. ولم تخفِ منى “تعصبها” لمادة الحجر، ورفضها استخدام مواد أو خامات هشّة، مثل البلاستيك، أو المواد الصناعية الأخرى، وكأنها تبحث لأعمالها عن نوع من الخلود.
وعندما نستعرض أعمالها، عبر مسيرتها الطويلة، فإن الأمر المدهش هو أن إصرار منى السعودي على التمسك بالحجر كخامة وحيدة لم يحرم أعمالها من التنوع، الذي تجلى أولًا في تنوّع الخصائص الفيزيائية لكل صنف من الحجر، أو الرخام، الذي نفذت عليه أعمالها، وفي الوقت نفسه تنوّع تكوينات الأعمال، وأساليب تنفيذها.
لقد طوَّرت منى السعودي، من الناحية الأسلوبيّة، هويّة خاصة بها، حتى باتت منحوتاتها تُعَرّف بصاحبتها منذ الوهلة الأولى، وهي هوية جمعت ما بين الحداثة الفنية واللغة الشعريّة، وبين الصلابة والثقل والرهافة والرقة الأنثوية.
نضجت منى السعودي وباتت أمًا وجَدّة، لكن صورتها، حتى بعد رحيلها، تظل تذكر بتلك الصبية ذات الشعر “المكزبر”، والثياب القاتمة، التي تحدت بيئتها الضيقة لتنطلق وتشق لنفسها مسارها الخاص، وتصوغ خطابها، وتترك بصمتها المميزة في الفن التشكيلي العربي المعاصر.
هوامش:
1 ـ التحقت منى السعودي بكلية عالية الوطنية في لبنان، وذلك في عام 1963، وليس واضحًا إن كانت تلك السنة هي سنة تخرجها من الثانوية العامة، أم أنها كانت سنة دراسية إضافية، لإتقان اللغة الفرنسية، تمهيدًا لدراستها اللاحقة في فرنسا.
2 ـ كنت، بصفتي عضوًا في لجنة المعارض في ندوة الرسم والنحت الأردنية، إلى جانب رفيق اللحام، وصالح أبو شندي، قد شاركت في تنظيم معرض الخريف الكبير. كما شاركت بخمسة أعمال لي في المعرض.
3 ـ أطلقت منى على لوحاتها أسماء: “مدينة ـ تجريد، العودة من الدفن، الدوّامة، تجريد، مدينة، قُمره”، حسب كتالوغ معرض “الخريف الكبير”.
4 ـ في سيرة منى السعودي المنشورة في كتابها “أربعون عامًا في النحت”، تكتفي بالإشارة إلى التحاقها لعام واحد بكلية عالية الوطنيّة عام 1963، من دون تفسير لذلك الالتحاق.
5 ـ الاقتباسات هنا، وفي الفقرات اللاحقة، هي لمنى السعودي، ومصدرها كتابها “منى السعودي… أربعون عامًا في النحت”، بيروت، 2007.
6 ـ كنت قد تعرّفت على صادق جلال العظم عند التحاقه بالجامعة الأردنية في عام 1968/ 1969 أستاذًا للفلسفة، لكن عقده مع الجامعة لم يُجَدد بعد ذلك، وقد ربطتني به صداقة استمرت طويلًا، خلال إقامتي في بيروت ودمشق (1971/ 1989).
7 ـ لتلك الروزنامة قصة طريفة، فقد كلفتني قيادة الجبهة الديمقراطية (الشعبية) لتحرير فلسطين بطباعة روزنامة سنويّة لعام 1970، وزودوني بصور لماركس وإنجلز ولينين لكي تكون مادة تلك الروزنامة. لكن استخدامي لرسوم أطفال البقعة في تلك الروزنامة أثار خيبة أملهم وحنقهم عليّ. غير أن الروزنامة استخدمت على كل حال لجمع التبرعات للجبهة، شأن مجموعة من البطاقات التي قمت بطباعتها وتضم أعمالًا لفنانين عرب.
8 ـ كان حسن في ذلك الحين صحافيًا ناشئًا في مجلة “فلسطين الثورة”، وكان مصابًا بالصمم منذ طفولته. وخلال مسيرته الصحافية اللاحقة أصبح من أبرز كتاب العمود الصحافي. وقد اشتهر بعموده اليومي في صحيفة “الأيام” الفلسطينية، وحاز على جائزة فلسطين في المقالة عام 1988. وقد توفي في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2021.
9 ـ ورثت ضياء عن والدتها موهبتها الفنية، والتي تجلت بشكل خاص في مجال التصميم والحروفية العربية.
*فنان بصري وكاتب
- عن موقع ضفة ثالثة