*مريم حيدري
لأن هناك الشعراء، ولأنهم في حياتنا، ولأنهم يبقون حتى حين يغادرون عالمنا، يمكن أن نطمئن. ليس شعارا هذا، ولا تفاؤلا ساذجا، فإن الشعراء قدامى وحديثين، استطاعوا أن يمنحوني شعورا استثنائيا في كثير من الأوقات التي كان يمكن أن يسودها اليأس والظلام، شعور هو مزيج من البهجة، والهدوء، واللامبالاة.
واليوم وأنا أستمع لصوت الشاعر الكردي أحمد شاملو (1925-2000) يخرج من الجهاز، وينتشر في البيت في احتفال أحادي قمت به لنفسي في ذكرى رحيله، تنتابني رغبة/أمنية أن يحضر الآن لأقبّل يده من فرط ما ترك لنا كل هذا الجمال، وخلقه من كلمات كان يمكن أن تكون كائنات بسيطة في العالم، بلا أي فائدة، كما سبق ورغبت في ذلك بعد قراءة بعض الشعراء النادرين.
وقليل هم الشعراء الذين يحسون ويلمسون ما حولهم بكامل حواسهم البشرية، والشعرية، ويستطيعون أن يسجلوا ذلك في قصائدهم بتلقائية شعرية، وبراعة فنية، وشاملو هو من أولئك. فإلى جانب كونه من أهم رواد الشعر الحديث في إيران، بل أهمهم، بإبداعاته في فضاءات القصيدة، وكتابته لقصيدة النثر، ونتاجه الهائل في الشعر، والترجمة، والبحث، وإضافة إلى الإرث الجميل الذي تركه لنا من قصائد الحب، كان ناشطا سياسيا يساريا، وواجه الكثير من الضغوط والمضايقات بعد الانقلاب الذي حصل عام 1953 في إيران وأدى إلى سقوط دولة “الدكتور مصدق” الذي كان ينادي بمبادئ الاستقلال والحرية في إيران، وتأميم النفط وخروجه من يد الأجانب، إذ تلت هذا الانقلاب اعتراضات واسعة في البلاد، واعتقالات كثيرة. فسجن شاملو، وفقد خلال تلك السنوات كثيرا من أعماله المترجمة أو المؤلفة إثر تفتيش بيته وسوقه نحو السجن. لكنه في السجن أيضا عكف على كتابة قصة طويلة ضاعت في انتقاله من سجن إلى آخر، كما بدأ بالبحث والدراسة على كتاب “الشاهنامه”، الملحمة الشعرية الإيرانية التي كتبها الفردوسي فی القرن الرابع للهجرة.
هذه النشاطات والاهتمامات بالسياسة ونشدان الحرية، تركت آثارا كبيرة على نتاج شاملو الشعري، تمثلت في قصائد تعدّ من أروع قصائد الشعر السياسي ونصوص الحرية في إيران، والتي تتميز في كثير من الأحيان بطابع إنساني سام، وحبّ يأبى أن يخمد في ظلّ الظروف الحالكة وسيطرة التعسف والعنف.
من جانب آخر، وبما أن شاملو كان يتمتع بصوت جميل، فقد سجّل كثيرا من القصائد بصوته على أشرطة ما زالت من أجمل ما يستمع إليها هواة الشعر في إيران، منها ترجماته للوركا، وقصائد جلال الدين الرومي، كما أنه قرأ الخيام في شريط صوتي برفقة غناء للمطرب الإيراني الشهير محمد رضا شجريان. ويكاد صوته أن يكون أجمل صوت بين جميع الشعراء الذين سمعتهم، أنا المغرمة أيضا بالأصوات الجميلة، لا سيما أصوات الشعراء، كل مرة حين أسمعه يقرأ بالفارسية قصيدته الشهيرة:
“يا للهفتي، كم أريدكِ يا من بعدكِ امتحاني المرّ بالوأد! /يا للهفتي، كم أطلبك!/ كأن/ على ظهر حصان/ حيث السّرج/ وبلا سكينة./ والبعد/ تجربة عبثية./
رائحة قميصك،/ هنا/ والآن.ــ /الجبال باردة/ في البعد./ يدي/ في الشارعِ والسرير/ تبحث عن حضورِ يدكِ الأليف،/ وتأمّل الطريق/ ينسج/ اليأس.
دون نجوى أصابعِك/ فقط.ــ/ والعالم فارغ من أيّ تحية.
يقرأ والحياة تصبح أكثر ضوءا، وهدوءا. الحياة المؤقتة التي تحدّث عنها يوما، وعرف كيف يبقى خالدا فيها، وخارجها: “أهمية الحياة، وفضلها، يكمن في كونها مؤقتة، في أنك عليك أن تظهر خلودك في مكان آخر، وذلك المكان هو “الإنسانية”.
شاعرة ومترجمة من إيران.
_________
*المصدر: العرب