*د. حسن مدن
قبل شهور قليلة توقفت عن الصدور مجلة «دبي الثقافية»، وهي إحدى الدوريات الصادرة في دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تستقطب أقلاماً بارزة من مختلف البلدان العربية، شأنها في ذلك شأن دوريات مماثلة كمجلة «الرافد» الصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة التي كان لي شرف أن أكون ضمن فريق تأسيسها ومديراً لتحريرها لمدة عشرة أعوام، ومجلة «نزوى» الصادر عن مؤسسة عمان للصحافة والطباعة، ومجلة «البحرين الثقافية» الصادرة عن هيئة البحرين للثقافة والآثار، ومجلة «الدوحة» القطرية التي عادت للصدور بعد توقف دام سنوات.
وهاته الدوريات جميعاً، وبعضها يصدر فصلياً والآخر شهرياً، تتميز أيضاً بنشر كتب مع كل عدد يصدر عنها، توزع مجاناً، بل إن بعضها يصدر كتابين لا كتاباً واحداً فحسب، وبعض هاته الكتب مهم من الناحيتين الابداعية والمعرفية.
ولا يصح الحديث عن الدوريات الثقافية في بلدان الخليج العربي دون التوقف ملياً أمام الدورية الأعرق والأشهر، ونعني بها مجلة «العربي» الكويتية التي اضطلعت، وتكاد تكون، في بداياتها، وحيدة في ذلك، بدور ثقافي وتنويري كبير تخطى نطاق منطقتنا الخليجية الصغير ليغطي العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، حيث كانت المجلة توزع في غالبية، إن لم يكن في كل العواصم والمدن العربية الكبيرة، فاستحقت اسمها بجدارة.
لم تعد «العربي» وحيدة لا في الكويت ولا في المنطقة عامة، ففي الكويت وحدها تصدر اليوم دوريات مهمة، سواء عن جامعتها أو عن المجلس الوطني للثقافة والفنون أو عن وزارة الإعلام، وبعض هذه الدوريات كـ»الثقافة العالمية» تعنى بترجمة مواد متميزة من اللغة الانجليزية وغيرها من اللغات بما فيها اللغات الشرقية كالفارسية مثلاً.
وتزامن الإعلان عن توقف «دبي الثقافية» مع حديث عن صعوبات تواجهها مجلة «العربي» ذاتها تهدد بتوقفها، رغم ثقتنا في أن القائمين على الشأن الثقافي في الكويت الشقيقة الذين يدركون ما تمثله هذه المجلة في الذاكرة الثقافية العربية سيحرصون على ألا يحدث ذلك.
الكتاب والمثقفون وجمهرة القراء المهتمين عبروا عن أساهم وأسفهم لتوقف «دبي الثقافية»، ورأوا فيه خسارة للنشر الثقافي في المنطقة، وعلى الصعيد العربي العام، ودعوا لمراجعة هذا القرار. والحق أن «دبي الثقافية» ليست الدورية العربية الوحيدة المهتمة بالشأنين الأدبي والثقافي التي توقفت عن الصدور، والأسباب في ذلك مختلفة، وأذكر أني نشرتُ في عام 2004 مقالا بعنوان: «الدوريات أيضاً تشيخ» من وحي شكوى المرحوم الدكتور سهيل إدريس وابنه سماح من الضائقة المالية التي «كانت» تهدد بتوقف مجلة «الآداب» التي أصدرها الأب قبل نحو سبعين عاماً، فعملا، آنذاك، على ضخ تبرعات وإعانات لها لإطالة عمرها، من خلال حملة دعائية واسعة.
تزامن ذلك، حينها، مع إعلان الناقد الكبير المرحوم محمد دكروب عن توقف مجلة «الطريق»، مؤقتاً، ريثما «تتحقق خطة هيئة المجلة في الارتقاء بها، في الشكل وفي المضمون وفي القضايا التي تعالجها، إلى طور جديد آخر من أطوار تطورها، وهذا يتطلب قراءة جديدة للواقع الراهن في بلداننا العربية ولواقع العصر وتحولاته، حتى تصبح المجلة اقرب إلى هموم واهتمام أجيالنا الشابة وطموحاتها والدور الذي يفترض أن تضطلع به في صناعة مستقبلها ومستقبل بلداننا».
والحق أن محمد دكروب، رحمه الله، أعاد إصدار «الطريق» بعد توقف، وجاهد، رغم عمره الثمانيني، في أن تكون بمستوى مع وعد به، في ظل واقع موضوعي لا يسعفه ولا يسعف طموحاته، لكن «الآداب» نفسها سرعان ما أعلنت عن توقف صدورها، بعد سنوات مما يمكن تشبيهه بالإنعاش الذي يطيل عمر المريض قليلاً لكن دون أن يشفي علته، وقال صاحبها سماح ادريس ما قاله أصحاب «الطريق» من أن توقفها سيكون مؤقتاً، رغم تأكيد ادريس أن قرار التوقف ليس على خلفية مالية، متسائلاً: «ما معنى إصدار مجلة حين يتراجع عدد القراء؟ وهل الإصرار على إصدارها بطولة واجبة أم إضاعة لجهدٍ كان يمكن أن يصرف في مواضيع أخرى قد لا تقل أهمية ومردودا ثقافيا ونهضويا وانتشاريا؟، وما معنى أن تواجه مجلة ورقية حكم الاستبداد والقمع والتخلف حين لا يستطيع المواطنون الخاضعون له الحصول عليها».
والحق أن الحديث عن سهيل إدريس لا يستقيم من دون الحديث عن «الآداب» المجلة، وعن «الآداب»- دار النشر. ورغم أن سهيل إدريس في الأصل روائي وكاتب، قبل أن يكون ناشرا ورئيسا لتحرير «الآداب»، لكن يمكن القول إن «الآداب» المجلة هي مُنجزه الرئيسي، بالنظر إلى الدور الذي لعبته في الحياة الثقافية والإبداعية والفكرية العربية. ولو سألت الكثير من المبدعين العرب، من شعراء وقصاصين وروائيين ونُقاد، عن المنبر الثقافي الذي أطلقهم عربياً، خارج حدود أقطارهم، لقالوا من دون تردد: إنها مجلة «الآداب».
بل إن «الموضات» والمدارس الفلسفية والأدبية على أنواعها التي كانت تهب تيارات ريحها على عالمنا العربي، عن طريق الترجمة والمثاقفة، وجدت في «الآداب»، مجلةً وداراً للنشر جسراً لها.
لن يمكن كتابة تاريخ الحداثة الأدبية والفكرية العربية من دون الوقوف ملياً أمام الدور «التثويري» الذي لعبته هذه المجلة، وهي تكسر الكثير من «التابوهات» التي كان مجرد الاقتراب منها، لا لمسها، كفيلاً بأن يصعق من يقوم بتلك المغامرة.
سهيل إدريس، عبر «الآداب» تحديداً، أحد الذين جازفوا بهذه المهمة، ويمكن القول، بيقين، أنهم كسبوا الرهان، هو الذي خالطته أهواء شتى، وهو ينشر ما ينشر من كتب، ولكن بروح الرجل الحر من الأثقال والكوابح التي تعيق الانطلاق إلى الأمام، وتشد إلى الوراء.
ومقارنتي بين «الآداب» و»الطريق» لا تنطلق من فراغ. إن أجيالا من المثقفين ذوي النزوع الديمقراطي والتقدمي غرفوا معارفهم من هاتين الدوريتين، وكان حلم الكثير من المبدعين العرب بين الستينات والسبعينات في القرن العشرين أن يجدوا اسمهم مطبوعاً في إحداهما يذيل قصائدهم أو قصصهم أو أبحاثهم المنشورة، وإذا كان توجه «الآداب» قد غلب عليه الطابع الأدبي الصرف، فان «الطريق» نحت أكثر نحو الجوانب الفكرية، انسجاماً مع خطها اليساري الذي كان يولي عناية خاصة للمعالجات ذات الطابع الفكري والتحليلي للظواهر الاجتماعية والسياسية.
لم تكن مشكلة «الآداب» مالية إذن، فقد أمّن سهيل إدريس، يومها، مِن المال ما يكفي لاستمرار صدورها، لكنها لم تعد إلى مكانتها، التي نعرف، في خريطة الحراك الثقافي والأدبي العربية، وهذا ما حمل ابنه سماح على أن يعلن توقفها مرة أخرى، مؤكدا أن أسباب التوقف، هاته المرة، ليست مالية. «الآداب» كما «الطريق» تنتسبان إلى زمن آخر انقضى ولن يعود، وإلى بيئة ثقافية حاضنة شكلتها بيروت الخمسينات والستينات، وهذه البيئة الأخرى ولت ولن تعود. لقد فقدنا ذلك الزمن، وفقدنا بيروت التي أنتجتهما وأنتجت قبلهما «الثقافة الوطنية»، وهو فقدان لا يعوض أبداً، لأن الظروف لم تعد هي الظروف، فلا يمكن فصل سيرة هاتين الدوريتين وسواهما من الدوريات الثقافية والفكرية عن سيرة حاضنتهما، أي بيروت، بكل ما كانت تمثله في الحياة الثقافية العربية.
فتشتُ طويلاً بين قصاصات أحتفظ بها عن خبر قرأتهُ قبل عقدين من الزمن وأكثر حول تقريرٍ وضعته باحثة أجنبية عما وصفته أكثر المدن حيوية في العالم. لم أعثر للأسف على هذه القصاصة التي توارت بين ركام الورق، لذا فإني لا أستطيع ذكر اسم الباحثة ولا جنسيتها ولا التفاصيل الأخرى التي وردت في التقرير. لكن ما أتذكره أنها وضعت بيروت في مرتبةٍ متقدمةٍ بين مدن العالم الحيوية، لعلها المرتبة الثانية. تحدثت الباحثة عن مبنى متهاوٍ من آثار القصف وداخله يقام معرض تشكيلي. وتحدثت أيضاً عن هذا الإصرار العجيب لدى الناس على الحياة والمقاومة والتآلف مع خراب الحرب، لا برغبة قبوله وإنما برغبة نفيه وتجاوزه.
ما كانت آخر الأفكار تتداول في مكانٍ ما من العالم إلا وتجد صداها كتباً مترجمة بعد حين في بيروت، وإلى بيروت كان رجال الفكر والثقافة والسياسة العرب يأتون بحثاً عن متنفس لهم، عن كوى للحرية والتعبير والقول، لذا ما من قامة عربية معاصرة شامخة إلا ومرت عبر بيروت أو أقامت فيها. والعديد من هؤلاء لو سئلوا عن المكان الذي طبع أول كتبهم لقالوا: بيروت.
بيروت لم تعد بيروت، فهي اليوم مستباحة بأجواء السموم المذهبية والطائفية التي تغطي المنطقة، ويوماً عن يوم تتناقص قوة الدفع الحداثية التي كانت للمدينة في الأزمنة السابقة، والحق أن المدينة، بذاكرتها وبما تبقى لها ولأهلها من زخم، تقاوم ذلك بكل ما أوتيت من قوة وعزيمة، ولكن الموجات العاتية القادمة إليها من الجوار، مغذاة بتعقيدات البنية المذهبية والطائفية للبلد من القوة ما يهدد بانطفاء ما تبقى فيها من شموع.
ليس البشر وحدهم من يموتون. الدوريات هي الأخرى عرضة للمصير ذاته. وكما في حال البشر يبقى طيب الأعمال، فإن الدوريات التي صنعت، في زمنها، مجداً، تظل حاضرة بوصفها تاريخاً مشرفاً. وكما لكل زمان دولة ورجال، فان لكل زمان دورياته ووسائط تعبيره.
_____
*جريدة عُمان