أنطون تشيخوف : كأننا لا رحنا ولا جينا

(ثقافات)

أنطون تشيخوف : كأننا لا رحنا ولا جينا

عادل الأسطة

أتذكر مقالة لغسان كنفاني:
أتذكر مقالة لغسان كنفاني عنوانها “شولوخوف والالتزام وأدب صح يا رجال” فاقرأ انطون تشيخوف.
في مقالته يكتب كنفاني: “وفي الكتاب [ميخائيل شولوخوف/ قصص] خمس قصص هي: ابن حرام، البادية الزرقاء، المهر، الراعي، قسمة الإنسان، وقد كتبت جميعها تحت هذا الشعار الذي وضعه شولوخوف نفسه: “ليحيَ الكاتب حياة الشعب، وليتألم لآلام الناس ويفرح بأفراحهم، وليدخل بكامله في اهتماماتهم وحاجاتهم، عندئذ يخرج من بين يديه كتاب حقيقي يثير الانفعال في قلوب القراء (فارس فارس، ص31).
ما كتبه كنفاني يلح عليّ وأجد يدي تمتد إلى قصص أنطون تشيخوف الصادرة عن دار التقدم في موسكو من ترجمة د. أبو بكر يوسف، وأقرأ المقدمة وأربع قصص قصيرة هي: المغفلة والمتمارضون وابنة البيوت والصول بريشيبييف.
أكرر عبارة إميل حبيبي “كأننا لا رحنا ولا جينا”، ففي الواقع ما يشبه ما في القصص، وأتذكر متشائل إميل وفولتير وكنديده.
إميل حبيبي وفولتير : سعيد وكنديد :
لما نشر إميل حبيبي الجزء الأول من رواية “المتشائل” في الجديد في العام 1972، وقرأها مثقفون كانوا قرؤوا (فولتير) في روايته كنديد، قالوا: “احتفز الأستاذ ليشبّ فوقع دون كنديد إلى الوراء مئتي عام” و”إن في الأمر لمحاكاة”، فيرد عليهم سعيد/ إميل: “لا تلمني، بل لُمْ هذه الحياة التي لم تتبدّل، منذ ذلك الحين، سوى أن الدورادو قد ظهرت فعلاً على هذا الكوكب”.
ويعني ما سبق أن ما كتبه إميل لم يختلف كثيراً عما كتبه (فولتير) قبل 200 عام.
كأن ما أقرؤه في قصص أنطون تشيخوف أراه في الواقع، رغم مرور ما لا يقل عن 120 عاماً من كتابتها. كأننا لا رحنا ولا جينا.
مكسيم جوركي وانطون تشيخوف: معلم زمانه ومعلم زماننا:
المجلد الأول من مؤلفات تشيخوف المختارة الصادرة عن دار التقدم يضم مقالة / تمهيداً / مقدمة كتبها الأديب الروسي الشهير مكسيم جوركي، ويشيد جوركي بـ تشيخوف أيّما إشادة، ويأتي على رأيه في أوضاع المعلمين. كانت أوضاع المعلمين لا تسر، ورأى تشيخوف أنهم ما داموا على ما هم عليه : جوعى، مرضى، وبؤساء، فلن تقوم لروسيا قائمة، وهكذا طالب بإنصاف المعلمين، إذا ما أرادت روسيا أن تنهض وتغدو لها مكانة بين الأمم.
وأنا أقرأ قصص تشيخوف ومقدمة جوركي تابعت إضراب المعلمين، وهكذا عدت ثانية إلى حواره مع مكسيم جوركي حول أوضاع المعلمين: “ـ أتدري.. هناك مدرس قد وصل .. مريض.. متزوج.. أليس لديك إمكانية لمساعدته؟ لقد رتبت أمره حتى الآن.
أو :
ـ اسمع يا جوركي، هناك مدرس يريد أن يتعرف عليك، ولكنه مريض لا يستطيع أن يخرج.. هلا ذهبت إليه؟” هل أكتب: كأننا لا رحنا ولا جينا/ جئنا؟ أم أننا في وضع أفضل؟
أربع قصص قصيرة :
1 ـ المغفلة :
سأقرأ قصة المغفلة مرة وثانية. المغفلة هي الخادمة الفقيرة ماريا وروحيا، ولهذا فهي توافق على كل ما يقوله لها سيدها حتى لو كان هو على خطأ وهي على صواب. يقول لها إنه سيقتطع من أجرتها كذا وكذا وكذا، بسبب كذا وكذا وكذا، ولا تعترض. يحسب لها هو ويعطيها ـ وهو يمزح ليرى ردّة فعلها ـ سبعة وثلاثين روبلا، وبدلاً من أن تجادله تقول له : Merci أي: شكراً. ينهي سارد القصة/ بطلها قصته بالعبارة التالية: ما أسهل أن تكون قويا في هذه الدنيا.
السيد كان محترماً، فهو يعطي الخادمة التي وافقت على السبعة والثلاثين روبلا ثمانين روبلا هي ما تستحقه، ويخاطبها قائلاً: “ولكن هل يمكن ان تكوني عاجزة إلى هذه الدرجة؟ لماذا لا تحتجين؟ لماذا تسكتين؟ هل يمكن في هذه الدنيا ألا تكوني حادة الأنياب؟ هل يمكن أن تكوني مغفلة إلى هذه الدرجة.
ابتسمتْ بعجز فقرأتُ على وجهها: “يمكن!”.
وأنا أمعن النظر في واقعنا أرى مغفلين كثيرين يصمتون على الظلم الذي يوجه إليهم، ولا أدري لماذا ؟ معلمات رياض الأطفال في بلادنا لا يختلفن في سلوكهن عن سلوكها : 600 شيكل أو 700 شيكل في الشهر ويصمتن. هل أقول : واحياناً أساتذة في جامعات (رتبة بروفيسور) يصمتون إذا ما تعرضوا لظلم ولا يحتجون خوفاً من المسؤولين؟ كأننا لا رحنا ولا جينا. كأننا.
2 ـ المتمارضون :
الصيدلانية زوجة الجنرال تعالج الناس ولا تعرف أنهم يتمارضون ليكسبوا منها وليستغلوها.
إنهم يريدون أن يأخذوا دون أن يبذلوا جهداً. يأتيها مريض ويشكرها على حبات الدواء الثلاث التي أعطته إياها، فقد فعلن فعلها في جسده الذي عجز الأطباء عن علاجه مدة ثمانية أعوام. والمريض بحاجة إلى طعام فما جدوى الصحة إذا كان لا يجد ما يعيش به.
ولأنها صدقته وسعدت بكلامه عما فعلته حباتها الثلاث به، فقد قررت أن توفر له ما يريد حتى يبذر البذار ويزرع الأرض، وحين يغادر تسقط من جيبه ورقة حمراء فيها حبات الدواء الثلاث، وتكتشف الصيدلانية أنه خدعها. المرضى يشتمون الأطباء أمامها لكي تعطيهم، فكلامهم يشعرها بأهمية ما تقوم به وجدواه، ولكنهم مخادعون. هكذا تشعر بالألم وتعذب روحها حقيقة كريهة ثقيلة… ما أخبث الإنسان!
وأنا أقرأ القصة تساءلت: كم من متمارض بيننا؟ كم من مخادع يحب أن يحصل على الأشياء هكذا، دونما عمل؟
3 ـ ابنة البيون :
البيون اسم قديم لانجلترا، وتأتي القصة على إنجليزية مكثت عشر سنوات في روسيا، ولم تتعلم الروسية، خلافاً لأي إقطاعي/ ثري صغير روسي يذهب إلى لندن، حيث يتعلم الإنجليزية بسرعة.
ابنة البيون تحتقر الآخرين وتتعالى عليهم ولا تعتبرهم بشراً. الإنجليزية دمية ملعونة عيناها كبيرتان تصطاد السمك وتتعبد وتنظر إلى كل شيء باحتقار “تتعالى على الغوغاء.. لا تعتبرنا بشراً”.
لم أقرأ الأدب الروسي كله لأقول إن هذه هي الصورة التي يعكسها للإنجليز وفي أدبنا غلبت هذه الصورة أيضاً، وقليلون من أدبائنا من أبرز لهم صورة إيجابية، والسبب: الانتداب الذي أدى إلى ضياع فلسطين. هل تتذكر قول أبي سلمى :
لو كان ربي انجليزياً دعوت إلى ………. الجحود
4 ـ الصول بريشيبييف [بريشيبييف] الصول متقاعد عسكري يريد أن يسير الناس على هواه، فهو يتدخل في كل كبيرة وصغيرة وينسى أن العالم تغير وأن هناك محاكم وقضاة ومسؤولين مختصين. لا يريد أن يضحك الآخرون، ولا يريد أن يخرج الناس عن العادات والتقاليد ويتصرفوا على هواهم. كأن الدنيا لم تتغير، وحين يعرف أنها تغيرت تبدو له الحياة مستحيلة.
كثيرون منا مثل الصول، يريدون أن يسيّروا الآخرين على هواهم، ويريدون أن يعيش الآخرون في الماضي. وربما احتاجت هذه القصة لكتابة مفصلة!!

شاهد أيضاً

بدء البث التجريبي لأول تلفزيون ذكاء إصطناعي في العالم العربي

(ثقافات) بدء البث التجريبي لأول تلفزيون ذكاء إصطناعي في العالم العربي جميع المذيعين والمذيعات والبرامج …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *