تحولات عبد الرحمن بدوي

(ثقافات)

 

تحولات عبد الرحمن بدوي

د.عباس عبد الحليم عباس

د. عباس عبدالحليم عباس

   ” المخفي أعظم ” هذه العبارة الشائعة ربما كانت تعلن عن جانب مظلم في أمر يبدو ظاهرة أكثر مما يبدو باطنه، لكن القضية في حالة الفيلسوف والمفكر المشكِل عبد الرحمن بدوي مختلفة، إذ أن المخفي هنا أكثر إشراقاً من المعلن.

     لقد شكّل عبد الرحمن بدوي خلال القسط الأكبر من حياته العلمية ضداً ونقيضاً مباشراً لثوابت الفكر العربي والإسلامي عبر مرحلتي النهضة والحداثة، فقلما أصدر بحثاً أو كتاباً دون إثارة زوبعة أو معركة فكرية شرسة كان هو طرفها الأول، وكان علماء الدين والفكر الوسطي طرفها الثاني، وبدوي من المفكرين والفلاسفة العرب المعاصرين الذين أعادوا للذاكرة العربية شخصية المفكر الموسوعي الذي يقف بحجم مشروع فكري وثقافي ضخم،وأذكرفي هذا السياق ان نتاجه العلمي بلغ 120 كتاباً، كانت الفلسفة أهمها، فهو الذي أدخلنا إلى الفلسفة الغربية من أوسع أبوابها فاستحق بجدارة لقب ( رائد الفلسفة الحديثة في مصر والعالم العربي ).

     كما وصف أحد الباحثين عبد الرحمن بدوي (زكي الميلاد، صحيفة عكاظ، 18 مارس 2003م)بانه من أكثر المفكرين والفلاسفة العرب قرباً وتشبهاً وتقمصاً بأولئك الفلاسفة الذين طالما عايش نصوصهم وتوغل في علومهم واكتسب معارفهم، ليس بالنقل عن غيرهم، ولا بالترجمة من لغاتهم، وإنما بالعودة إلى أصول نصوصهم، والتمكن من اللغات التي كتبوا وصنفوا بها مؤلفاتهم، فقد كان بدوي يتقن قراءة وكتابة وترجمة اليونانية والألمانية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والأسبانية. وهو الذي عرف بهم، وترجم لهم، وانتمى إليهم، وكأنه أراد أن يقترن ويمتزج ويُعرف بهم. وحينما قطع صلته كلياً بالعالم العربي احتجاجاً على واقع الثقافة والمعرفة فيه، واختار العيش في أوروبا، فكأنه أراد أن يلتحق بالفلاسفة هناك ويعيش في مدينتهم ومدنيتهم وعصرهم، وليقول بأن الفلاسفة لا مكان لهم في العالم العربي، أو لا يجدر بهم العيش والحياة فيه. ولم يكن يقتنع بأحد من المفكرين والأدباء الموجودين في العالم العربي، ويرى نفسه متعالياً عليهم كما ظهر ذلك في مذكراته التي أثارت جدلاً واسعاً. وحينما تذكرته مصر ومنحته جائزة الدولة المصرية التقديرية سنة 1998م تكريماً وعرفاناً لجهوده وعطاءاته، رفض الحضور لتسلّم الجائزة .

   يضاف إلى ذلك أن بدوي جعل من المعرفة محور حياته كما هو شأن الفلاسفة الذين جعلوا من العلم والمعرفة عشقهم ومنسكهم،فقد عاش بدوي وحيداً بدون عائلة وأهل وأصحاب منقطعاً كلياً للبحث والتأليف والترجمة والتحقيق، حيث أمضى حياته بين الكتب والورق والمراجع والمخطوطات والوثائق، يألف عزلة الفلاسفة ووحدانية المتصوفة، وينفر من الحياة الاجتماعية وصحبة الناس ومخالطة الأصدقاء والخلان، مقدماً عليها صحبة الكتب والمكتبات، فهو وإن لم يكن متصوفاً في حياته السلوكية إلا أنه كان متصوفاً في طريقة علاقته بالعلم والمعرفة. لذلك كان غزير الإنتاج والتألف، فمؤلفاته التي تربو على المئة والعشرين كتاباً جمعت بين التأليف والتصنيف والتحقيق والترجمة، وكانت من الإثراء والتنوع بحيث شملت مختلف حقول المعرفة الإنسانية. وهذا الإثراء والتنوع هو من ملامح تشبهه بالفلاسفة أيضاً الذين عرف عنهم شمولية المعرفة والإحاطة بحقول علمية متعددة المجالات والاتجاهات. وهناك من يصف ما أنجزه بدوي من مؤلفات بأنه بمثابة مكتبة كاملة متعددة الاختصاصات، وهي المكتبة التي مر عليها أعداد كبيرة من أهل العلم وطلبة المعرفة، ولا تكاد تخلو مكتبة في العالم كله من بعض مؤلفاته. وإذا كانت شهرة بدوي بدأت مع كتابه الفلسفي الأول “الزمان الوجودي” فقد عُرف في المنطقة العربية بانتسابه إلى الوجودية التي أصبح رائدها وممثلها والمعرف بها والمدافع عنها. وفي ذلك الوقت أثنى الدكتور طه حسين على بدوي واعتبره مجدداً وليس مجرد ناقل، وإنه أدخل الوجودية إلى الفكر العربي في وقت أدخل فيه سارتر هذا المذهب إلى اللغة الفرنسية. ويرى بعض الكتاب العرب المعاصرين بأن أهمية بدوي تكمن في أنه طرح السؤال الوجودي في الفكر العربي، وقام بتعريب الوجودية وتأصيلها عربياً.

    وانا أتساءل هنا لمَ لا يُدرّس هذا العلَم وأمثاله في مدارسنا، بل في معاهدنا وجامعاتنا؟! غير أن ثمة جانب إشكالي كبير في شخصية بدوي وفكره وهو ذلك التوجه الصراعي الذي عهدناه عنه، فمنذ صدور كتابه الأول “الزمان الوجودي” أعلن عن نهج مغاير لحقبة المفكرين والأدباء المصرين في القرنين التاسع عشر والعشرين أمثال الطهطاوي وأحمد لطفي السيد وطه حسين وأحمد أمين وزكي نجيب محمود وآخرين، مما كشف عن نزعة هجومية عنيفة، تكشف عن شخصية عنيدة وفكر غير مهادن، غير أن الفصل بين الشخصي والفكري ربما كان ضرورياً جداً في حالة بدوي من أجل كشف حقيقة منجزه الثقافي ومشروعه المعرفي الفلسفي.

     نعم لقد عرف الجميع أن بدوي كان بحسب ما يروي الكاتب سعد هجرس شخصاً “صعب المراس” على الصعيدين الشخصي والعام، فعلى الصعيد الخاص أمضى حياته وحيداً بلا أسرة أو زوجة أو أبناء أو حتى أصدقاء.. وعلى الصعيد العام فإنه كان بالغ الحدة وكثير العداوات.. والدليل على ذلك أنه في مذكراته “سيرة حياتي” لم يترك رمزاً واحداً من رموز مصر السياسية أو الفكرية أو الأدبية إلا ومرغ أنفه في التراب.. بدءاً من سعد باشا زغلول حتى جمال عبد الناصر، ومن محمد عبده حتى زكي نجيب محمود، ومن أحمد أمين حتى عباس محمود العقاد.

     فسعد باشا ” تاريخه شائن ينضح بالخيانة والوصولية وموالاة الإنجليز المحتلين”، وجمال عبد الناصر “أحمق” و”أخرق” و”غشوم” و”جاهل” و”مستبد”.

     ومحمد عبده “ضئيل الإنتاج..ضحل لا يفيد إلا المبتدئين.. متواطئ مع طاغية الاستعمار البريطاني في مصر اللورد كرومر.. ومصلح ديني مزعوم “لم يفعل شيئاً يعتد به في مجال الإصلاح” و زكي نجيب محمود “لم يكن له من الإنتاج إلا مقالات بسيطة.. مستواها لا يزيد على مستوى طالب في مرحلة الإعدادية”.

     وأحمد أمين “حقود ضيق الأفق تأكل قلبه الغيرة من كل متفوق.. ويسرق أعمال الآخرين” أما عباس محمود العقاد فقد “كان طوال حياته مأجوراً من الأحزاب.. يستخدم سلاطة لسانه وما يزعمه لنفسه من قوة عارضة للتطاول على خصوم من يستغل للدفاع عنهم”.

     باختصار.. يندر أن نجد للرجل رأياً إيجابياً في شخص واحد، اللهم إلا الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي كان الاستثناء الوحيد الذي نجا من لسان عبد الرحمن بدوي وهجائه الحاد العنيف، وحظي بمديحه وإطرائه.

     وقد عبر هو نفسه عن آرائه السلبية  في البلاد والعباد،والحكومة الأهالي معاً، حيث قال في سيرته الذاتية “يئست من كل شيء في مصر.. حاكم طاغية مستبد طياش، وشعب مسلوب العقل والإرادة مطواع، لكل ظالم قاهر، وطبقة “متعلمة” تتنافس وتزايد في تملق الحكام والتزلف إليهم بمختلف الأساليب كما يلقي إليها هؤلاء بعض الفتات المتناثر من موائدهم المحتكرة لكل أصناف السلطة”.

     وكان هذا الرأي السلبي هو سبب تفضيله للإقامة في منفاه الاختياري بالعاصمة الفرنسية باريس طيلة الأربعين عاماً الماضية.

     وهذا الدور يفتح لنا باب البحث في إشكالية أخرى هي علاقة المثقف بالسلطة، وهو في حالة عبد الرحمن بدوي ملف مثير، لأن الرجل قبل ثورة يوليه كان “فيلسوف” حزب مصر الفتاة، المعجب بموسوليني وهتلر، ولكنه انقلب على أحمد حسين زعيم الحزب بعد رسالته من المعتقل إلى مصطفى النحاس باشا التي يعلن فيها “توبته” عن انتقاداته لحزب الوفد لأنه “مازال طفلاً يحبو في السياسة”. فغضب عبد الرحمن بدوي من ذلك غضباً شديداً فقال: “لم نستطع احتمال هذا التصرف الشائن المهين الصادر عن أحمد حسين.. لقد أهدر بذلك كل نضالنا السابق”.

     لذلك كله لم ينج بدوي من هجومات وعنف مضاد، فهذا عاطف العراقي في كتابه (عبد الرحمن رائد الفلسفة العربية والتنوير) يتهم بدوي بأنه مفكر كمي من الدرجة الأولى، أي أنه أهتم بالكم لا بالكيف، وأنه مفكر توفيقي، وهذا طعن مباشر بإبداع بدوي وتفرده، فضلاً عن الشك في موقفه من الصراع العربي الإسرائيلي .

   وربما كانت مذكراته التي نشرها في جزأين عام 2000م بعنوان “سيرة حياتي” عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر هي أبرز محطات الإثارة في الحمله عليه.

     ومع ذلك فقد وجد بدوي أصواتاً دافئة كانت عزاءه وسلواه، فحسبه موقف عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في مجلة الكاتب المصري قبل أكثر من نصف قرن من الزمان حين قال ما نصه: “يوجد في مصر شاب أشعر بضآلتي إذا ما قورن اسمي باسمه، ذلكم هو عبد الرحمن بدوي”، مشيراً إليه بأنه أول فيلسوف مصري، وكان طه حسين عضواً بلجنة المناقشة التي منحت الدكتور بدوي- وهو في سن الثامنة والعشرين- درجة الدكتوراه بمرتبه الشرف الأولى على رسالته بعنوان “الزمان الوجودي” التي صاغ فيها مذهباً فلسفياً لم يسبقه إليه أحد؛ حيث فسر الوجود على أساس الزمان في نسق منطقي أشبه بالنسق الرياضي.

     وبالرغم من كل ما سبق فأن بدوي الفيلسوف المؤسسة قد حول اتجاهه تحولاً جذرياً، فمن الإعجاب الشديد بالمستشرقين ومؤسستهم، وتعمقه في الاتجاه والوجودي، وحقده على العديد من أعلام التاريخ العربي الإسلامي، وعلى الرغم من تشاؤمه ووحدته من هذا كله انتقل بدوي إلى الضفة الأخرى نقلة عجيبة ومدهشة من خلال تحول جذري في مسلكياته الفكرية، وطبيعة انتسابه المرجعي، والمكون لهويته الذاتية. وقد كشف بدوي عن ملامح هذا التحول حينما فاجأ الكثيرين بإصدار كتابين من نوع مختلف، وهما في الرد على المستشرقين، الأول في الدفاع عن القرآن الكريم بعنوان “الدفاع عن القرآن ضد منتقديه”، والثاني عن النبي محمد “ص” بعنوان “دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره“.

   لقد ظهر بدوي في هذين الكتابين ناقداً بطريقة غير معهودة منه للمستشرقين حيث ، وصف كتاباتهم بالضلال والخداع والتعصب والحقد على الإسلام والقرآن ونبي الإسلام. وهو الذي كان يهتم بالدفاع عن المستشرقين والترويج لأفكارهم. وترسخ هذا التحول وتعمق حينما أظهر تراجعه عن منظومته الفكرية السابقة، والتصاقه بالدين ( كما كشف عن ذلك في حديث له قبل وفاته وهو على فراش المرض بقوله: لا أستطيع أن أعبر عما بداخلي من إحساس بالندم الشديد لأنني عاديت الإسلام والتراث العربي لأكثر من نصف قرن، أشعر الآن أنني بحاجة إلى من يغسلني بالماء الصافي الرقراق، لكي أعود من جديد مسلماً حقاً. إنني تبت إلى الله وندمت على ما فعلت، وأنوي إن شاء الله أن أكون جندياً للفكر الإسلامي، والدفاع عن الحضارة التي أشادها الآباء والأجداد، والتي سطعت على المشارق المغارب لقرون… لهذا فأنا في الفترة الحالية أعيش مرحلة القرب من الله تعالى، والتخلي عن كل ما كتبت من قبل، من آراء تتصادم مع العقيدة والشريعة، ومع الأدب الملتزم بالحق والخير والجمال. فأنا الآن هضمت تراثنا الإسلامي قراءة وتذوقاً وتحليلاً وشرحاً، كما أني قرأت الأدب والفلسفات الغربية في لغاتها الأم… وتبين لي الغي من الرشاد، والحق من الضلال). ( زكي الميلاد، عكاظ، 18 مارس 2003 ).

     غير أن من الإنصاف الإشارة إلى أن تحول بدوي هذا لم يبدأ مع تاريخ نشر هذين الكتابين 1999م، بل أن دراساته الدالة على إنصافه لتراثنا العربي والإسلامي يمكن أن تعيدها إلى مرحلة سابقة اعتد فيها بدوي بالأدب العربي وفكر الصوفية وأثر أدبنا وفلسفتنا في أوروبا، فضلاً عن انتقاده الشديد لأسماء عديدة من الفلاسفة الغرب مثل مونتجمري وات، وفلهاوزن، وهوتنجر، كما أن مما يحسب له اعترافه بالخطأ، فقد ردد أكثر من مرة اعترافه بأن الفلسفة الوجودية هي فلسفة المقابر والموت، لأن سارتر اليهودي تحدث عن الموت الدمار والخراب والوحدة والقلق والفزع والخوف والغثيان والعدم، وقد التقت كل هذه المعاني السوداء في قلمه وفي خياله، وقد أكد هذا الفيلسوف ذلك أكثر من مرة، حيث كان يري أن أخطر ما في الوجودية هو إنكارها لله جلت قدرته، والسخرية بالأديان وازدراؤها، واعتبار الإيمان بالله عائقاً كبيراً يحول دون الإنسان وتحقيق الحرية. وأن التعاليم الربانية على الإنسان جد خطيرة ؛لأنها تضيع عليه فرصة التمتع بالأهواء والتمرغ في الشهوات.

     ويرى سعد اللاوندي الذي سجل العديد من المحاورات مع بدوي أنه: كان يزعجه كثيراً الكتابات الغربية المتعجلة التي تتناول الإسلام، وكان يقول: لقد كرست كل جهودي في السنوات الأخيرة للدفاع عن الإسلام والتصدي بالتفنيد والتحليل لكل الكتابات الغربية المغرضة، لكن أحداً في عالمنا الإسلامي لا يدري أو يكاد يحفل بما أكتبه، لأني أختلف عنهم في تحليلي ومذهبي وعقلانيتي، والمؤسف أنهم – سامحهم الله – لا يحفلون إلا بكتابات ساذجة تضر الإسلام أكثر مما تفيده وينفقون في ذلك الأموال الطائلة.

     وذكر أنه تألم كثيراً لأن باحثاً يهودياً يدعى أندريه شوراكي قام بوضع ترجمة للقرآن الكريم واعتبرها بدوي “عاراً ” على الترجمة والمترجمين في كل زمان؛ لأنها مليئة بالاعتداءات الصارخة على قداسة النص القرآني؛ فشوراكي هذا استوحى معانيه ومدلولاته في الترجمة من ألفاظ إباحية كان من نتيجتها أن حفل النص المترجم بتعبيرات فاضحة؛ فكلمة “الحمد” – مثلاً – جعلها هذا المترجم مرادفة “للرغبة الجنسية”.

     وأخيراً أود أن أشير إلى تلك الدراسة المهمة التي نشرها بدوي عن ( أبحاث المستشرقين في تاريخ العلماء عند العرب )، ربيع 1978م،حيث يظهر فيها تقديراً جماً لمنجز العرب العلمي وجهود علمائهم في هذا الإطار.

     رحم الله عبد الرحمن بدوي ونفع بعلمه وقد مضت سنة الله في خلقه بأنه ” إنما يخشى الله من عباده العلماء “.

 د. عباس عبد الحليم عباس (   الجامعة العربية المفتوحة)

Abbas_176@hotmail.com

شاهد أيضاً

الاُنس بمعاشرة الكُتب

(ثقافات) الاُنس بمعاشرة الكُتب د. طه جزاّع[1]  لعل من أصعب أنواع الكتابات، تلك التي تتناول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *