قراءة في رواية المرتزق رقم 9 – لسميحة التميمي

(ثقافات)

 

قراءة في رواية المرتزق رقم 9 – لسميحة التميمي

كان عليها أن لا تموت!

 *الدكتور خالد بن سفير القرشي –المملكة العربية السعودية

العناصر :

أولا : مقدمة لابد منها.

ثانيا : الثيمة الرئيسة للرواية.

ثالثا : الشبكة التعبيرية الرافدة لها.

رابعا : الأبعاد الأدبية.

خامسا : رمزيات تثري الخيال.

سادسا : مفارقات بديعة.

أولاً : مقدمة لابد منها : أود البدء من مراد الله، يوم أراد الوجود الإنساني على الأرض، يوم أراد جل في علاه، أن يجعل الإنسان خليفة في الأرض، فقال للملائكة : ﴿ إِنّي جاعِلٌ فِي الأَرضِ خَليفَةً قالوا أَتَجعَلُ فيها مَن يُفسِدُ فيها وَيَسفِكُ الدِّماءَ وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنّي أَعلَمُ ما لا تَعلَمونَ﴾.

فأراد أن يجعلنا في الأرض أقواما يَخْلُف بعضُنا بعضًا لعمارتها. فقالت له الملائكة : ما الحكمة في خلق هؤلاء؛ خشية الإفساد في الأرض وإراقة الدماء ظلمًا وعدوانًا، يا ربنا نحن طوع أمرك، ننزِّهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك، ونمجِّدك بكل صفات الكمال والجلال؟ فقال الله لهم: إني أعلم ما لا تعلمون من المصلحة الراجحة في خلقهم.

ومن هذه الآية الكريمة الواضحة الجليلة الصريحة، تتجلى لنا مخاوف الملائكة، مخاوفها السابقة لنا، ولكل هذا الوجود الإنساني الذي نراه ونعيشه، ونرى عظائمه وعواقبه، من إفساد في الأرض، ومن إراقة الدماء! .. أقول هذه المقدمة التذكيرية بالوجود الإنساني الأول، وبلحظة ميلاه، لنعلم أننا أمام رواية توافق الملائكة حسا وأدبا، رواية وجودية إنسانية أصيلة المبدأ، عميقة الغور، بعيدة المرمى، نبيلة الغايات، وجدانية الفيض، أدبية الصبغة، صوفية النزعة!

ولأن الكاتبة عربية أردنية وترجع أصولها إلى نجد الخليج وتسكن في الشارقة، فقد استحقت أن تكون متحدثة سامية الشعور، مشرقة الحس والوجدان، وبارعة في تجلية عِبر الزمان، وساردة لمواعظ حروب الإنسان لأخيه الإنسان، وما اشتملت عليه من محن وامتحان.

ولأنها شاعرة وروائية وفيلسوفة، فقد جاءت الرواية إنسانية المنزع، عظيمة الغايات، مترفة الفلسفة، عميقة المعاني، بعيدة المرامي؛ وأشهدت قارئها على عاقبة الحروب، وبشاعة ويلاتها، ولم تركسه في أحزانها، وإنما عبرت به عبور الكرام .. ونقلته خلال مشاهد الدماء وبؤس المتحاربين، ولم تلطِّخه بدماء ذئابها ولا بدغل إخوة يوسفها، إذ أنها عرَّضت بهم تعريض المتصوفة -الطاهرة نفوسهم- فحامت حول بواعث الحروب ولم تتورط بشيءٍ منها.

ومن اللافت أن تكتب امرأة مسالمة وادعة في أحضان الشعر الوجداني المتصوف، المحاطة بالكتب والرفاهية رواية فلسفية عن خطورة ويلات الحروب وشدة ضراوتها، وتصور أحداثها كما لو أنها ابنة الحرب وسيدة الطائرات الحربية. وما هذه المفارقة الملهمة، والسرد الروائي البديع إلا لقوة العرفان، وغزارة الوجدان، وعمق إحساس الكاتبة بأخيها الإنسان، حتى أصبحت فيلسوفة بالضرورة، وقائداً أعلى لحرب الرواية؛ بموجب المسؤولية الإنسانية، بل أصبحت مبعوثة سامية للدفاع عن مضامين الرسالات السماوية، وعن محكمات الأديان!

ثانياً : الثيمة الرئيسة في الرواية :

كلنا نعلم أن ثيمة الأعمال الروائية، لا تنطق بها فصول العمل الروائي صراحة، ولكن الكاتبة حشدت إليها كل سحابة ماطرة، وأنبتت على أسطرها كل لفظة دالة مورقة، وعبرت إليها من خلال شبكة تعبيرية شاعرة شعورية كثيفة .. والذي أعتقده، أن الثيمة الرئيسة لهذا العمل الروائي الممتد، هي “الكرامة الإنسانية”

وبحكم الإبداع، لم تصرح بهذه الثيمة الرئيسة تصريحا، وإن ألمحت إليها في مواضع متفرقة بعبرات موحية، مثل : “صيانة العقد الذي بيننا” و “الكمال الروحي” و “الأمان العاطفي” و “قشعريرة المحبة”.

وعبَّرت عن افتقادها بعبارات موحية أخرى، مثل :

‏”النزق الأول” و “الشتات الأخير” و “الكيان المتأزم المريض” و “الصراعات الروحية”.

حتى أنها وصفت عذابات الشوق في ظل الكرامة الإنسانية بأنها “اشتياقات آمنة” ووصفت الموت بأنه “موت أبيض” وأنه “موت نظيف”!

ثالثا : الشبكة التعبيرية الرافدة لها:

أرفدت الكاتبة لتعزيز هذه الثيمة الرئيسة في الوجدان، روافد أدبها الجم، وأمطرت سحائب قاموسها الإنساني الغزيز، لتنبت على أسطر الرواية كل لفظة دالة وارفة، وعبرت إليها عبر شبكة تعبيرية وجدانية عميقة الحس؛ فلم تدع لفظة تعكس كرامة الإنسان إلا وجعلتها في سياق دال، بعد أن تنفخ فيها من روحها،

فجاءت بالخوف والحب والحرب، مئة مرة أو تزيد، ونثرتها في كافة الفصول، كما نثروا فوق العروس الدراهم.

وحشدت لها المشاعر الإنسانية كلها :

بداية من الحياة وانتهاء بالموت، ومرورا بالهزيمة والنصر، الخير والشر، والتملق والقلق، والحزن والحنين، والدم والبؤس، الشرف والكبرياء، والأمان والعزلة، والعزاء والوحشة، والشوق والنسيان، والعدالة والظلم، والأحلام والألم، والأمان والأمل.

وجعلت الخيانة منبع الشرور كلها، وأساس المفسدة الحسية والمعنوية في آن واحد، بأن جعلتها قاسما مشترك في هزيمة الحرب واجهاض الحب، فبالخيانة قتل قتلى الحرب، وبالخيانة قتل الحب الحب!

ولم تنس الدموع التي افاضت بها من حيث أفاض الناس.

رابعا : الأبعاد الروائية الأدبية :

١- البعد الإنساني : وفيه جعلت الكاتبة الحب وجودا، والحرب عدما. فلا وجود للإنسان ولا كرامة له تحت القصف والعنف، ولا وجود لحياته إلا بالحب وفراشاته وأزهاره وبلابله المغردة.

وأحسنت الكاتبة أيما إحسان؛ أن جعلت الأوطان أوعية الحب وأوعية الكرامة، وأوعية الشرف، وإن جالت فيها الخيانة وصالت، أو تسللت إليها في جنح الغدر كانت أوعية الحرب والدمار والضرار.

فلا وجود للإنسان إلا في أبعاد إنسانية آمنة، وهذه الأبعاد كفيلة بها الأوطان وأفئدة الحبيبات، وهذا الذي استطاعت الكاتبة أن ترينا إياه في كل حرف وكلمة دارت بين نورس الماجد وبهيجة العربي، وفي كل معركة دارت رحاها بقيادة القائد العام وأعوانه وجنوده الذين لم نرهم!

والجدير بالذكر أن الرواية تفيض إنسانية وتحتشد بكل الفلسفات التي تحاول حماية المشاعر والأحاسيس الوجدانية، من خلال كتابة إبداعية تحاول الحيلولة دون آلام الإنسانية جمعاء، ومعالجة أوجاعها، وتطبيب مصائبها التي اصابتها في مقتل؛ فجعلت الأم محور إنسانيتها، والحب أملها، والحبيبة سلوتها، والولد ثمرة كبدها، والوطن نطاقها، والكرام قيمتها التي لا تقبل المساواة ولا المقايضة، وجعلتها أعظم غاية إنسانية مرجوة من هذا الوجود، ولن يقطع طريقها إلا العنصريات البغيظة، أو دعاوى الأفضلية الخرقاء المزعومة!

وأجادت الكاتبة أن جعلت الموت في صفحات روايتها، كما هو في صفحات الواقع، مصيبة لا حول ولا قوة للإنسانية فيه!

وأجادت الكاتبة أيضا، جلاء منزلة الحب في النفوس، فطرة، وحاجة، واكتمالا، وجلاء الحرية قيمة أصيلة في أعماق النفوس، مهما تعددت أعراقها ومنازلها، وأحسابها وأنسابها؛ فالإنسان بولد حرا، محبا، مهما استعبدته الدنيا، ومهما تبغظت في وجهه الأحوال.

٢- البعد الروحي والوجداني : وفيه سمعنا دعوات الأمهات، ورأينا دمعات الآباء، واستمتعنا بدفء الحب ودفء البيوت والذكريات، وشممنا الأزهار، وقطفنا الورود، وجمعنا الرياحين والأعشاب العطرية، وجلسنا جلسات السمر، وتناجينا في كل الليالي .. إلا ليلة لا قمر فيها.

ولأن الطهر الروحي غاية المتصوف، فإن رحى حرب الرواية دارت حول حروب التطهير، وحول محاولات الطهر، فالرواية، كلها، جاءت من أجل الطهر الروحي وفاضت به وله!

جاءت الرواية بالوجد في طياتها، ومن أجله سال مدادها، ولصدقه جاء مددها، فسمت به اللغة، وأعلى كعبه العرفان، في تبادلية بديعة بين ضمير المخاطب وضمير المتكلم، مما جعلها مناجاة صوفية مهابة، خفيَّة التوقد، مرهفة الحس، حاضرة الشعور، وموظفة للأحداث توظيفاً رشيقاً شاعرياً منحها بُعداً فريداً متحرراً من النمطية والتقليد.

٣- البعد القيمي والأخلاقي : وفيه حجر زاوية هذا العمل الإبداعي الفريد، وفيه ذروة التفنن، وحسن الاختيار، وفي هذا البعد أيضا، جوهر الثيمة الرئيسية، وعنوان الرواية : المرتزق رقم (٩)  ليعكس وصف “المرتزق” ما ينطوي عليه من رمزية عالية الدقة؛ تشي بالتناقض الحاد الذي صنعته المادية الحديثة، حينما جعلت من “روح” الإنسان “مادة” تباع وتشترى بالأموال، في جبهات الحروب، تحت مبررات سخيفة لم تطل إلا الأرواح!

وفي إشارة فلسفية بارعة، تشير الكاتبة إشارة جوهرية عميقة إلى أن الكرامة الإنسانية يمحوها -ولا محالة- تسليع الأنفس، أعني جعلها سلعة يتم تداولها كتداول الأشياء المادية الجامدة، وجعل القيمة المادية فاعلة فيها، تشرق بها، وبها تغرب، تحييها وتميتها، وعلى هذه المفارقة قامت الرواية، نصرة للكرامة، واعلاءً لها، ورفعة لرايتها، ونصرة لمحكمات الأديان السماوية، ومشتركات الإنسانية، وكل مبادئ الذوق المعتبر، التي تجعل الروح الإنسانية قيمة عليا متعالية على كل القيم.

‏‏وفي ذات السياق جاءت إلماحات متعددة، في مواضع متفرقة، تذكرنا بوجه آخر للإرتزاق، ألا وهو الإرتزاق بالدين، لتكمل الصورة  بنقيضيها، الإرتزاق بالنفس، والإرتزاق بالدين، وبضدها تتميز الأشياء، كما تميزت جلالة الكرامة الإنسانية، بضدها المتمثل في دناءة وانحطاط الإرتزاق بالأنفس والأديان؛  فالنفس الإنسانية، ودين الله، أعلى من المساومات، وأجل من أن نقايض بهما شيئا من ماديات الدنيا، مهما عظمت وجلت، فلا شيء أعظم من النفس الإنسانية التي كرمها الله وحملها في البر والبحر.

خامسا : رمزيات تثري الخيال.

١- “نورس الماجد” بطل الرواية، تحيل تسميته إلى “النورس الطائر” في رمزية عالية تقود القارئ إلى حالة اغتراب النفس الإنسانية، اغترابا يشبه اغتراب النوارس التي تجوب الموانئ و البحار وتعبر السواحل وتقضي حياتها في الوداع والترحال، المهدد بالزوال .. وكأن نورس الماجد “هو الروح الإنسانية” التي ماتزال حائمة تبحث عن بهجة دائمة آمنة حقيقة بهذا الوجود، لتلقي من أجلها عصا الترحال، وتسكن بموجبها إلى وطن!

٢- جاء العنوان حاملا الرقم “٩” كونه الرقم الأعلى في الأعداد الآحاد، وكأن العالم اليوم قد بلغ الذروة في مطامعه وجشعه، فإن زاد العد رقماً واحداً فلن تظل القيم والمنازل والهيئات على ما هي عليه اليوم؛ ستنشطر القيم وتزداد الأرواح تشظياً، والإنسانية اغتراباً، والأوطان تمزقاً، والكرامة امتهانا.

سادسا : مفارقات بديعة.

من المفارقات البديعة، أن الرواية لم تسلط الضوء الساطع على أبطالها، ولم تلق بالا إلى زمانها ومكانها، في حين أنها، أولت كل اهتمامها بالقيم والأبعاد وشبكتها التعبيرية، وسردياتها الإنسانية الأخلاقية، وهذه مفارقة بديعة، فارقت بها سرب الرويات الأخريات، كي تعطي خصوصية إبداعية لذاتها، فهي تريد، تعميق القيم الإنسانية في النفوس، وإثراءها قيميا وأخلاقيا وإنسانيا، وتريد أن تقول : هذه قصة الإنسان وهذه معاناة الأنفس الإنسانية في كل زمان ومكان، ومنذ فجر البشرية الأول.

وختاما أقول : كان عليها أن لا تموت.. ولكنها ماتت، وانطفأت الحرب، وظلت النوارس على قيد الحياة!

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

تعليق واحد

  1. د. داليا محمد

    تعليق دكتور خالد أكثر من رائع، لم أقرأ الرواية بعد، لكنني تحمست جدا لقراءتها.. شكرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *