نقاش السيري والتخييلي على أشدّه في الثقافة العربية الراهنة، مع توافد روافد جديدة إلى نهر الرواية العربية، لم تكن حياتنا الأدبية تأخذها في الحسبان. وبوضوح أكثر أقصد: الرافد الذي يشقّه الشعراء العرب، في أيامنا الحاضرة. ومع هذا الرافد، صار التساؤل عن ماهية “مادة” هذه الرواية: هل هي مادة روائية، تخييلية، أم مادة سيرية “متسلّلة” إلى الرواية التي لا يدخلها إلا التخييلي الذي ليس له نصيب من حياة كاتبها.
كَتَبْتُ عن هذا الموضوع ،غير مرة، من واقع تجربتي الشخصية بين الشعر والرواية، والكتابة السردية عموماً، وما طرحته عليَّ من أسئلة وأفكار. لكن ليس هذه المرة التي يعيدني فيها إلى هذا الموضوع، أو ما هو قريبٌ منه، مقال الصديق الكاتب العراقي فالح عبد الجبار عن “انتحال” عبد الرحمن منيف مادة روايته “الآن هنا” من تجربة المناضل الشيوعي العراقي، حيدر الشيخ علي، التي رواها لفالح شخصياً. حدَّثنا فالح عما تمكن تسميته المادة الخام، لهذه الرواية (“الحياة” 1 إبريل/ نيسان الحالي). نحن أمام قصة ورواية. القصة هي التي يرويها فالح، ويكشف فيها “المسرح الخلفي” لرواية منيف المذكورة، والرواية هي التي “انتحلها” منيف مما رواه حيدر الشيخ علي إلى فالح عن اعتقاله في سجن نيفين الإيراني (باعتباره جاسوساً عراقياً، وهو الفار إلى إيران من ملاحقة النظام العراقي له )!! سجَّل فالح، مع حيدر، نحو ثلاثين ساعة على أشرطة (كاسيتات) استعارها منه عبد الرحمن منيف. بعد عام على استعارة تلك الأشرطة، يصدر منيف روايته “الآن هنا” (1991) وإذا بها تعتمد “اعتماداً شبه كامل على ذكريات حيدر. كان الاهتمام بتعرية القمع مسّرة لكل من له ضمير، ومبعث اعتزاز لنا أن تجد تجربة حيدر طريقها إلى الانتشار”. الكلمات التي بين أقواس هي من مقال فالح عبد الجبار. فأين المشكلة، ما دامت ذكريات المناضل العراقي حيدر الشيخ علي وجدت طريقها إلى قلم أحد أبرز الروائيين العرب؟ لا مشكلة. ولا إثارة لمشكلة، من أي نوع، طوال سبعة وعشرين عاماً، هي الفترة الفاصلة بين “استعارة” منيف أشرطة فالح عبد الجبار (وعدم إعادتها إليه) ومقالة الأخير قبل يومين.
وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، فقد خطرت في بالي الآن تجربة الطاهر بنجلون مع السجين المغربي عزيز بنبين في معتقل تزمامارت سيىء الصيت. السجين يقبل أن يروي الروائي الشهير تجربته، لتكون مطروحةً على نطاق واسع من القراء. هناك رغبةٌ دفينةٌ بالشهرة عند السجين تريد أن تتسلل إلى شهرة الروائي المكرّسة، ورغبة في الروي والقص والسرد لا تعرف كيف تتبلور إلا على يد كاتب ضليع بالمهنة! هذا تفسيري المقتضب، وربما غير العادل، للعلاقة بين “الحياة” و”التخييل”، بين السرد الخام وتقنيات القصّ. ولكن، عندما تصبح الرواية (تلك العتمة الباهرة) شهيرةً على نحو كاسح (بفضل تقنيات القص وخبراته، وربما تقمص الروائي مادة السجين) تثور قضايا بين بطل الرواية، الناجي من مقبرة الأحياء والأموات في سجن تزمامارت، تتعلق بالمادة المروية، ويتبادل طرفا الرواية الكلام والاتهامات. ولكن هذا لم يحصل مع رواية “الآن هنا”. فلم يجلس منيف مع حيدر الشيخ علي ليسجل شهادته الخام، بغية استخدامها في عمله، بل أخذ الأشرطة – الذكريات، للاطلاع عليها فقط، من صاحب الأشرطة والتسجيلات: فالح.
لستُ في معرض التشكيك بقصة فالح عبد الجبار، فالرجل صاحب القصة (حيدر الشيخ علي) لا يزال حياً يرزق، لكنه يتكلم عبر فالح، كما فهمت من المقالة، ويمكن له أن يدلي برأيه لتعضيد مرافعة فالح على نحوٍ حاسم. بيد أن هذا لا يبدّد أسئلةً ترد إلى الذهن فور قراءة المقال من طراز: لماذا الآن؟ لماذا لم تثر هذه القضية عندما كان الروائي، “المنتحل”، على قيد الحياة.
فهناك طرفٌ غائبٌ في المعادلة. لدينا قصة يرويها طرفٌ فيما لا يستطيع الطرف الآخر (المتوفى) الرد، أو التصحيح، أو التعديل. يعي فالح عبد الجبار هذه النقطة: غياب شاهد آخر على الواقعة، فيطلب ممن يعرف شيئاً عنها الإدلاء بشهادته أمام لحظةٍ تكتب تاريخا آخر لرواية “الآن هنا”. يقع هذا كله في باب الواقعة، وليس في باب الرواية التي قد تستخدم الواقعة، ولكنها تنتج واقعةً أخرى هي الواقعة الروائية. فمن المستحيل أن تتطابق الحياة، تمام التطابق، مع الكتابة، إلا إذا كان منيف، بن جلون، وإلياس خوري، قد فرغوا أشرطة حواراتهم مع شخصيات أعمالهم، كما هي على الورق.
_______
*العربي الجديد
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
-
الروائي وشخصياتهعلي نسرتشغل الرواية العربية اليوم مساحاتٍ واسعة من صفحات الكتّاب، سواء على الصعيد الابداعي أم…