*نوري صبيح
تأتي الذكرى الثانية عشرة لغياب الروائي عبد الرحمن إبراهيم منيف(1933-2004) ، صاحب كتاب “لوعة الغياب” الذي ودع أفراد عائلته الذين رحلوا قبل الأوان من الإخوة وأصدقائه الروائيين والكتاب ممن عملوا معه في حقلي الأدب والسياسة .. و ليس غريبا إن يشعر القراء والمثقفون والمفكرون والروائيون العرب ، والسياسيون الذين زاملوه لعقود طويلة شعروا بوجوده رغم غيابه…هذا السياسي الذي انتقل بعد الخيبات السياسية والمواقف المتناقضة وغير المبدئية لرجال الأحزاب السياسية على الصعيد الوطني والإقليمي وارتباطاتها الدولية بهذا الطرف أو ذاك،هذه الأحزاب، التي تصدت للعمل السياسي في ظل صعود المد القومي العربي في نهاية الاربعينات حتى النكبة في سنة 1967.. الذي كرس مبدأ الوفاء للوطن وترك بصماته بين الأعمال الروائية الملحمية والتي تضاهي الروايات العالمية للكتاب الروس والانكليز وغيرهم. في العديد من الإعمال الأديبة الوطنية وتعتبر رواية “شرق المتوسط” (1975) من أوائل الأعمال الروائية من ناقش موضوعة التعذيب والسجن للسياسيين في ظل الأنظمة التي تدعي الثورية والقومية العربية وتحرير فلسطين ..
وجاء رحيل عبد الرحمن من العراق في 1981بعد شن الحرب على إيران ، في أوج دكتاتورية صدام .وانتقل مع عائلته إلى فرنسا حيث استقر في بولونيا القريبة من باريس ، تلك البلدة التي أمضى عدد كبير من مشاهير المنفى أيامهم فيها.هناك كتب عبد الرحمن خماسيته : “مدن الملح” واستغرق انجازها كاملة سبع سنوات ،وكانت بصفحاتها التي بلغت الفين وخمسمئة صفحة الرواية الأطول في الأدب العربي الحديث.
إن الرواية ، وهي ملحمية على صعيدي المدى والطموح ، تقوم بتصوير عمليات التحولات الاجتماعية العسيرة والمعقدة التي تفاعلت مع اكتشاف النفط،مقحمة مجتمعات صحراوية تقليدية في قالب كتل سكانية حضرية مستغلة ومضطهدة ، ومنافسات عشائرية بدوية في صيغة دولة بوليسية ممركز.
تحاول الرواية التقاط طبيعة وإيقاع عالم رعوي (الاعتماد على النفط فقط ) جرى تكنسيه إلى حد بعيد، بغية تسجيل ممارساته وعلاقاته، حكاياته الشعبية ومعتقداته الأخلاقية ، وتسليط الضوء على ما تؤول إليه هذه الأشياء لدى استخراج النفط من الرمال : تسليط الضوء على القفزة الهائلة الحاصلة من حياة صحراوية تقليدية بذهنيتها البدوية وإحساسها الكوني بالزمن إلى أشكال السعار المصاحبة للنزعة الاستهلاكية والصراع الطبقي والتقاتل على الثروة في مدن أكثر من حديثة. انها تصور مجيء الحداثة في هذه الشروط بوصفه ملازما لانتشار الطغيان ، وتصور الثروات النفطية على أنها شر يغذي الفساد.الجشع والضعف الإنساني ، تكون شهودا على سحق حياة الصحراء بحريتها ، باستقلالها وبكرامتها ، تحت عجلات آلة أسطورية عملاقة مقيتة.
تجري الاحداث في هذه الخماسية في ثلاثة أماكن رئيسية وهي : وادي العيون ، حران، وموران . وادي العيون هو الحيز الأول الذي يفتتح به كاتب الراوية ، وهو عبارة عن بقعة خضراء وسط الصحراء القاسية العنيدة . عندما تكتشف الشركة الأمريكية النفط في باطن ارض هذه المنطقة .فجأة يجد سكانها أنفسهم في عصر جديد ، عصر الحداثة والتكنولوجيا . على مسافة بضعة أيام مشيا من وادي العيون تقع مدينة حران ، قرية ساحلية صغيرة ومجهولة ، تتحول خلال زمن قصير إلى ميناء صناعي نفطي ، أما موران هذه الصحراء الغارقة في الرمال والنسيان فتتحول إلى عاصمة دولة حديثة.
يبدأ الجزء الأول من خماسية مدن الملح وهو بعنوان (التيه) فيما قبل الحداثة وما قبل الدولة بوادي العيون حيث تعيش جماعة بدوية ببساطة تقليدية وفي ظل التوحد مع المحيط ، ويحاول تسجيل التاريخ الاجتماعي والجغرافيا الشعبية المنسيين للجزيرة العربية ، في هذه البيئة تظهر فجأة جماعة صغيرة من الأمريكيين ، مزودة بتوصية من الأمير المحلي موجهة إلى الشيخ الذرائعي ابن الرشيد .في مهمة ملغزة لا تفسرها قط للمحليين ، يبادر متعب الهذال ، الاستقلالي المتشدد ، الذي يشك بالجماعة غريزيا إلى مقاومتها .ويغطي هذا الجزء من الخماسية ما يوازي في الزمن الفعلي الأعوام الممتدة من 1933 و 1958 .
في الجزء الثاني( الأخدود) من مدن الملح يتغير المشهد فجأة . فيما يقدم التيه بانوراما محايدة لسلسلة تغييرات سوسيولوجية حاصلة على امتداد عقدين من الزمن ، يتركز (الأخدود) على بضعة أعوام غنية بالاحداث من التاريخ السياسي حيث تصبح العائلة السعودية نفسها – وهي غائبة على نحو شبه كلي عن المسرح في الجزء الأول – محور القصة على خلفية تحويل مضرب الرياض (موران) القبلي إلى عاصمة حديثة .وصيغة الرواية هنا ليست إلا دسيسة قصر، مع بقاء روح القصة – التي تمتد من الموت المفاجئ لمؤسس المملكة السعودية عبد العزيز ( خريبط) في 1953 إلى الانقلاب الذي أطاح بابنه سعود (خزعل) في 1958.
اما في (المنبت) فترتد إلى مصير منفيي الخندق مع استقرار خزعل المطرود وحاشيته في نوع من العنّة الذهبية ببادن حيث تتدهور صحته .
وفي (تقاسيم الليل والنهار) يروي صعود خريبط عبد العزيز التاريخي إلى موقع السلطة بدعم البريطانيين ضد أعدائه القبليين في الجزيرة العربية .
وأخيرا تأتي رواية “بادية الظلمات” لتختتم خماسية مدن الملح وفيها حكايتان واحدة بعنوان “ذكرى الماضي البعيد” تروي قصة سنوات شاب ملك المستقبل فنار( أي فيصل) في ظل حكم أبيه والطريقة التي تم تجريده بها من الخلافة حين نجح أخوه خزعل في إنقاذ أبيه من محاولة الاغتيال التي كان هو نفسه قد دبرها من اجل ان يصبح الوريث، تتبعها حكاية ثانية بعنوان “ذكرى الماضي القريب” تتحدث بالتفصيل عن كيفية قيام فنار لاحقا بإطاحة خزعل في انقلاب . وفي هذا الجزء من الخماسية توزع الزمن على قسمين : يرتد أولا إلى فترة 1920- 1953ثم لا يلبث إن يقفز إلى فترة 1964-1975.
خماسية “مدن الملح” زاخرة بشخصيات إبداعية مفعمة بالحياة ملأى بأناس مثل متعب الهذال ، مفدي الجدعان، شمران العتيبي، صالح الرشدان ، وشداد المطوع، وان الخماسية تتضمن صورا مرسومة ببراعة فائقة لأولئك الذين اقترفوا في الواقع التاريخي جريمة التخطيط لهذه الكارثة واستفادوا منها.
وفي الختام كلمة لا بد منها ولتصحيح الخطأ الشائع بين الكتاب حول هوية والدته(نورا) من حيث الانتماء للعراق أم للسعودية.. وكما تقول شقيقته حصة المنيف المقيمة في عمان الآن، حيث صدر كتاب في عمان-الأردن في ذكرى وفاته العاشرة لأحد زملائه من النقاد . حيث تم تصحيح المعلومة التي تداولها الكتاب العراقيين والعرب، بأن أم عبد الرحمن منيف عراقية (نورا) فهي تقول:
“أما أمنا فقد ولدت هي الأخرى من أبٍ نجدي من ((العيون)) هو ((سليمان الجمعان)) الذي رحل بدوره مع إحدى قوافل ((العقيلات)) إلى العراق. وبعد أن استقر به المقام لبعض الوقت في بغداد تزوج هناك وأنجب ولداً هو «محمد الجمعان» وبنتين هما خالتنا ((منيرة)) وأمنا ((نورة)).
_____
*المدى