(ثقافات)

 بائعة الحليب

 عبدالقادر رالة

ماذا بإمكان فنان أن يفعل حين يحبُ فتاة ولا يستطيع الاقتراب أو الإفصاح؟…
لا .. لا .. لستُ فنانا وإنما شاب هوايته الأثيرة الرسم ،  عاشر الأصباغ وعشق الظل والنور! لكن في مدينتنا الصغيرة يعتبرونني من الرسامين الكبار المتمكنين!
والفتاة جميلة ، حلوة ابنة بائع الحليب ، تسريحة الشعر مميزّة و جذّابة!… .
كُنتُ أفرح لما تقول أمي أن عشاء الليلة سيكون الكسكسى ، وتطلبُ مني أن أبتاع لها كيس حليب أو كيسين ، فانطلقُ مسرعاَ ، لكي أراها وتبتسم لي هي باستحياء فاتن !
وكان الحماس والشوق يتملكاني لما أقفُ أتأمل ملامحها، وكنتُ اهتزُ سرورا لما يكون عدد الزبائن كثير، إذ أضطر للانتظار… والانتظار يعني النظر إليها مدة أطول، وما أمتع ذلك !
غير أن الفتاة لما نضجتْ، وانفجر جمالها أكثر احتجبتْ فجأة، ولم تعد تجلسُ في دكان والدها تبيع اللبن والحليب الرائب!
عذبني اختفاءها أو إخفاءها، أين سُترت؟ خُطبت ْ ، ذهبت إلى الجامعة تدرس ، تجلسُ في البيت تنتظر فارس أحلامها أو مكتوبها ؟ هل ملتْ من بيع الحليب ؟…
ماذا بإمكان فنان أن يفعل ؟  الإجابة واضحة ، تخليد ذلك الحب في لوحة فنية ، كما يفعل عادة الفنانون والشعراء حين يخلدون عاشقاتهم …
وأنا الآن متمرسٌ في الرسم ، متحكم في الظل والنور …
وفي أحد الأمسيات كنتُ مستلقيا على السرير في غرفتي ، أُقلب صفحات أحدى موسوعات الفن باللغة الفرنسية ، تحوي أشهر اللوحات العالمية ؛ والعالمية تعني الفن الأوروبي !
وقعت عيني على الرسم ..
هذا ما احتاجه …
بائعة الحليب لفنان هولندي اسمه فارمير ؛ والهولنديون كانوا سادة الفن في أحد الأزمنة …
ترددتُ في البداية، فنسخ لوحة زيتية بهذه الروعة وهذا المستوى فوق طاقتي، غير أن ابتسامات ابنة بائع الحليب كانت تنقض علي فتمدني بالقوة والتحدي !
وما أن اشتريتُ القماش والإصباغ، وشرعتُ في نسخ اللوحة حتى بدا لي أن الأمر ممكن وليس مستحيلا…
أردتُ أن أغير ملامح بائعة الحليب الهولندية بملامح الفتاة التي عذبتني لكني فشلتُ،  ربما لأن سنحتها متذبذبة غير مستقرة في مخيلتي ، ولم استطع أن أتدبر صورة فوتوغرافية لها ، فاكتفيتُ بأن نقلتُ ملامح تلك الأوروبية ، فالمرأة هي المرأة ، والجمال هوا لجمال !
خصصتُ ساعتين يومياَ ، وما ألفيته عسيراَ ، هو توزيع الألوان ، فاللوحة مطبوعة على كتاب ، وليستْ قائمة أمامي ،وكذلك تفاصيل الوجه …
وفي أقل من شهر أنهيتها ، ولم أتصور أبدا أن يُعجب بها جميع أصدقائي ، وجيراني، وكل هواة الرسم في مدينتنا الصغيرة …
أطروا الرسم ، ومدحوا الموضوع ، وافتخروا بي كأحد الرسامين الكبار …
أنهيتُ اللوحة …
على اللوحة تنعكس مهارتي الفنية ، وأيضا عواطفي الملتهبة …
هل احتفظ بها لنفسي ، لأتذكر بائعة الحليب …أم أهديها لها لتتذكرني هي ، لكن كيف أصل إليها؟ …

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *