(300): فيلم أميركي يدقّ طبول الحرب على إيران

(ثقافات)

فيلم أميركي يدق طبول الحرب على إيران

 ” 300   ” يحشد الكثير من الأكاذيب بتقنيات كمبيوترية مذهلة

يحيى القيسي

 

لم يعد ممكناً أن تنطلي على مشاهدي الأفلام براءة صانعيها ورغبتهم في تقديم كل جديد وممتع ، وعدم دس السمّ في الدّسم،  فها هي السينما الهوليوودية تتابع دورها في دعم السياسيين في قراراتهم المنوي اتخاذها ضد بلد ما أو حضارة ما، موظفة كل إمكانياتها التقنية المذهلة لتشويه ( الآخر ) الذي لا يرغب أن يخضع لأميركا أو حتى لا يتفق مع سياساتها، وفيلم ” 300 ” للمخرج زاك سنايدر آخر مثال على ذلك إذ ينفخ في نار الحرب ضد “إيران” التي تبدو ذات تراث  همجي ضد الغرب “المتحضر”  ولو كان ذلك قبل ألفي عام أو يزيد…!

حكاية تاريخية وتقنيات متطورة

اختار المخرج سنايدر أن ينطلق من سلسلة كتب الرسوم الكرتونية للفتيان للكاتب فرانك ميللر ليعيد انتاجها سينمائيا، وهناك تجربة سابقة لمخرج آخر هو روبرت رودريغز في فيلم ” مدينة الخطيئة ” Sin City عام 2005 ، وكان بالأبيض والأسود مع توظيف التقنيات الكمبيوترية المذهلة، لكن سنايدر يختار دون تردد قصة تنسجم مع الأجواء المشحونة حاليا ضد إيران، حيث يعود إلى الغزوة الفارسية الشهيرة لأرض اليونان واسبارطة عام 480 ق . م أي قبل 2500 عام تقريبا، بقيادة أحشوريُش (ابن داريوس الأول) ملك الفرس الأخمينيين، وبالطبع فإنّ التاريخ معرض هنا للسطو عليه وتحويله لصالح الدلالات السياسية الحالية، وهذا ما سأمرّ عليه لاحقا.  المهم أنّ رواي الأحداث هنا يحدثنا عن الطريقة التي كان الاسبارطيون ينشؤون فيها جنودهم ، وأولها أن الطفل المريض أو الذي به أية إعاقة كان يرمى من فوق شاهق ليموت، وأما الباقون فيتم تدريبهم بقسوة ليكونوا جنوداً لا يعرفون الرحمة، ويشمل هذا الأمر إرسال الفتى إلى الطبيعة الموحشة ليقاسي طقسها وحيوانتها المفترسة فإن عاد تمّ الاحتفال به ليكون جنديا بامتياز ، وهنا نتعرف على الملك الاسبارطي  ليونيداس ” الممثل جيرارد بتلر ” الذي يقرر وحيدا أن يواجه غزوة الفرس لبلاده ب ( 300 ) من خيرة جنوده، وهو يقتل أول الأمر مبعوث أحشوريش والوفد المرافق له رافضا عرضهم في الاستسلام، ويرفض مقترحات مستشار مجلس النواب  ثيرون ” دومينك ويست ” أيضاً ، ويذهب لمواجهة جيش الفرس الجرار عند بوابة الحجيم، ونرى أول الأمر كيف تكسرت سفن أحشوريش في البحر بفعل ” آلهة اليونان والاسبارطيين ” كما يعتقدون ، ولكن هذه السفن جزء ضئيل من أسطول ضخم وصل إلى الشاطىء وبدأ استعداده لاحتلال اليونان واسبارطة ما لم يستسلموا.

الفيلم بعد ذلك يتحول إلى استعراض لفنون القتال بين هؤلاء الحفنة من الاسبارطيين الشجعان ومئات الآلاف من الفرس ومن يساندهم من ” قوى الشر ” مثل المسوخ والرجال الخالدون ، والخرتيت الضخم، والفيلة الخرافية بمن عليها ،والفرسان ، والرماة الذين يحولون بأسهمهم ضياء الشمس إلى عتمة، ولكن هيهات إذ لا يقدر أحد على القضاء على رجال ليونيداس، ورغم من مات منهم نظل نسمع الرواي حتى النهاية وهو يصفهم بالثلاثمائة كأنه نسي أن يحسب من مات منهم ومن بقي ..!

الفيلم هنا يحتفي بفن القتل، ويشتغل فنيو المؤثرات الصوتية والكمبيوترية والرسومات لإنجاز تحفة لا تصدق تتضافر فيها الموسيقى مع اللوحات المشهدية الكمبيوسينمائية المدهشة، والتي يغفر المشاهد لها دلالاتها وسذاجة طرحها حين المشاهدة  من أجل التمتع ولم مؤقتاً بجمالياتها التي تبدو أحيانا قادمة من الرسوم المتحركة، ولكن ضمن صياغة بصرية عالية ، حتى الألوان تم الاشتغال عليها من أجل الإيحاء بأجواء خرافية ، وكأننا أمام شخصيات قادمة من الأساطير والخيال .

بالطبع يبدو الجنود الاسبارطيون وقائدهم عراة الصدور بعضلات ” هرقلية ” وملابس قرمزية لا تقي حر الشمس أو زمهرير الشتاء، وبصنادل جلدية ” خفيفة ” تم التركيز عليها كثيرا ، وكأنهم لا يتأثرون أبدا بتقلبات الطقس ،أما الجنود الفرس فتلك حكاية اخرى فنادرا ما نرى وجوههم بل إن معهم جيشا من الخالدين يلبسون أقنعة فضية متشابهة فوق غطاء أسود ، وكأنهم قدموا من الجحيم ، وبقية الجيش يلتزم بغطاء الرأس العربي، أما الحكاية التاريخية الأصلية فقد تم التضحية بها أساساً، وتمت صياغة حكاية بديلة تصلح لتحميلها الحقد والرؤية القاصرة للغرب عن الشرق اليوم وأمس أيضا .

نتعرف أيضا على الملكة الاسبارطية غورغو ” لينا هيدي ” بجمالها الخارق وجسدها الممشوق ، وهي تحاول أن تحشد نواب المجلس الاسبارطي لارسال جيش يدعم زوجها الملك ليونيداس ومحاربيه المعدودين قبل هلاكهم ، وتدفع جسدها ثمناً لذلك حينما تقدمه للخائن ثيرون الذي يشتريه الفرس بأموالهم .

المهم أنّ الفيلم يقدم عبر ( 117 ) دقيقة تشويقا متواصلاً في الموسيقى والمشاهد المصنوعة من اللقطات السينمائية، والمعالجة بآخر ما توصلت إليه فنون الكمبيوتر والصور ثلاثية الأبعاد ، أحيانا يكون هناك عرض بطيء أو توقف للصورة أو انزياح ، وأحيانا تبدو بلون باهت فيما يفر الدم “الرقمي” بحمرته القانية ليلطخ الشاشة ، لقد تم الاشتغال على المشهدية لتنمح أقصى طاقاتها ، ولتتضافر الأسطورية مع الواقعية في خلطة عجيبة ، ومن الواضح أن هذا الفيلم من العلامات الفارقة في المعالجة التقنية السينمائية ولا سيما في ” فن القتل ” والمشاهد الحربية الجماعية .

يمكن للكاميرا هنا – بفضل التقنيات – أن تتابع رمحاً مصوباً نحو أحشوريش، أو سوطا يتلوى أو تبني كائنات خرافية مثل خرتيت أو طيور أو فيلة ، أو بشر ممسوخين ، وتلك مشاهد رأيناها من قبل في أفلام مثل ” سيد الخواتم ” وغيره ، ولكن الحشد هنا قد بلغ غايته القصوى إضافة إلى التقنيات الصوتية المدمجة والبالغة التأثير والحساسية .

مضامين سيئة مدسوسة أو جلية  

ولكن ما الذي يريده المخرج سنايدر( مواليد 1966 )  من فيلمه هذا عدا الاحتفاء الباذخ بالتقنيات وبصياغة مشاهد قتالية لا تنسى ؟

 الجواب يأتي هنا يأتي من دراسة المضمون ولو بشكل أولي ، ومن فيلمه السابق ” فجر الموتى ” 2004 الذي أظهر فيه آكلي لحوم البشر ” زومبي ” قادمين من الشرق الأوسط ، تماما كما أخرج ديفيد غوير  في فيلمه ” بليد الثلاثي أو السياف ” مصاص الدماء من العراق ، إن السينما اليوم قد أصبحت مطية حقيقية للسياسيين ترفع من تشاء وتذل من تشاء ولنا عبرة أخيرا في فيلم (بورات) الذي أساء إلى الشعب الكزخي وما زال موضع نقاش ، أما فيلم 300 فهو متخصص بالإساءة إلى حضارة الفرس العريقة والتي ما تزال آثار عمرانها وعلومها بارزة إلى اليوم ، إذ بدت هنا لا تمثل نفسها فحسب بل ” الشرق ” كاملا بعرفانية وعلومه، فيما الغرب يمثل العقل والحضارة ، ولكن التشويه قد بلغ شأوا عريضا ، فأحشوريش ( الممثل رودريغو سانتورو ) ملك الفرس بدا ضخما مِثليا تكتفي في قصره النساء بالنساء والرجال بالرجال ، وهو لا يريد من الاسبارطيين إلا أن يسجدوا له سجود خضوع ، وبدا أيضا ممثلا لقوى الشيطان السوداء ، إن الحرب هنا تبدو للمشاهد بين التنويرين الغربيين (رجال اسبارطة واليونان ) والظلاميين الشرقيين ( الفرس وحلفاؤهم ) وبالطبع فإن المخرج قد حشد كل ما يبدو سلبيا في تصوير الفرس وجيشهم وملكهم ، وكل ما يبدو طيبا ومقنعا لرجال اسبارطة ،وتلك نظرة متحيزة وعنصرية أيضا بعيدة عن سجلات التاريخ الأصلية وعن الواقع أيضا .

إن المقارنة ظالمة بين تلك الصورة المشوهة التي قدمها المخرج لأجداد الإيرانيين وحضارتهم ولأجداد بوش وحضارتهم ، وإن أية حرب قادمة مبنية على هذه اللعنة التاريخية الدائمة تبدو مجحفة وغير منطقية .

لقد هوجم الفيلم من قبل العديد من نقاد السينما الأميركيين إضافة إلى الاحتجاجات الإيرانية عليه لتشويهه تاريخهم القديم قبل الاسلام ،وهذه السلسة من الأفلام لن تنتهي على ما يبدو فقد شوهت من قبل العرب وما تزال ،واليابانيين ،والفيتناميين ،والروس وكل من يقف في وجه أميركا وجيشها الجرار الذي يريد أن يصيغ الديمقراطية للعالم على الطريقة العراقية أو الافغانية بحيث يدمر الحضارة ويسوس الناس بالفرقة ، وما دام أن صناعة السينما أميركية بامتياز وأنها متأخرة كثيرا في بلاد العالم فستظل الأفلام سيفا مسلطا على أعين المشاهدين ترفع من تشاء وتشوه من تشاء إلا من رحم ربي.

* نشر المقال في مجلة عمان ، والقدس العربي 9-5-2007

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *