ميلياغروس… لكلّ شاعرٍ اسم زهرة
تيسير خلف
ترك الشاعر السوري – الهلنستي ميليغر، أو ميلياغروس، في ثنايا قصائده، نُبذاً من سيرته الشخصية، وبعضاً من معتقداته الفلسفية التي تمثّلها من ابن مدينته مينيبوس، أحد أكثر المؤثّرين في الفلسفة الكلبية ذات النزعة المغرقة في إنسانيتها وتشاؤمها، وأرسل رسائل بليغة حول هويته السورية، ولكن مغلّفةً بنزعة أُممية تتكامل مع أفكاره الرافضة لسلطة المجتمع وأعرافه وقيمه.
وُلد ميليغر حوالي عام 140 قبل الميلاد في جدارا، وهي مدينة تشرف من سفح جبل على بحيرة طبريا، وتقع حالياً ضمن أراضي المملكة الأردنية الهاشمية، ثم انتقل إلى مدينة صُور على ساحل البحر المتوسّط، حيث نضج وتعلّم في أكاديمياتها، لكنّه أمضى شطراً كبيراً من حياته بعدها في جزيرة “كوس” اليونانية المقابلة لشواطئ آسيا الصغرى، حيث عاش عمراً تجاوز السبعين عاماً.
ورغم غزارة إنتاجه الشعري، لم ينج له من التعصّب البيزنطي سوى مئة وأربعين مقطوعة شعرية قصيرة كُتبت على نسق “الإبيغراما”؛ وهي قصائد قصيرة كانت تُنقش على شواهد القبور لإحياء ذكرى الميت، أو على تمثال منحوت لأحد الشخوص، وقد تحوّلت هذه الإبيغراما إلى نوع شعري قائم بذاته، وتطورّت كثيراً على يد ميليغر ذاته.
الإكليل
إلى جانب قصائده الشعرية، جمع ميليغر ودوّن باقةً من “الإبيغراما” لشعراء من القرن الثالث قبل الميلاد سمّاها “الإكليل”؛ وهي أوّل أنطولوجيا شعرية معروفة في تاريخ البشرية جرى تداوُلها بين 110 و90 ق.م. وقد منح لكلّ شاعر اسم زهرة، عرف من بين شعرائها إسكليبياديس وكاليماخوس بوسيديبوس وهيديلوس. وقد جمع ودوّن هذه القصائد في جزيرة “كوس”، وهي جزيرة لها شخصيتها الأدبية الخاصّة بها، وقد عاش فيها كلٌّ من الشاعرين فيليتاس وثيوكريتوس في القرن الثالث قبل الميلاد.
لقد أثّر “الإكليل” في حركة الشعر العالمية حتى العصور الحديثة، فقد تشرّبه كتولوس وسائر كتّاب المرثيات الرومان، كما تأثّر به الشعراء الإنكليز والأميركيون أيّما تأثُّر، خاصّةً في مرحلة الريادة الشعرية في بدايات القرن العشرين. وقد امتنع الشعراء اليونانيون التالون لميليغر عن استعمال التشابيه الإيروسية للإغراء، لأنّه، على ما يبدو، قد استنفدها مؤقّتاً بكلّ احتمالاتها، باستثناء الشاعر المواطن أيضاً لميليغر، فيلوديموس الجَداري، وهو أصغر من ميليغر بثلاثين عاماً تقريباً، وكان فيلسوفاً أبيقورياً وشاعراً اشتهر في القرن الأول قبل الميلاد حين كتب أربعاً وثلاثين إبيغراما.
وبالإضافة إلى الشعر والأنطولوجيا الشعرية؛ كتب ميليغر مقالات متعددة جمعت في كتاب سُمّي “الصلوات” حول مواضيع فلسفية، ولكنّها مكتوبةٌ بأسلوب اعتمده الرومان وسمّوه “السخرية المينيبية” نسبة إلى مينيبوس، وفي هذا المجال، يُعتبر عمل ميليغر استمرارية لأسلوب مواطنه مينيبوس الذي يمزج بين فنَّي الشعر والنثر لإيصال محتوى فلسفي.
ولكن، في ظلّ غياب كتابه “الصلوات” الذي لم تنجُ منه سوى اقتباسات ظهرت في مجموعة أعمال آثينايوس الأدبية المتنوّعة “ديبنوسوفيستاي”، فإنه من المتعذّر أن نحكم على مدى تأثُّر قصائد ميليغر بهذا الأسلوب. فأسلوب السخرية المينيبية لم يؤطَّر بشكل مدرسة منهجية موصوفة بالمقارنة مثلاً مع أسلوب المدرسة الأبيقورية، بل فسّرها أتباعُها كلٌّ بحسب مفهومه.
العالم بلد واحد
في قصيدته “بلدٌ واحد هو العالم”، يلخّص ميليغر سيرته الذاتية، فيُحدّثنا عن مكان ولادته في جدارا التي يسمّيها “أثينا السورية”، نظراً لوجود أكاديمية فلسفية خرّجت عدداً من الأسماء المهمّة، ويُخبرنا أنه ترعرع في صيدا على ساحل فينيقيا، وأنه سار مع ربّات الشعر على خطى الفيلسوف مينيبوس، ابن مدينته. ثم يردف مخاطباً قارئ الإبيغراما: “إنْ كنتُ سورياً ما العجب في ذلك أيها الغريب. إنّنا نسكن بلداً واحداً هو العالم، من السرمد نفسه أتينا جميعاً، والآن، وبعد أن أثقلت كاهلي السنون، حفرت هذه السطور قبل أن أدلّى في القبر، لكن كجار قريب لهذه الهاوية، ألقِ تحيّتك عليّ إذا أردت، أنا محدّثك العجوز، من الجائز أن تصبح محدّثاً عجوزاً أنت أيضاً”.
وتوحي عبارته حول انتمائه السوري بأنّه كان يتعرّض للكثير الأسئلة المستهجنة، ويبدو أنه كان يخوص كثيراً في هذا الأمر، محاولاً تصويب بعض الأفكار المسبقة عن أبناء قومه، ولذلك كان يُذكَّر محدّثيه من الميروبيين، سكان جزيرة كوس، بـ”أنّنا سواء أكنّا سوريّين أم يونانيّين أم غير ذلك، سوف نموت في النهاية، وندلَّى في القبر”، وهي حكمة وجدت طريقها إلى قصائد الكثير من الشعراء الذين أتوا بعده، أبرزهم في أدبنا العربي أبو العلاء المعري وقصيدته “تعب كلُّها الحياة” التي يقول فيها: “خفّف الوَطْءَ ما أظنّ أَدِيْمَ الأرض إلّا من هذه الأجساد”، ربما كان آخرهم إيليا أبو ماضي في قصيده الشهيرة “جئت لا أعلم”.
الهوية السورية والسمك المقدَّس
ينظر الآن بعض الباحثين إلى أنّ ميليغر تأثّر بالإبيغرامات النبطية والفينيقية، وخصوصاً في قصيدته ذائعة الصيت “إن كنت سوريّاً سلام”، والتي صاغها وفق هذا الأسلوب النبطي الذي ينتهي بلفظة سلام. حيث يقول في مقطعها الأخير: “إن كنت سوريّاً: سلام، إن كنت فينيقياً “نايديوس، إن كنت إغريقياً خايري، وقبل أن تبارح هذا المكان قل سلام”. وقد كتب عبارة سلام كما تُلفظ حالياً بالعربية.
حظيت هذه القصيدة بالكثير من الاهتمام في أوساط الدارسين المعاصرين، إذ رأى فيها أحدهم “تعبيراً مباشراً وعميقاً عن انتمائه إلى مجموعة العظماء المشرقيّين المغتربين عن مساقط رؤوسهم، والمستقرّين في جزيرة كوس وغيرها من جزر اليونان، وأنّ الجو متعدّد الثقافات الذي عاش فيه، يمكن تفسيره من خلال فهمنا مدى فخر ميلياغروس بهويته السورية من جهة، وتعاطفه مع تيار الفلاسفة الكلبيّين من جدارا من جهة أُخرى”.
وثمّة إشارة مهمة تتعلّق بهويته السورية، متضمَّنة في إحدى مقالاته المجموعة في كتاب “الصلوات”، حيث يقول: “باعتباري سوري الأصل، فإنّني أمتنع عن أكل السمك، حفاظاً على العادات السورية، رغم كثرة السمك في بحر الدردنيل المحيط بهم”. والامتناع عن أكل السمك واحد من عناصر الهوية السورية، نظراً لأنّ السمك كائن مقدَّس عندهم.
وأصلُ هذا المعتقَد شرحه الفيلسوف السوري- الهلنستي لوقيانوس السميساطي في كتابه بالغ الأهمية “الربة السورية”، حيث ذكر أنّ السمك محرَّم على السوريّين لأسباب تتعلّق بعبادة الربّة السورية أترغاتس، والتي كان معبدها الرئيس قائماً في مدينة هيرابوليس، وهي منبج الحالية في سورية. وقد حاول لوقيانوس تفسير هذه الحرمة وعلاقتها ببركة الماء المقدَّسة القائمة في المعبد، وهي البركة التي امتصّت مياه الفيضان العظيم الذي اجتاح الأرض في زمن سحيق، ولم ينج منه سوى من صعدوا على ظهر السفينة من بشر وحيوانات.
وكان لافتاً أن يذكر المؤرّخ ديودور الصقلّي أنّ العبيد السوريّين الذين ثاروا على روما بقيادة إيونوس السوري عام 136 قبل الميلاد، وأقاموا مملكة سورية المقدّسة على أرض جزيرة صقلية لمدّة خمس سنوات، كانوا يعاقبون منتهك شريعة حرمة أكل السمك بالإعدام.
لقد بات عنصر الهوية واحداً من العناصر المهمّة التي بدأت تؤخذ بنظر الاعتبار عند دراسة أدب ميليغر، ولم يعد الحكم المسبق حول يونانية هذا الشاعر كفيلاً بإغلاق الباب على هذه القضية، اعتماداً على الاسم المفترض لوالد الشاعر يوقريطس، فقد بيّنت النقوش والمخطوطات المكتشفة في المنطقة العربية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين أنّ الكثير من السوريّين والعرب من أبناء تلك العصور كانوا يحملون أسماء يونانية، حيث ولَّى الزمن الذي كان يُعدّ فيه الاسم اليوناني أو الروماني دليلاً على يونانية أو رومانية الشخص.
-
عن العربي الجديد