بول شاوول

الشاعر بول شاوول: يعيش الشعر الآن عصره الذهبي بعد تحرّره من المحمولات الإيديولوجية

الشاعر بول شاوول: يعيش الشعر الآن عصره الذهبي بعد تحرّره من المحمولات الإيديولوجية

حاورته: ليندا نصّار

 

يعدّ الشاعر والمترجم والناقد الأدبي والكاتب المسرحي والصحافيّ اللبناني بول شاوول رمزًا من الرموز المهمّة في الثقافة اللبنانية والعربية. إنه الشاعر الذي تطلّع إلى الحداثة واعتمد التجريب في كتاباته، ويعدّ مساره الإبداعيّ والنقدي من المسارات التي لا حدود لها خصوصًا من خلال انفتاحه على المسرح والفنون والآداب العالميّة كافّة. ترجم شاوول العديد من الكتّاب الغربيين، وقد صدرت له عدّة مختارات من الشعر العالمي، وقد صبّ اهتمامه على تجارب الشباب الفرنسيين خصوصًا.
لم يلتزم شاوول بنظرية شعرية واحدة ورفض التشابه والألفة بين النصوص والدواوين، إنه الشاعر الذي لا يقلّد أحدًا وهو بطبيعته يميل إلى التمرد على النص الواحد والنوع الواحد. بالإضافة إلى اهتمامه بالأدب والمسرح. أسّس شاوول«حركة الوعي» في الستينيات التي استقطبت العديد من الشباب في الثانويات والجامعات وطبعت بصمة لا تنتسى.
هذا الشاعر الذي تخطّى التصنيفات في الشعر، لا يرسو على نظرية واحدة ويرفض الانتماء إلى المدارس الأدبية، استطاع أن ينطلق بحداثته وهو على اقتناع أنّه على الشاعر ألا يقلّد نفسه وبالتالي ألّا يقلّد الآخرين، من هنا لا يمكن أن تجد عنده كتابًا أو ديوانًا يشبه الآخر.
شاوول الذي أخذ مهمّة الشعر على عاتقه بالرغم من كلّ ما تحمله من شقاء وعنف للغّة، ما زال يتابع مساره وينتظر قصائد تلوّح له من بعيد ليكتبها.
التقت الشاعر اللبناني بول شاوول في بيروت وكان لها معه الحوار الآتي:

* كيف تصف علاقتك بالكتابة التي تعتبر من المهمّات الشاقّة بالنسبة إلى الشاعر؟ وما هو رأيك في الأسلوبيّة التي تطبع معظم الشعراء والفنانين؟
لا أخفي عليك أنّي توقّفت عن الكتابة لمدّة استمرّت عشر سنوات، وأصبت بنوع من القهر الذاتي فرحت أسأل نفسي: هل انتهيت من الكتابة؟ تراني كتبت ما كتبت وحان الوقت لأستريح أو أتقاعد؟ لكن بالرغم من هذه الحالة التي مررت بها، إلا أنّي لم أتوقّف يومًا عن القراءة، فقد قرأت مئات الدواوين والمسرحيات ومنها كتب تتعلّق بالفنون التشكيلية والمعارض، ثمّ عدت إلى كتب اللغة. بعد ذلك اكتشفت أنّ القصيدة قد لوّحت إليّ بالمجيء، وبعد انقطاع دام عشر سنوات، شعرت بأنّي صرت مستعدًّا لها لغويًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا بل عالميًّا، من هنا وصفتها بأنّها قصيدة «عصر» بل قصيدة الأرض ورحت أكتب.
يعيش الشاعر حالات تسبق الشروع بالكتابة، وكأنّه ينتظر كلّ قصيدة كي تفتح له الباب وهذا ما حدث معي. أذكر مرّة أنّي رأيت القصيدة في حلمي فقرأتها وتمنّيت ألّا أنساها، لكنّ الأحلام كالغيوم ترحل صباحًا، وأحلامي تنسى في المرة الأولى، مع ذلك يلوح إليّ من بعيد جوّ القصيدة ومناخها، فتأتيني اللغة بعنف متكرّر، وهذا ما حدث معي إذ حفظت بيتًا واحدًا ممّا حلمت به فكتبته، وكانت بداية القصيدة التي اشتغلت فيها على اللغة، لسنوات، عُدت إلى كلمات قلّ استخدامها، جدّدت كلمات ماتت أو قتلتها الحياة اليوميّة. هكذا خرجت القصيدة من كل جسمي وكأنّ عاصفة أصابتني فكتبتها كاملة، كتبتها أخيرًا وأنهيتها لكنّي خفت من أن أكون قد قلّدت نفسي. سبق أن كتبت إحدى القصائد واستمررت في كتابتها لسنتين ثم اكتشفت أنها سيّئة فرميتها لأنّها تذكرّني بقصائد أخرى مشابهة لها. خير لي أن أقلّد الآخرين من أن أقلّد نفسي فأنا ضدّ الأسلوبية في الشعر. وهذا الأمر لا يتوقّف على الشعراء فقط بل هناك فنانون كبار لهم أسلوبهم الخاصّ أيضًا، وهنا أتطرّق إلى «دالي» الذي يعرف بأسلوبه، ويختلف عنه «بيكاسو» الذي لم يكن يتمتّع بأسلوب خاصّ بل كان يفجّر إبداعه تفجيرًا.
تكفينا قراءة كتاب واحد لسان جون برس كي نكتشف أسلوبه، بينما هنري ميشو كان يكتب في جميع الاتجاهات كأنه يسابق نفسه، وأعتبر نفسي مثله. من هنا، لست مع المدارس والنظريات التي تقيّد الشعر، أو تلك التي تسبق التجربة. بالنسبة إليّ فإنّ كلّ تجربة يجب أن تكون مستقلّة عن غيرها. لطالما كنت ضد السورياليين لأنّ نظرياتهم جاهزة ولديهم قواعد وأساليب ومواضيع تسبق القصيدة، الأمر نفسه بالنسبة إلى الدادائية أو الرومنطقية أو الرمزية. فكلّ المدارس الأدبيّة والفنية تقع في ما يسمى فخّ التشابهات، لأن البعض منها ملتزم بمدرسة معيّنة.

* إنّ من يقرأ نصوصك يلاحظ التجريب في الشعر ورفض النظريات التي تسبق الكتابة. كيف بدأت التجريب ومن أين أخذت هذه الطريقة؟ وما الذي يسيء إلى الشعر وما الذي يهدّد الشاعر؟
– منذ بداياتي اخترت الجهة الثانية وبحثت عن الاختلاف واعتمدت التجريب، وأيقنت أنّ معظم الشعراء يقلّدون أنفسهم لغويًّا وإيقاعيًّا وبنيويًّا وأسلوبيًّا حيث يغيب النقد الذاتي. يصبحون كمن يسلك الطريق نفسه يوميًا ليتحوّل إلى عادة من عاداته ويصبح مألوفًا. إذًا يمكننا القول هنا إنّ الألفة في الشعر تسيء إليه. يختلف أسلوب الشاعر باختلاف الحالات التي يمرّ بها. بالنسبة إليّ مرّت حروب وظروف كثيرة في حياتي كلّ واحدة مختلفة عن الأخرى، فكيف أكتب القصيدة بالأسلوب نفسه؟ كذلك قد نجد هذه الألفة في الأسلوب لدى بعض الشعراء الكبار، وهنا أنا لا أقصد مقارنة نفسي بأحد، بل أتحدّث عن طريقتي في التجريب المبنيّة على البحث عن الاختلاف في اللغة والتركيب والمعنى.
لقد أخذت كلمة التجريب من «المسرح التجريبي» وأيقنت أنّ المدارس الشعرية والفنية تقتل التجريب لأنّه مبنيّ على الحريّة. بالنسبة إليّ إنّ كلّ النظريات الجاهزة نابعة من الأصول الدينية، القرآن والإنجيل والتوراة كلّها كتب مقدسة جاهزة وعلى الإنسان أن يمارس وصاياها ويطبّقها. حتى الشيوعية تعدّ نظريّة دينيّة في العمق. إيديولوجيا الماركسية والشيوعية والليبرالية الاشتراكية وكل المدارس الشعرية والفنية أصولها دينية وهي تقتل التجربة. بينما الشعر حرّ طليق، فكل قصيدة هي ممارسة حرية وممارسة جديد، حتى الحداثة عندما راحوا يفلسفونها ويضعون لها منارات وعلامات وقواعد، حوّلوها إلى فكرة دينيّة. ثم إنّ الأنظمة الشموليّة وضعت قواعد صارمة على الناس وكأنها قواعد مستوحاة من الدين ومن يخالفها قد يحاكم أو يقتل. الشعر إذًا بالرغم من علاقاته الوطيدة بالدين، إلا أنّ ثمة شعراء إسلاميين كبارًا بقي هامش الفردية واسعًا عندهم، فالسؤال هنا هو كيف ينظرون إلى الدين ويمارسونه. الشعر هو كل شيء وما يهدّد حرية الشاعر هو وقوعه في الإيديولوجيا. وهنا أقول إنّ الطائفية هي نفايات الدين والإيديولوجيا الماركسية هي نفايات ماركس مثلًا، وفي معظم الأحيان تموت الإيديولوجيا ولا تموت أفكارها.

* نشرت حديثًا قصيدة بعنوان «القصيدة المتوحشة» وهي ترسم حيوات للقارئ، وتضعه في عوالم بعضها معقّد وبعضها بسيط. كيف تصف هذه القصيدة التي يمكن اعتبارها سابقة لعصرها؟ وإلى أيّ مدى تتوقّع أن يتفاعل القارئ معها؟
– «القصيدة المتوحّشة» هي القصيدة التي نشرتها في العدد الأحدث من مجلّة العُمانيّة. تعتبر هذه القصيدة صعبة بعض الشيء وقد أتعبني كثيرًا هذا العمل. هي قصيدة العمر وقد تكلّمت فيها عن الأرض وعن العالم وعن الزمنين الماضي والحاضر والرهبان والطوائف وعودة الماضي والعمامات…
في البداية، القرّاء عدّة أنواع، والتقدّم في الشعر أحيانًا يكون أسرع من ثقافة المجموعات أو الجماهير. أوّل شاعر طرح فكرة الغموض كان «أبو تمام» العظيم في العصر العباسي الأول وكان سابقًا لعصره، وقد مات في سنّ التاسع والعشرين. وقد اتّهم بالغموض، أشبّهه بفاليري ومالارميه وبودلير عندما اتهموهم بالغموض، وكانت إجابتهم:«اسألوا أنفسكم لماذا لا تفهمون». إذًا كلّ جديد سواء أكان لغة شعرية تشكيلية أم سينمائية، يسبّب صدامًا مع الذوق العام. لنأخذ مثالًا على ذلك فيلم «باب الحديد» في السينما للمخرج يوسف شاهين، وهو من أوائل أفلامه، عندما قدّمه في البداية ضحك الجميع منه وشتموه وأخلوا القاعة. بعد زمن صار «باب الحديد» من أهم الأفلام المصرية.
كذلك المخرج حسين كمال عندما قدّم فيلم «المستحيل»، للوهلة الأولى شتموه في القاعات وذلك لأنهم معتادون على نمط معيّن في السينما ما أحدث صدمة وصار مصنّفًا من بين الأفلام العشرة الأولى في السينما المصرية. الأمر نفسه بالنسبة إلى الفنانين الكبار. ما أعنيه هنا أنّ جمهور المسرح التجريبي ضئيل جدًّا، والشاعر الذي لم يكن يُفهم في مرحلة الستينيات صار اليوم كلاسيكيًا.

* إلى أيّ مدى يمكن للتكنولوجيات الحديثة أن تؤثّر سلبًا في الثقافة والأدب والفنون فتؤدّي إلى تراجعها؟
– الغريب أنه كلما تقدمت التكنولوجيا تراجعت الثقافة ومعها التعليم والأدب والشعر. في هوليوود تكنولوجيات كبيرة من ينظر إليها يشعر وكأنّها تحولت إلى سينما للأطفال وهي مليئة بالمؤثرات الصوتيّة والبصريّة، وقد صارت تجارية إذ كان لديها جزء من ميزانيتها للأفلام التجريبية. الأمر نفسه بالنسبة إلى السينما والمسرح العربي الذي يعيش غيبوبة اليوم وهو في سبات عميق. إذًا المسرح العربي مختلف عن الشعر كذلك بات تجاريًّا يخضع للسوق الاستهلاكية وله تمويل خاصّ، يمكننا القول أنّه تحوّل إلى سلعة وله ميزانيّة، يستعيدها المنظّمون من الجمهور الذي يحضر.

* أين هو جمهور الشعر اليوم؟
– الجمهور اليوم في مكان آخر وكمّيّات المبيع ليست مقياسًا لاهتمامهم بالشعر. فأكبر شاعر في العالم العربي كنزار قباني أو محمود درويش باع مائة نسخة، أمّا معظم الشعراء الشباب اليوم فيدفعون المال لينشروا في دور النشر، لأن الشعر نادرًا ما يباع ولا يمكن أن يخضع للعمليات التجاريّة.

* إذًا ما هي نظرتك إلى مستقبل الشعر اليوم؟ وهل ولّى العصر الذهبي للشعر وتراجع لصالح الرواية؟
– الغريب أنّ بعض الشعراء يعلنون موت الشعر ويتابعون الكتابة، وتراهم في نشاط مستمرّ، ويعتلون المنابر في المهرجانات الشعرية.
نعيش اليوم العصر الذهبي للشعر في العالم العربي والعالم أجمع، أمّا عن الذين يقولون إنه زمن الرواية، فهؤلاء ينطلقون من معايير تحدّد الكمية وليست تلك التي تحدّد النوعيّة. بمعنى آخر إنّ الرواية تباع أكثر من الشعر.
لنأخذ هنا على سبيل المثال رامبو الذي باع ثلاث نسخ فقط، بالمقابل مالارميه الذي يعدّ من أعظم الشعراء الفرنسيّين باع حوالى الثلاثين نسخة، في حين أنّ بالزاك وزولا باعا كثيرًا وكانوا يعتاشون من الرواية.
يمكن أن تتحوّل الرواية إلى مسلسل وهذا ما يسوّق لها، ولكن هل سبق أن سمعتم بشعر تحوّل إلى مسلسل؟ من هنا يمكننا القول إنها لعبة استهلاكية.
لقد اطّلعت على عشرات الألوف من القصائد الشبابيّة المعاصرة واكتشفت أنّ لا شاعر يشبه الآخر في ما ترجمته. وقد صدرت لي مختارات من الشعر العالمي عن دار النهضة العربية بيروت، وكان اشتغالي على ترجمة الشعر الفرنسي الشبابي منذ عام 1900 وحتى العام 2016.
وهذا يعني أنّنا نعيش العصر الذهبي للشعر من خلال قراءتي للشباب. فهناك غنى بالشعر حدث بعد اختفاء الأيديولوجيات. تحرّر الشعر من كل المحمولات الإيديولوجية والنظريات الشعرية.
الأهم أنه لم يعد هناك «رواد» مع احترامي الشعري لما قدموه إلينا، وأنا أقصد هنا روّاد المدارس والاتجاهات التي تزول بزوالها، هؤلاء أخذوا الرومنطقية أو الرمزية من الغرب وكان الأمر جيدًا، كذلك أخذوا الفكر الالتزامي من الحزب الاشتراكي كما أنّهم تأثّروا بالسوريالية فذهب شعرهم مع ذهاب السوريالية. من هنا أعتبر أنّ النظريات مؤقّتة ومن يلتزم بها مؤقتًا يذهب معها. وأنا لا أنكر أنّي استفدت من السوريالية ولكن ليس كنظرية جاهزة وقالب من مدرسة بل فكّكتها وتعاملت معها كمفردات وصور.
اليوم العصر الذهبي للشعر في مصر والخليج وسوريا والمغرب وتونس، لكن بيعه عشر نسخ كأقصى حدّ.

* كيف تمكّن الشعر من الإفلات من العولمة؟
– لقد عجزت العولمة عن المساس بالشعر لأنه لا يحقّق أرباحًا والدليل على ذلك أنّ الرواد لم يبيعوا فيما عدا نزار قباني ودرويش حتى أنا لم أبع الكثير من النسخ. أمّا المسرح فقد دخل العولمة والسينما صارت معولمة ويمكننا القول إنّ الفكر في حدّ ذاته بات معولمًا، هذا بالإضافة إلى الاقتصاد والفن التشكيليّ. فاللوحات تباع بملايين الدولارات وبعض شركات تشتري لتهرب من الضرائب وتربطها بالبورصة.
أمّا الشعر فهو كالطير، أفلت من العولمة، ومن كل الاستهلاكات ما عدا الشعراء الذين انضووا في ركاب الطائفية ومع ذلك فقد سقطوا.

* كيف تقيّم الواقع اللبناني اليوم في ظلّ هذا الخراب والدمار الذي حلّ بالبلد؟
– منذ زمن طويل استعرت عنوان «موسم الهجرة إلى الشمال» بموسم الهجرة من الطوائف. وقد كنت العصفور الآتي من منطقتي، تركت بيتي وعائلتي إلى ما يسمّى «الوطنيّة». لقد عشت قطيعة تاريخيّة مع عائلتي لأنّها شاركت في المليشيات كنت أوّل من انتقد اليسار والحزب الشيوعي وممارساتهم. واجهت الوصاية السورية وكتبت ضدّ الإشتراكيّ وغيرهم … لأنّي مع هذا البلد، مع لبنان الذي أعطاني كل ما أحتاج إليه، أعطاني العلم والجمال وهو أجمل بلد بالنسبة إليّ. علّمني لبنان الحرية والديمقراطيّة والحياة، سمحت لي أرضه أن أدوسها، أن أتعلّم في مدارسه الرسميّة الحكوميّة، لكن، كلّهم باعوا لبنان، باعوه بكلّ الوصايات لقاء وزارة أو إدارة أو رئاسة أو وظيفة. مع ذلك ظلّ لبنان أكبر منهم كلّهم. وأنا ما زلت وحدي لا أنتمي إلا إلى هذا البلد وهذه الأرض المباركة التي منحتني كلّ ما أتمنّاه. من منّا لا يتذكّر بيروت التي كانت مليئة بالسيّاح والمسارح والقهاوي، من ينسى ساحة البرج والترامواي؟ كلّها معالم دمّرتها المليشيات وها هم اليوم يتابعون إفلاس المحلات ثمّ ضرب الاقتصاد، ليصبح البلد لقمة سائغة في يد المليشيات.

* ماذا تعني لك العروبة وكيف تنظر إلى علاقة لبنان بإخوته العرب اليوم؟
– أشبّه علاقة لبنان بالعرب مثل علاقة لبنان بلبنان. لا يمكن إلّا أن يكون بلدًا عربيًّا وأعتبر أنّ عروبتي هي أرومتي كما يقال، من دمي وحياتي وأصولي وضلوعي.
ليست العروبة مسألة سياسية أؤيّدها ثمّ أتركها، كما أنّها ليست أيديولوجيّة مغلقة ولا حزبيّة، إنها عروبة منفتحة على كلّ العالم والحضارات. أعدّ العالم العربيّ. لبنان من دون العرب يموت، والعرب بلا لبنان يفقدون نافذة رائعة وجوهرة ثمينة. وها نحن اليوم نرى أنّ بعض الأحزاب أدّت ممارساتها إلى نوع من القطيعة مع العرب وهذا الأمر لم يعد مقبولًا.
أنتمي إلى الثقافة العربيّة، فذاكرتي من العصر الجاهلي والأموي والإسلامي والعصر العباسي. .. كل ذاكرتي عراقية بغدادية، لا يمكن أن نتكلّم عن العروبة كأنّها قميص نستعملها ونستهلكها ثمّ نهجرها، هي عروبة منفتحة وليست عنصرية والعرب قد انفتح اليوم على كل العالم.

* تختلف الأزمة التي يمرّ فيها لبنان اليوم عن الأزمات السابقة منذ ما قبل الحرب الأهليّة. ما معنى أن نقول «لبنان في خطر» مقارنة مع الأوضاع الماضية؟ وهل تعتبر أنّ هناك أملًا؟
– يشكّل الموقع الجغرافيّ للبنان خطرًا دائمًا عليه. لطالما كانت تتردّد على مسمعي عبارة لبنان في خطر، وإذا عدنا إلى أحداث العام 1958 ثم 1975 ثمّ ما بعد الطائف ثمّ في زمن المليشيّات اليسارية الإسلامية والمسيحية، ننتبه إلى أنّ هذه كلها قسّمت لبنان وكانت مرتبطة بالخارج. في كلّ مرّة كنّا نخاف من أن يزول لبنان فنتفاجأ بصموده. ظلّ هذا البلد شامخًا، ولكنّنا نعيش اليوم وضعًا أصعب. المختلف في هذه المرحلة هو وجود إستراتيجيّة تهدّد الكيان اللبناني ووجوده، أمّا قديمًا فقد كان الصراع محصورًا في بعض الأطماع كالمشاركة في الحكم وتداخل السياسات والقضية الفلسطينية، والآن هناك خوف من زوال لبنان. ……، ومؤخّرًا قد تداخلت الأمور ببعضها البعض.
لم يشهد لبنان مثل هذا الوضع منذ مئة وثمانين عامًا: الدولة مستلبة مفلسة وغائبة، القضاء مُصادر، الجيش مهمّش، الحدود مستباحة، الوزارات مأخوذة. وقد فقدنا كلّ ما صنع حريّة لبنان الذي كان ملجأ المضطهدين من الكتّاب والفنانين، وكانت بيروت عاصمة الثقافة والحرية.
إيران لم تدخل إلى سوريا لتخرج منها وليست لإنقاذ بشّار الأسد بل لتبقى فيها، كما أنّها لم تذهب إلى العراق لتخرج منه، ولا حتى من اليمن، وباتت تشكّل تهديدًا لدول الخليج. لبنان اليوم محتلّ ضمن مليشيات وأخشى أن تقايض الدول الكبرى عليه. أمّا من يعتمد على أمريكا فليتذكّر أنّها تركت فيتنام بين أيدي الوحوش وأفغانستان في قبضة المجاهدين، وهي اليوم في مواجهة مع الروس حتى آخر نقطة دم أوكرانية.
هذا الزوال الذي سبق أن تحدّثت عنه يتجسّد في الهجرة المستمرّة التي يعيشها اللبنانيون منذ أوائل القرن حيث هرب لبنانيون من الجوع الى أمريكا، وها نحن نفقد شبابنا ونستمرّ في الحلقة نفسها منذ خمسين عامًا.
في النهاية أقول إنّ هناك أملًا. نعم لأنّ لبناننا علّمنا حب الحياة، واللبناني قد يقوم بأيّ إنجاز أو عمل ليعيش حياة كريمة وهانئة.

  • عن مجلة نزوى العمانية

شاهد أيضاً

قراءة في رواية ( قناع بلون السماء ) لباسم خندقجي

(ثقافات) قراءة في رواية ( قناع بلون السماء ) لباسم خندقجي ( ثيمة الملامح) زينب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *