منحوتة رائد أبو زهرة .. سفر في مقامات الشوق



* د. أمال محمد


خاص ( ثقافات )
قراءة في منحوتة “ياسمين”
تعكس منحوتة رائد أبو زهرة تجليات إبداعه في إشراقتها الروحية ورؤاها الوجودية، وتقترب في تعرجات تضاريسها من رقصة الصوفية الكونية، من أجل التوحد والكشف والتسامي إلى عالم اللاتناهي المفتوح على المطلق واللامحدود.
يحضر النحت عند رائد أبو زهرة ، كأفق رحب تتماوج فيه أنوار التجليات وعمق الرؤيا للكون والإنسان؛ لتصعد بنا في لغتها الكونية وحسها الإنساني نحو صيرورة لا متناهية تحررنا من الزمن الآني الباهت لتصنع “الزمن الحلم” المفعم بالسمو والممتد في الفضاء الرحب للنور، فيلتقي النحت مع التصوف في ذلك التوق الكامن فينا نحو الباطن والخفي، والشوق إلى الأعالي… وهو في حقيقته سفر من الخارج إلى الداخل لأنه سفر جواني.
فرعشة الشوق ساكنة في تلك الروح الظامئة نحو الكلي المطلق أو الحقيقة المتوارية وراء حجاب كما يرى الصوفية.
يأتي رائد أبو زهرة في إبداعه عبر منحوتاته متمرداً على جمود العالم، ليستفزه للإصغاء إلى بوحه في محاولته إزاحة ستار الحجب عن تلك المعاني المفعمة بالإمتلاء والسمو؛ ليكون الإبداع في رؤاه الكشفية حاضراً في دينامية الوجود منطوياً على سؤال الكينونة في توقها وقلقها.
ويؤكد عبر منحوتته أن الإبداع في حقيقته إيغال وسفر في الذات وتسابيح عشق في قدسية المعاني، يرتلها نبض واصل موصول حين يعلوعن الحُجب ويزيح عنه ثوب المظاهر.. فيأخذنا بهذا الإيقاع الإنساني نحو الأفق الأجمل بانفتاحه على الانسان ويتجاوز بنا عبثية واقع يجرد المثل من قيمها العليا، فهذه الذات لا تثمل إلا من نشوة معانقة الكلي المطلق، لأنه عالمها الذي تسكن إليه فهو المعادل الروحي والوجداني لوجودها.
تتجلى منحوتة ياسمين متوهجة عبر ولادة متجددة للذات المبدعة في هذا التمازج مابين “خشب وعطر”، تستفزنا بغموضها وحضورها الآسر، و تتوارى خلف حجب لتتجلى في شكل احتمال..فذلك المعنى الباطن الخفي فيها يظل يلوح بكثافته الإيحائية ولا يبوح، ولا يتمظهر إلا عبر التجلي، ويصير السفر إلى عوالمها واستنطاق كوامنها لوناً من الكشف.
في اسمها “ياسمين” تحمل تأكيداً على استمرارية حضور بياض النقاء، ونبل الطهر وتجاوزه لدوائر الألم وظلمة الزيف.
“ياسمين” تحيلك إلى البياض والعطر ونون التكوين في ميلاد العشق، فتحمل معاني الأنوثة والخصوبة والحياة..
ويتكئ رائد أبو زهرة في”ياسمين” على “ياء النداء للروح”، التي تصعد بنا على إيقاع الشوق نحو”الكشف المشتهى”..وما بين ياء النداء للروح ونون التكوين تنفتح “السين” سماء على ثنائيات الحضور والغياب ومعاني الفيض في أفق التجليات.
ففي حضور الخشب، وبياض الياسمين بنقائه دلالة الحنين للعودة إلى حالة بدئية البراءة والطهر وكونية البدايات..الحنين إلى ذلك التمازج ما بين الروح والعطر، فيسهم في تعميق الدلالة وتخصيب الخيال، ويرسم لنا كينونة الوجود والتحقق في “نون الياسمين” التي حملت دلالة التكوين من تخوم جسد الخشب يمتد قبس من تلك الروح المبدعة ليعانق تلك العوالم العلوية ويشرب من كأس أنوارها.
وما بين مكون الخشب بما يحمله من دلالة الجذور والامتداد والحياة،و بين الياسمين بما يحمله من دلالة النقاء والطهر و سفر العطر تمثلت الحياة و تجلى التناغم بين تلك المكونات في تمازج يحمل دلالة السمو لتلك الأنا العاشقة المبدعة المشتعلة بالتوق وشهوة الصعود نحو الكشف بكينونتها الانسانية .
ولعل أبو زهرة وجد في هذا التمازج مابين الخشب والعطر طاقة تتوهج بالحياة وتستوعب عبق روحانيته وعمق توقه للسفر والتجلي.
وما بين جسد الخشب وعبق روح الياسمين يرتفع بنا رائد أبو زهرة من دائرة المادي والملموس ليضعنا في مراتب الجمال الأسمى في سفر الروح عبر مقامات الشوق، التي تصعد بالذات فتجعلها تنفتح على نفسها وعلى الكون في تجاوز للواقع، وسفر متجدد نحو آفاق عالية.
ولعل رائد أبو زهرة يقترب من جلال الدين الرومي في فنائه في سر البدء ونشوة الكشف، عبر عنها جلال الدين الرومي بقوله: ”إن الهواء الذي أنفخه في هذه الناي، نار وليس هواء! وكل ما ليست له هذه النار فليمت”.
إذ أن كل رحلة خلق في منحوتة تعلن عن سر البدايات وسرمدية اللحظة، و الفناء للذات في أعلى مستويات السمو..فالذات الإنسانية المبدعة التي تسمو إلى آفاق الكون وتستوعب الحياة إنما تعيد إبداعها وخلقها بوعيها وحدسها.
منحوتة رائد أبو زهرة عبق الجذور و التراب وتسامي الروح، تحمل في عمقها إيقاع زمنها المكتظ بكونية سؤالها وتوترات الأنا واحتفاء العاشق بالجمال..و تعكس رؤيا ترتبط بحدس كوني تغيب فيها الحدود مابين المادي و المجرد فيصبح الكون بالنسبة إليها إيقاع حياة وترانيم شوق إلى فضاءات أسمى وأنقى.
وكأن أنامل مبدعها التي تظل تستفز فينا السؤال تحكي صلواتها في محراب عشقها لنكتشف أننا أمام معبد الحياة المتجددة بالتوق الذي يسموبنا إلى أفق التجليات..
وإذا كانت منحوتة رائد أبو زهرة يتجلى في حضورها كشف واحتجاب يفصح عنه ذلك التوهج الآتي من حضورها و الذي هو مرآة لتلك الذات المبدعة في تجاوزها لهشاشة الواقع،ومادية الحياة، لذا نفهم الإبداع باعتباره أسمى تجليات الذات، يحمل سؤالها الذي يتماهى ويتفاعل مع الآخر الذي هو أنا، فنرى المنحوتة كحضور يتألق بالمعنى لا كصورة تُشاهد وتُحس .
ومن هنا رأى ”ابن عربي” أن الإبداع لون من “النكاح الأسمى”، تتحقق الذات عبره بوصالها مع معنى الجمال الأسمى ،وتحقق وجودها الحسي المشهود في الإبداع بصورته الظاهرة، حيث يزوج ابن عربي حروف الأبجدية ببعضها.
وهذا يقودنا إلى السؤال: هل كانت المنحوتة التي تجلت فيها نشوة الاتحاد من حيث أنها رؤيا للكون والحياة هي هذا الأثر الحسي المشهود الذي تحقق من وصال الخشب بعطر الروح و وهج التوق في ذات المبدع رائد أبو زهرة ؟ حتى صارت المنحوتة امتداداً متسامياً لتلك الروح، التي تظل تنهل من فيوضات المعاني لتحقق خلاصها وتجدد شعلة التوق فيها،و محراباً تعبد فيه نبضه ورتل فيه تسابيح شوقه وكأنه يهيئ إلى مقام المكاشفة..ففي نسغ تلك المنحوتة وروحها توق الذات المبدعة للفناء في النور.
فإذا كانت “الذات مأوى الروح” في رؤية أفلاطون للإبداع والذات، بكل تمظهراتها المسكونة في إبداعها، فهل الإبداع هنا هومسكن الروح أو مرآتها التي لا تُرى إلا من خلالها؟؟ أم أنه يصبح برزخاً ما بين غيبيتها و شهوديتها؟
ما بين عالمين ، عالم الذات في رحلة عروجها الروحية نحوالتجلي للمعاني، وعالم يرتبط بالأنا في توقها للتحرر من أسر المادي؟؟ حالة “الحبس بين المقامين” كما يصفها ابن عربي.
وإذا كانت الذات تحقق سموها إلى تلك اللحظة الكونية عبر العشق ففي مقاماته تصعد في سفرها نحوسدرة منتهى فرح الروح من أجل الظفر بمكاشفة الجمال والتوحد به..
وعبر الخشب، الذي يتخذ منه رائد أبو زهرة موطناً ووجوداً ومعبداً لتراتيل الشوق في روحه يفرد أجنحته لسفر الشوق في مقامات العشق متساميا إلى حضرة الجمال ليحقق توحده به عشقاً.
لكن….!
كيف لخفقة الطين الإنساني أن تفيض بكل هذا الوهج في رحلة بحثها عن الخلاص للروح؟؟
كيف يتدفق من الطين الإنساني كل هذا العشق الجارف والتجسيد لأعلى تأملاته ورؤاه وتطلعاته في مخاض الذات المبدعة بمعاناته لكنه يظل متوقداً بالعطاء والنبض في سفر مستمر نحو اللانهايات..نلمس معها ذروة المعنى حيث تلك الومضات المشرقة من نشوة الفرح في أرواحنا..؟؟
وكيف لرعشة الطين الإنساني أن تغزل نغمة التلاحم العشقي من جزيئات المادة”الخشب” وشهقة الروح في توقها للتوحد؟؟
كيف لها أن تطوع الخشب فتجعله نبعاً يهب حياة نستقبلها برهبة ودهشة الذات في ملامستها للمعاني المضيئة؟؟
كيف لإبداع أن يمنح الحياة ويجعل للخشب و الطين والعطر مذاقا وحضوراً جديدا في رقصة تلاحم عشقي للانسان والكون؟؟ فيصبح كالتأمل والصلاة حين يأخذنا إلى مقامات السمو الروحي و يرفعنا إلى ذرى السكينة ويجعلنا نلامس في معانقتنا للجمال ذلك القبس في أرواحنا…
هل ياسمين “رائد أبو زهرة ” هي تلك الحبيبة الكونية التي كانت عند ابن عربي وجلال الدين الرومي؟؟ التي تحول الشوق إليها من شوق الجسد إلى شوق الظمأ لنبع التجلي وفيوضات المعاني الذي تسافر إليه الروح ؟
هل ياسمين هي تلك الحبيبة المتوحدة في أزلية المعاني التي سكن إليها المبدع في حالة عشق نورانية؟؟
هل أراد أبو زهرة عبر المنحوتة أن يقول: أيها النورالأزلي إن روحي موطنك، فما في الروح من زيف، و ما في العالم من دفء ولا ضياء إلا بك أيها الإنسان.
_______
*دكتور محاضر بقسم الفلسفة كلية الآداب جامعة مصراتة

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *