ثمة مريم في كل اسم

*صالح العامري

نشيد ثيران الحقل

نحن الثيران الرائجة في الحقل،
الثيران العالقة بين النير والشمس المهلكة.
نحن لسنا حتى النمل الذي يعرفه سليمان في المدافن الملغمة بالأمل،
ولا حتى الغراب الساديّ العاقّ الذي أرسله نوح.
آهٍ، نحن الثيران الصمّاء،
التي لم تبلغ شأو الغزلان الحائرة بين البرية والشمس،
الغزلان التي تدمع عيونها في مطلع القصيدة.
نحن الثيران المحجوزة تحت أقواس النار والفولاذ،
التي لا تستطيع أن تتطاير مثل حبّات الكستناء المشوية في زمن الأقمار.
يا ويلتاه، نحن الثيران الواقفة طويلاً بلا أسئلة،
لسنا حتّى كؤوساً فارغة أو عربات مجنونة،
لسنا حتى دويباتٍ يعلفها الإسطبل أو تأكلها الحرائق.
نحن الثيران الشاحبة المكرورة
بنشيد أجوف لا يصلح طبلاً للسماء الحزينة.

■ ■ ■


خطأ مائل

أنا الخطأ، أشتد كزوبعة تكسر قمقمها فينساب الصقر في الأعالي، مسبّحاً باسم الكينونات والرياح الذاهلة. أنا الخطأ، أتلوّى في داخلي كجرس مكنون، أوقعه العشق في فخّ الأعياد والفضيحة، معلناً العصيان على جنزير المألوف. أنا الخطأ، مظفَّراً بأقواس صقيلة أرهف سمعي كي يستعيد الينبوع خرير روحه العاطلة. ألعب في ساح الثلج ضد النار، أسقط في قلب الحرائق كي يرتفع نشيد الغابات. تشويني على مهل رائحة كستناء الثعالب. تهمزني بشكل مفاجئ شقعة ضوء تلمع أسرارها الوثنية على براثن سِكّين. ترميني الأرجوحة عن نفسها بعيداً في جهة القهقهة التي تتشاسع في العتمة. يُداهم نمري الغزالة من أمامها المقبل الركاض، يدحرج دُبِّي بندقته الضاحكة في كبد السماء، يعانق قردي قطعته الموسيقية الآفلة، قطعته الضارية التي يسيل لعابها وأنيابها في بريد الضباب.

أنا الخطأ، وهذه كهوف عينيّ، وعروقها المتشابكة. اللعنة لا تخطئني. الذنوب الصغيرة تنهمر كالمسك على مسامّ ذراعي. الرعد يلحس قبعتي المتخيّلة. المطر يكترث بأن يتصبّب أكثر على حذائي الخطاء. الشوق العارم يسرقني من وجهي، فتتفاقم معضلتي وسهامي البرية.

أنا الخطأ، أقرفص مرّة في صدوركم امرأة حلوة، نائمة يحرسها بلبلٌ أبكم. أندلع مرّة أخرى في شحمة أذنكم اليسرى حنيناً قديماً ناقماً على الموانئ. أعدو، مرّات كثيرة، في دمائكم، نافورة مجنونة تتجهز للقفز وراء الأسوار. أتكئ أحياناً على شفتكم السفلى كي ترتطم بالقبلات والكمانات. أحتشد حيناً آخر في مسدسكم الكتيم كي أقتل حماقتي القديمة. أنصاع لكم أحياناً لأنكم تحُكّون أصداغكم بالحيرة والخيبة المريعتين.

أنا الخطأ الطائش، الذي لا أظافر له لكي يقلّمها، لا شعر طويلاً لكي يواظب على تسريحه. لا مقصّ لي ولا مشطاً. لا سرد لي فأنهض في مقاماته وأحواله، لا قصائد تصطادني في حانة المسافرين. أنا الخطأ، القابع في دير الفتنة، المبعثر في الأطوار والغايات، أطير في الإصبع، أطيش في الصدغ، أهذي في الدم الأزرق، أكتظ في ساق القصب الذي يفعل النايات.

ها أنا ذا، الخطأ المبلل بالشهوة والضحكات، الخطأ الراقص في حشدكم ومعانيكم، الخطأ الذي يكرع عصير الأبواب الخشبية والنوافذ المعدنية عند خط الشفق، عند وداع الشمس. الخطأ الذي أنجبته الأمّ التي لسانها من حنطة، والأب الذي غيمته عمياء تترحل منهوبة بالحرائق.

أنا الخطأ، لا الإثم. الخطأ لا الجريمة. الخطأ المائل لا الجريرة المنتصبة. ولذلك سأغني هذه الليلة كما يليق بعصفور يلج رحم الغابة، كما ينبغي لحذاء فيلسوف يُلقِم فم البركان، كما تحلم عربة وهي تشد نفسها إلى نجمة، كما يسعى سُكّر الوادي لكي يغتسل في ملح البحر.

■ ■ ■


مريم

ثمة مريم
في كل اسم جميل،
ثمة مريم
في كل جلّنار،
ثمة مريم تنادي
في كل غيمة تتصبّب أشواقها،
ثمة مريم تعزف
في كل شجرة خضراء،
ثمة يماماتٌ حزينة
تشرق الآن من سرّك
المخبأ في جهات العالم

***

الجراح مكدسة هناك
ثروة ملفوحة بفضة النهر،
الملائكة هناك
تسهر على كوز الوجد،
الينابيع هناك
تتضوّر من العطش
للياسمين الأزليّ

***

دعي شجرة المُرّ
تحبل بكِ مرّة ثانية
فأسقيكِ من خمري
المذهول بنسغك وقصائدك،
دعي الغياب يداريك في بيته
فأستخرج من منجم الصلوات المسكرة
لؤلؤتك التي يغار منها البلبل
بوصلتك التي
ترشد قلبي
إلى المتاهة الشهية

***

آهٍ، لقد بلغ حطامي حدود السماوات
ولن ينقذني إلا قوس قزح قريتك،
آهٍ، لقد صرتُ في عداد الفانين
ولن يضيء جوهري إلا ابتسامتك،
آهٍ، لقد سممتني المدن المحتضرة
ولن أنجو يا حبيبتي
إلا بسُـلَّمك،
آهٍ، لقد دمّرتني الحروب التافهة
ولن أحظى بالعيد الصغير
إلا إذا حطّ طائرك على كتفي،
آهٍ، لن تهدأ الأرواح الشريرة في القتال داخلي
إلا إذا
جلستُ في ظلّ شجرتك
المترعرعة
على ضفة كوثر عينيك الناعستين

***

موقدكِ يلفح عظامي
بوردة النار،
شهقتك
تميمتي التي
تنجيني من الطوفان،
صلواتكِ تذبحني
بالنبيذ والليل المقدّس،
لوحكِ يكتبني
في بذار القصائد،
أزرقكِ يرسمني
في الموجة العارية

***

يا مريم التي في السراب أغنّيها
يا مريم التي في الضباب أكرع رضابها
يا مريم التي في الأشواق أتبختر برعشتها
يا مريم التي في الطرقات تهمس بالسوسنة
يا مريم التي في الثمرة الحلوة تأخذني
لكي أصدع بالنجوم والنهر

***

سافري يا مريم
أنا قاربك المشتعل بالندف والأشواق
ارحلي يا مريم
أنا صليبك الهائم على نحرك
غادري يا مريم
أنا آتيكِ من الجهة
التي لا وداع فيها.

* ولد صالح العامري في شناص العُمانية عام 1965. صدر له: “مُراودات” (1994)، “خطّاط السهو” (2001)، “سلالم صوب الولع”- شذرات وتأملات ومقالات ونصوص سردية (2011)، “ظِلٌّ يهوي معبّأٌ بالضحك” يليه “وجه القُبلة” (2013)، “بريد الغابة وحيوانات أخرى” (2015)، “فرجار الراعي”- تفرسات في الشهوة والجرح والرذاذ والمشائين والأشجار الكثة (2015). كما حرّر أنطولوجيا للشعر العُماني بعنوان “مثل ينبوع معتكف في قلب الشاعر” (2007).

_________
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *