عن رواية فاروق وادي: سوداد (هاوية الغزالة)

عن رواية فاروق وادي:

سوداد (هاوية الغزالة)

محمود شقير

1

عن منشورات المتوسط، في 303 صفحات من القطع المتوسط، صدرت حديثًا في العام 2022 رواية فاروق وادي: “سوداد (هاوية الغزالة)”؛ أي قبل أيام من رحيله إثر مرض عضال، رحيله الذي شكل مفاجأة لأهله ولأصدقائه ومحبيه؛ فقد غادر عمان برفقة زوجته في رحلة استجمام، ولزيارة ابنهما سيف في روما، وابنتهما شهد في لشبونة، ولتتحول رحلة الاستجمام إلى رحلة علاج كما كتب لي في إحدى رسائله، فلم ينجح العلاج في وقف المرض الفتاك، إلا أن فاروق وادي بإرثه الأدبي المتميز سيبقى معنا على الدوام.

تبدأ الرواية من رام الله وتنتهي في رام الله، تبدأ مع بطلها المغامر ياسين الذي أحب فتاة جميلة اسمها ياسمين، لكن أميرًا قادمًا من الصحراء العربية تفوق عليه بما يملكه من مال، ما جعله يظفر بياسمين، ليتخذها زوجة أو محظية في حقيقة الأمر، وما جعل ياسين يتنقل في شتى بقاع الدنيا؛ في الكويت وإسبانيا، وفي لبنان وسوريا بحثًا عن أمان واستقرار، وفي كل مغامراته كانت المرأة وتأمين سبل المعيشة هما غايته ومبتغاه، كما لو أنه يرغب في التعويض عن فتاة أحلامه التي سلبها منه مال النفط، وجعله مشردًا في المنافي والأصقاع.

ومنذ نشأته الأولى؛ تبدى حس المغامرة لديه حين تخفى في زي أبيه الشرطي ليصل في ليلة ثلج باردة إلى بيت امرأة اسمها زهور طلبًا للدفء وللدخول في تجربة عاطفية لا تنقصها الجرأة، ثم لينتهي بعد سنوات عديدة من الاضطلاع بمهن عديدة وتجارب شتى عائدًا إلى مدينته رام الله بزي شرطي نتيجة لاتفاق أوسلو، وسيحال بعد فترة على التقاعد ليواصل الهذيان باسم حبيبته ياسمين حينًا، وباسم ابنته ياسمين التي أنجبتها امرأة برتغالية اسمها جيزيلا، إثر علاقة مع ياسين لم تدم طويلًا، ولم يعترف ياسين بأن له ابنة؛ برغم جهود الابنة المضنية بحثًا عن أبيها ورغبة منها في الانتماء لفلسطين ولشعبها.

2

بلغة جميلة شاعرية آسرة، وبتناصٍّ لافت مع الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا ومع أسمائه الأخرى يكتب فاروق وادي رواية تتخللها بين الحين والآخر تفاصيل شتى عن المأساة الفلسطينية، وعن شتات الفلسطينيين وعن توزعهم في بقاع الدنيا كلها، وعن عودتهم غير المكتملة إلى أرض الوطن، وذلك من خلال بطل الرواية المغامر: ياسين منصور، الذي لم يكتب كلمة واحدة عن الوطن، ولم يُسجن مرة واحدة من أجل الوطن، غير أن الوطن بوجه عام ظل يسري في عروقه، وظلت رام الله بوجه خاص حلمه الذي شهد حبه لياسمين، هذا الحب الذي اعترض سبيله مال النفط، المال الذي أفسد الحياة العربية وجعلها عرضة للحروب الاستعمارية وللتبعية والتسلط والامتهان.

رواية فاروق هذه تدلل على ثقافته الشاسعة التي وظّفها في ثنايا نصه السردي من دون تكلّف أو افتعال، وهي التي مكّنته من الإحاطة بالأمكنة المختلفة وبالتفاصيل الحميمة، وبالإشارات ذات الدلالة التي تعني أن النص مكوّن من طبقات متراكبة متداخلة، ويمكن ملاحظة ذلك من بعض الصياغات اللغوية التي تشفّ عن مرجعيات عديدة؛ مرّة من خلال الأمثال الشعبية، وأخرى من خلال التعبيرات المستمدة من القرآن الكريم، ومن الأغاني الشائعة ومن ثقافات الشعوب الأخرى، بحيث لا يكتفي الكاتب بمتابعة قصة الحب أو قصص الحب التي وقع فيها ياسين، بل يخرج قارئ روايته بمتعة التلقي مقرونة برصيد ثقافي يؤكد له أنه أمام رواية معرفية تأخذ قارئها إلى مجاهل النفس البشرية وإلى صراعات البشر وتناقضاتهم واضطراب حياتهم.

3

وبقدر ما في الرواية من سرد روائي متمكّن جاد، فإن فيها سخريات عذبة تنبع من أسلوب فاروق وادي المتميز، ومن قدرته على تطويع المفردات والمواقف والمشاهد لتغدو قادرة على استحضار السخرية التي لا تؤذي أحدًا حينًا، والتي تصبح لاذعة حينًا آخر؛ كما في الحديث عن العقيد القذافي وأركان حكمه المستبد الذي “حرمت فيه الميتة والدم ولحم الخنزير واحتساء المنكرات”ص255، أو كما في النقد الصريح الساخر لسلبيات التنظيمات الفلسطينية من دون مواربة أو تمويه.

ثم إن في الرواية ميلًا واضحًا إلى كتابة حداثية لا تكتفي بسرد حكايات الحب والعشق والغرام التي وردت بلغة موحية راقية قادرة على إيصال المشهد من دون فجاجة أو إسفاف، بل تذهب إلى تقديم المعنى بتقنيات فنية لافتة، وبصراحة ووضوح حين يقتضي الأمر ذلك؛ كأن يتعدد الساردون في النص، وكأن تتعدّد الأمكنة وتتلاقح الثقافات، وكأن يبلغ التناصّ مع نصوص بيسوا حدوده القصوى مع بداية كل مشهد وفي مطلع كل فصل من فصول الرواية الثمانية؛ التي اصطلح فاروق على تسميتها كتبًا تبدأ من الكتاب الأول إلى الكتاب السابع ثم الأخير، وكأن يتجاوز الخيال والعجائبية والفانتازيا كل التخوم في تألق وتجليات، كما هي الحال مع أسطورة الغزالة ومع قدرة الجدة على حرق الغابة التي يقبع فيها الأشرار بتركيز نظرها عليها، وهي القدرة ذاتها التي استعانت بها جيزيلا لحرق الشقة التي أسكنها فيها ياسين، وكأن تغتني هوية الفلسطيني من جراء التجارب العديدة والاحتكاك بثقافات الشعوب والانفتاح عليها بجرأة وإقدام، وكأن يجري الجهر بمواقف فكرية جريئة على لسان ياسين، وأقصد هنا نقد مؤسسة الزواج والدعوة لرفضها والاستعاضة عنها بالمساكنة، ثم التخلي عن هذا الموقف، وكذلك التطرق إلى دخول العرب إلى الأندلس، ووصف ذلك على أنه استعمار؛ ما يضعنا أمام رواية قادرة على تحفيز الأذهان على التفكير الجاد، وتحريضها على محاكمة المسلمات، وطرح السؤال حولها تلو السؤال.

4

رواية جميلة متميزة لأديب جاد رصين افتقدناه في وقت ما زال في جعبته كثير مما كان يمكن أن يجود به قلمه السيّال.

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *