محمد الجزائري *
( ثقافات )
يستحيل نـَفـَسي إلى نشيج صامت، حين تبكي كريات دمي بهذه الفائقية برغم موانعي لانثيالاتها، تصالفت، وتمردت ،وتجمدت ،لكنها انهارت بعد حب، إذ رَبَت ثم رَنـَت لي، وبانكسار تمنت عليَّ لو لم احبسها بيقظتي، ولأدعها تنشد حريتها، فاستسلمتُ لدواعيها وبواعثها بضغط من نقطة ضعفي..فأومأت لقلبي بأن يستجيب،حتى لو أدماه الشجن وهزته ذاكرة الوقائع والإحن…
أهكذا تفعل بي يا حسن؟ تؤذي قلبي الذي تحب؟ وتخرج على ما تعهدت ووعدت؟ وأنت الطيب الذي تماديت في الدُعاء لسلامته بما بلغت من درجات النبل العليا،ويممت وجهك صوب شفيعك شهيد كربلاء، كي أغنم بما تبقى لي من يسار القلب، وأهنأ،إذ جعلتني دائما ً أصدق صدقك،وحرصك على حماية وجعي وحزني كي لا يزيد، ولا يتبدى خارج قدره ومقداره..فيفضح عافيتي الرعناء، وأنت تعرف بأن قلبي باسط شغافه أمام من يحب،يبايع على التسامح أبدا ً..
هنا ، في حياة باسلة،كدت أفقد يقيني بشفاعتك،لكني لم أشكك بصدق محبتك،فعذرتك ، وها إني لأهمس بتعب الحزن والسرور المُعنّى، بعد أن أطبقتُ الصفحة الأخيرة على جيشان شعوري ،فوقعت على حياة باسلة بماء العين:لكني لا ابالغ إنْ أخبرتك،بأني لازلتُ ارتجف رعشة وراء رعشة، طالما مررت، وبطل سردك وانسانه الجميل العفوي، بموقف ومحنة،حتى حين غشاك الخشوع وأنت تهبط دُرجات ذلك الدهليزوتبتل بماء العباس وتتطهربفرات كرامته وهالته التي غمرتك ..
ربما كان تروتسكي أيضا ًيراقبني برضا عبر عيني كزارحنتوش وهما تطلان من غابته الحمراء..أو تتألقان كذلك الضوء تفيض به “أسمال” جان دمو ودموعه التي “تلجلج ” في محجريه المتعبين،وعلى شفا بسمته الخجلى حالما تتقبل نصه الجديد أوتراجمه، برحابة حب، فتدفع له قبل أن يجف حبره .
أيها الكوكب النوّاب، كنت ألقي بعقلي وقلبي بين ظلماء محطاتك في الحروب أو مغامرة بطلها في كهوف كردستان ومياسمها النارية،أو تواردها في دروب الصعلكة النبيلة والتسكع في شوارع بغداد وحاناتها وفنادقها الرخيصة ،أوالنوم على عشب حدائقها الحنون،وأجد نفسي مسحورا ً بالحزن الصافي السعيد، والوجع الراجف ، والخوف المتدثر بذاته على قارعة السرد، كلما أثقلتْ عليِّ الأحوالُ والأهوالُ والوقائعُ والفجائعُ، فلم استطع تتمة القراءة دفعة واحدة،مثل أغنية أو نشيد، مع أن حياة باسلة أجمل من أغنية وأعمق من نشيد،فهي مساق كربنا، وقهرنا الكربلائي الذي صار عاما ً وشاملا ً مثل القدر، ولذا تحتاج القراءة المتواصلة إلى قلب قوي”معافى” وشديد العزم، كي يحتمل حجم الأسى،وضغط الذاكرة، وأوارالاسترجاعات الدموية والنارية والتعسفية، مع رقة الأهل والأم والزوج وعجزهم وتشبثهم بشفاعة الأئمة والأولياء،والدعاء الذي لايستجاب، والحلول التي لم تحل، ذلك كله يتدفق عليَ سريعا ً كانطلاقة الأحداث وسهمها الحارق ،فتعيدني ،بين صفحة وتلوها ،أوراق حياة باسلة إلى ماضيك ، وتضعني في أتون نيرانه، بما توفرحمى السرد،بحق ، من صفائها التلقائي،ونزاهتها وصدق وقائعها ومشاعر ساردها العليم جدا ً، ولن أحسد صديقتنا انعام على متانة قلبها وشجاعة تحملها..ربما لأنها لم تعش التفاصيل بضغطها الممض الدامي كما عشناها ، في السنوات التي تلت رحيلها المرتاح باكرا ً إلى باريس وعيشها هناك، مقدرا ً محبتها لناس بلدها الأول وطينة العراق…
أهي رواية حرب كتبت بحب ووعد،عن الحرب ومكاشفة الذات والماجريات.؟ رواية صدق عن الذات والآخر؟ الصعاليك والسلاطين الصغار وكبيرهم الذي علمهم القتل؟ عن الخسائر والشهداء؟عن السرد ذاته وضده؟ حين تكون التفاصيل المتدافعة والمندفعة والدافعة بعضها بعضا ً، كتيار وعي غير مبطن ولا مزوّق ولا مرشوش على نتانة الأيام والأحوال ،المواجع والمسرات الصغيرة، بماء الورد والزعفران، بل قـُدت حكائيتهاعلى وفق مزدوج بنية تركيبية- تفكيكية حتى آخر جزئيات وحداتها وعناصرها، لتشي بالسقوط الحتم، أو تشير إلى يومه وغده ، بقدر ما جابت في وقائع التاريخ والزمن والوقت والشخص والوطن والناس،البرهة واللمحة، الدهر والأجل، الآن والأبد.. الممكن والمستحيل.
حياة باسلة، هي النص الذي أنصف الصعاليك الشرفاء، كما أنصف أوجاع الوطن..وقدم “النظام” بهيبته الدموية تماما ً،وشطحات “قائده” الكاريزمية،ونزوات سلطة الحكم وأزلامها، حين تنحرف بهم السفين وتنجرف نحوالأذى والتدمير حد الموت، حتى تصيرمغادرة البلاد وسيلة الخلاص الوحيدة والمخلص معا ً، ولا بديل!
كما أنها كشفت عن نماذج كافية لتوصيف الحال الأدبي ولامست جوهر الثقافي والبشري والإنساني في تلك الآونة العجماء.
ربما تصنف(حياة باسلة ) على انها مقاربة للسيرة الذاتية، لشدة تشابه مجرياتها وحياة كاتبها حد التطابق أحيانا ً،بخاصة لمن يعرف الكاتب وتفاصيل حياته،لكنها نتاج روائي معروض ،الآن، خارج سلطة المؤلف،إذ صارت نصا ً للجميع، وشهادة صدق أمين عن تلك الشرائح التي مربها السارد العليم وتعرف عليها وعايشها وعاش مأساتها، أوملهاتها وسخريتها السوداء. وصار أحد أبطالها وصديق الآخرين حين حرص بأن يظل السارد الراوي بصيغة ضميرالمتكلم والشاهد.
مع ذلك لا أصنفها إلا بكونها عملا ً أدبيا ً(حكائيا ً) أفاد فيه الكاتب من تقنية السرد الخيطي الأفقي،والتتابع الزمني، والشعرية، في متوالية الأيام والأحداث، عدا استرجاعات قليلة،اقتضتها الضرورة وتطلبتها الآنية، لتفيد- بالإجمال- من السيرة والحدث والوقائع، فشكلت نسقها الجمالي وشعريتها في بلاغة بساطة، ولم تنزلق إلى نزق الفبركة وقيد النمذجة الحكائية أو شكلانيتها التغريبية بدافع الجمالية،بل مادت بفوضى أحداثها لكن الكاتب تمكن من قيادة تلك الوقائع وتوظيفها في لجة تلك الفوضى وتلك النار، وأخرجها من فرنها ناضحة بالألم وزافرة بالسعير ومكتنزة بالغنى الإنساني، إلى المد ى الموفق في الكتابة والتوترالمؤثروالنبل الرهيف، فبدت كما لوكانت وثيقة تسجيلية صادقة ونزيهة عن زماننا، كتبت بشفافية قلب شاعر،وفيوضات طيبة الذين أحبهم من أقرانه،فكشف عن معادنهم الخيرة،كما أنها لم تـُحمّـل “الآخر” ترهات المبالغة في نقده أو شتمه، ولم تفتعل بطولات زائفة لدى الذين جاؤا في السياق بالكنى أو بالترميز،أوالذين رحلوا بهويات مجهولة الإسم والعنوان عدا كونهم من أبناء تلك الأرض مواطنتهم العامة هي هويتهم المجازية وعنوانهم الأمين ،حيث انضموا لأديم هذه الأرض وسديم التاريخ ومخاتلاته والتباسات المرحلة ووضوح القصد .
هذه رواية (بطلها) جمعيون،من ساردها الشاعرالصعلوك سائق الدبابة،إلى الجنود الذين سقطوا سهوا ً،أوقنصا ً أو قصفا ً عن عمد،والبشرالذين أضنكتهم الحروب وهدهم الحصار، والأمكنة والنخيل والأفعال،لكن حسب الكاتب بأن حصته في ذلك كله ومن ذلك كله ، أنه كان السارد العليم والشاهد الأمين الذي شاف كل شيء، ودوَّن ذاكرة النار والأسى، فأحسن وأجاد….
* ناقد من العراق يعيش في بلجيكا