وجوه الحقيقة في رواية ” أبناء السماء” ليحيى القيسي
سهيل فتياني
“كل ما أذكره أنني كنت مطاردا من قوى خفية، تتربص للفتك بي”.
هكذا تبدأ رواية الكاتب الأردني يحيى القيسي (أبناء السماء)، حيث يبدأ الراوي، الشخصية الرئيسة في الرواية، وهو شاب أردني درس في إحدى الجامعات السوفييتية هندسة الطائرات، ويحمل تصورا ماديا عن العالم، مغامرة للبحث عن الحقيقة بمعناها الوجودي، تتخللها العقبات والصعوبات في سبيل إطفاء جذوة القلق المشتعلة في ذاته، بعدما تعرض لمجموعة من التجارب الغامضة التي لم يجد لها تفسيرا.
تتيح الرواية للكاتب التعبير عن رؤاه الفكرية وتصوراته إزاء الكون من خلال شخصيات يجعلها وسيلة للبوح بالأسرار، وكشف المجهول المخفي، في محاولة منه لفهم الوجود وإشكالاته. وتعد الأسئلة وتدفقها داخل المتن السردي من أهم الوسائل التي ساعدته على هذا كله، بفضل ما تؤديه من دور في إثارة القارئ للمشاركة في استكناه تفاصيل العالم غير المنظور.
تخوض شخصيات الرواية تجارب خاصة للبحث عن تفسير للظواهر الخارقة والماورائية في هذا الكون، وتُروى أحداثها بأسلوب حكائي متميز، مع توظيف ناجح للتقنيات السردية التي ينبني عليها الفن الروائي.
تصور الرواية، منذ بدايتها، حالة القلق التي تهيمن على الراوي جرّاء ما واجهه في رحلة البحث عن الحقيقة، وتتزاحم الأحداث والوقائع في ذاكرته، وتجعله يعيش حالة من التشظي والفوضى الداخلية، حيث تظهر له وجوه غير آدمية، أقرب في تشكلاتها إلى الوحوش، فيبدأ بالصراخ، ويهوي إلى الأرض، ويشعر حينها بالموت، ويقاوم، بلا جدوى، أشباحا تشبه دخانا كثيرة وممغنطة، ليلمح، في نهاية المشهد الأول، نورا كشف عن وجه أليف يبتسم له ويقول: “لا تقلق، ستكون بخير إن شاء الله”.
في غمرة ذلك، يستدعي الراوي أحداثا واجهته قبل هذه اللحظة بثلاثة أشهر، فقد كرس نفسه مع مجموعة للبحث عن الكنوز المخبوءة في مدينة مجاورة معروفة باختباء كثير من الكنوز التي تركها العثمانيون أثناء تواجدهم في الأردن، ويروي تفاصيل ما حدث معهم في الليلة الأخيرة من البحث، إذ واجهتهم أمور غامضة وخارقة ، فقد ظهر لهم نار كثيف، ونار موقدة، وقوى غيبية أدت إلى رفعه في الهواء، وإسقاطه فوق إحدى الأشجار، فيما كانت صرخات الآخرين بادية، ولمح أحد أعضاء المجموعة وقد شلت إحدى يديه، وتغيرت معالم وجهه، فيما اختفت امرأة مغربية كانت مختصة بفك الجان، وفقد الشخص الرابع عقله.
تشكل هذه اللحظة منعطفا حادا في حياة الراوي وتفكيره، فقد كان يعتقد جازما، قبل ذلك بأن ما كان يُروى له من رفقائه عن الجن والعفاريت مجرد أمور لا يقبلها العقل، وتدعو إلى السخرية، غير أنه ظل مندهشا مما جرى له ولهم في هذه الليلة. كما ظل مترددا فيما رأى وسمع، ولم يجد تفسيرا يدحض الخرافات التي كانوا يتحدثون عنها.
وجوه الحقيقة
حاولت الرواية أن تقدم صورا متعددة للحقيقة من خلال بحث الشخصيات الرئيسية المتواصل عن حقيقة الكون، فجلّها منشغل في البحث عن حقيقة ما يجري في عالم الماورائيات، ومن أبرز هذه الشخصيات “الحسيني”، وهو طبيب مصري يعيش في الأردن، وقد درس في الاتحاد السوفييتي، غير أنه يحمل تصورا مغايرا عن الكون و العوالم الخفية، حيث يلتقيه الراوي، وتتوثق صلته به، ويروي له تفاصيل ما حل معه في تلك الليلة ، فيجيبه الحسيني بأن هنالك الكثير في هذا العالم ما يزال غامضا ومجهولا، وأن ما نحمله من معرفة لا يجيب عن كل الأسئلة التي تواجهنا، لذا علينا ألا ننكر ما نرى، فنحن لا نمتلك الحقيقة المطلقة، ولكن كلا منا يروي قصته من زاويته، كما أن هنالك قوة ما في هذا الكون تمتلك السيناريو كاملا.
كانت النقاشات مع الحسيني تثير فضول الراوي للبحث، ولتغيير طريقة تفكيره، على الرغم من أنها كانت تنتهي إلى طريق مسدود، بسبب تصور كليهما للعالم. بيد أن المشترك بينهما البحث عن الحقيقة الغائبة، لذا يعيش كل منهما حالة من القلق والانفصال عن الواقع بسبب ما يريان ويسمعان عنه من الأحداث الغريبة. فقد تزلزلت أفكارها المادية، مثلما تزلزل إيمانهما الديني الموروث، وها هما يبحثان عن الخلاص من التيه الذي سيطر عليهما، والوصول إلى الطمأنينة الروحية.
من خلال هذه الحوارات يتضح اتصال الحسيني بخبراء روس، قسم منهم متخصص في الماورائيات، جاؤوا إلى مصر ضمن بعثات استكشافية لحضارتها القديمة وعلومها، فقد تبين لهم أن الحضارة المصرية كانت متطورة جدا في علوم شتى، وأن هذه الحضارة هي وريثة لحضارة متطورة وجدت على الأرض في قارة أطلنطس بالتحديد، وكانت متصفة بالحكمة والتطور العلمي، وقد اتصلت بالكواكب الأخرى من مجرتنا، وعرفت سر المادة والطاقة. وقد تعرضت هذه الحضارة لطوفان كبير دمرها، أما القلة الناجية من علمائها وحكمائها فقد تفرقوا في الأرض الجديدة لمحاولة بناء حضارتها من جديد، وقد جاء بعضهم إلى مصر، وأسسوا حضارة الفراعنة بكل ما فيها. وقد احتفظ بعض ملوك الفراعنة وكهنتها بهذه الأسرار، وكانوا على صلة مع حضارات أخرى من كواكب مأهولة ساهمت في بناء حضارتهم مستخدمين تكنولوجيا متقدمة، كما اكتشف العلماء الروس أسرارا كثيرة عن هذه الكواكب المأهولة، يدل عليها وجود أطباق طائرة ومركبات غريبة في عدة مناطق في العالم. وقد تشكلت مجموعة من هؤلاء الروس تقوم بالاتصال مع حضارة أخرى تعيش على أحد الكواكب، وهم يعتقدون بإمكانية الانتقال إليها بمساعدة التقنيات المذهلة لهذه الحضارات، ليعيشوا هناك فيما يشبه الجنة.
في الطريق إلى الحقيقة يتعرف الراوي على “كاثلين” الإيرلندية، وهي تحمل تصورا روحيا عن العالم، من خلال تجربتها الروحية الطويلة المستمدة من الفلسفات الهندوسية والبوذية وبعض الديانات، وتجارب المعلمين الروحانيين الكبار في العالم، حيث حضر معها بعض الجلسات الروحية التي تقوم على التأمل، الذي تَعُده وسيلة للصفاء الروحي، وللشفاء والعلاج من خلال استغلال الطاقة الموجودة في ذات الإنسان. وروت له أن بعض الأشخاص لهم قدرات روحية عالية بسبب امتلاكهم لهذه الطاقة، وأنهم قادرون على التخاطر ومعرفة المستقبل والاتصال بالعالم الخارجي.
ثمة شخصية أخرى يلتقي بها الراوي في طريقه للبحث عن الحقيقة، وهو “الأب حنا”، الذي حدثه عن تجربته الروحية، حيث رأى المسيح في المنام يباركه، ويمنحه بعض القدرات كشفاء المرضى من الأمراض المستعصية، وطرد الأرواح الشريرة ببركته، كما أخبره عن وجود قوى مخفية عن أنظارنا، ومنها أرواح شيطانية أو شريرة.
وللتخلص من حيرته يسافر الراوي إلى حلب، ويلتقي بمجموعة صوفية، حيث تعرف، عن كثب، على التصوف، وشهد بعض كائنات الكرامات، وعرف بأن التصوف يعنى بصفاء النفس، وتنقية القلوب، وأنه روح الدين، وباطن الشريعة، وأن الله يختص بكراماته من يشاء من عباده الصالحين.
نهاية المطاف في رحلة الراوي كانت بتعرفه على “آمنة” التي تدرس التصوف في إحدى جامعات إنجلترا، حيث قادها البحث الروحي إلى هذا التخصص، فقد أكدت له أننا جزء من منظومة شبكة الطاقة التي كانت تربط نقاطا محددة معا بما فيها الأهرامات، وتتواصل من خلالها مع الكواكب الأخرى، وبينت له أن العوالم غير المنظورة أمر حاصل، وأن الإسلام يؤكد ذلك.
الخاتمة
تخالج الراوي في رحلته، التي استمرت ما يقرب من خمسة عشر عاما، حالة من الارتباك النسبي، وخلخلة في المعتقدات الفكرية التي كان يعتقد بها، يقول: ” كل ما عرفت قد يقود المرء للجنون؛ لأننا لم نعتد على سماعه، ولكنه منطقي جدا إذا تم جمعه معا في لوحة فسيفساء واحدة لتبدو الصورة كاملة، وأعتقد أنني أضع الآن حجارتها الأخيرة معا كي أرتاح”.
غير أن هذه التجارب الروحية التي شهدها بنفسه أو سمع عنها من أصحابها، والأفكار التي تتصل بها تركت أثرا إيجابيا في نفسه، كما غيرت نظرته للكون القائمة على الفكر الماركسي المادي، وبدأت تفسر له ما حدث معه في تلك الليلة المشهودة التي رأى فيها الخوارق، وقادته، في النهاية، إلى الإيمان بمعناه الروحي القائم على الانفتاح والتسامح والمحبة.
-
عن العربي الجديد