مدينة في السماء


عباس بيضون *

«مدينة في السماء» هي نيويورك لكن كتاب عيسى مخلوف ليس عن نيويورك. انه أكثر من ذلك، كتاب في نيويورك ومن نيويورك يتطلع إلى العالم. الأعمال التي عن نيويورك والتي نتذكر بعضها، قبر من أجل نيويورك، قصائد لوركا، قصائد غينسبرغ. هي غالباً أعمال ساخطة ترى إلى نيويورك كمتاهة من الاسمنت، كاختزال مريع للكائن، نيويورك عيسى مخلوف هي هذا وغيره «تمثال الحرية يرفع يده عالياً تنبعث من حوله روائح الهواء الساخن الآتية من اسطبلات..»، «كل طابق حفرة أعمق في الأرض، كل علو يقابله علو آخر يجعل الهاوية أكثر هولاً»، «حين يتكاسل الغيم ويرحل.. ثيران مجنحة من فولاذ». ليست نيويورك هذا وحده، انها دورة زمان كاملة، دورة عام من الصيف إلى الربيع. وإذ يقول عيسى «هذا الصباح هو منحوتة أخرى لا تفتأ تصوغ نفسها» «الغيمة لا تستقر على شكل» لا نعود نرى الهاوية المنصوبة بل نسافر في العالم وحول العالم كما كانت أم عيسى تسافر في قلبها، عيسى يسافر بعينيه وقلبه وفكره، فمن «الأمم المتحدة» حيث كان عيسى منتدبا. يترك وراءه «الموظفين الذين يتعاطون مع كوكب الأرض مثل ميكانيكيين هواة امام آلة معطلة» يسافر إلى الكوميديا الإلهية وإلى بياتريس دانتي حيث «في المحن صمت الله لا يطاق» ينقل بصره وفكره على المرأة الحامل. على طائر البلشون، على صوت ماريا كالاس ينشد الفقرة التاسعة من أوبرا نورما، على سماء مانهاتن، على بومبيي وساحة ابن طولون وسيدة الالزهايمر (في رثاء والدته) على 11 ايلول (وورلدتراي سنتر اسم لضريح كبير ينصهر فيه القتلة والمقتولون)، على مقبرة اليتامى، على امرأتين في لوحة دافنشي، على موسيقى بوهان سباستيان باخ، على مسامرات المجانين التي تذكر بمسامرات الأموات للوقيانوس السميساطي على منحوتة هنري مور، على يدين في اعلى الجدارية، على لوركا الذي بدا له جسر بروكلين المعلق (لحنا نشازاً). تأملٌ معه الكثير من الشعر، الكثير من القصائد. بياتريس دانتي، المرأة الحامل بطن المرأة، أسماء، سيدة الالزهايمر، مقبرة اليتامى، هدأة التماثيل، يدان في أعلى الجدراية، بيد ان هذا المزيج من التأمل والرثاء والغناء هو في قرارته شعر، شعر عند تقاطع وتفاعل ثلاث لغات: العربية، الانكليزية، الفرنسية، شعر يصل في بعض لمحاته إلى درجة من النفاذ والاصابة. ففي 11 ايلول يمتزج الافتتان بالخوف وهؤلاء الذين رموا أنفسهم من الطوائف العليا حشرات بلا أجنحة، ونحن أحيانا نلتقي بمن نبحث عنهم خارج ما فاتنا من وقت، وبعض الكتب لا نقرأها بل نعترف أمامها، والنحات الأول أراد أن يروي حكاية لا يعرفها هو نفسه، وسيدة الالزهايمر كان صوتها جسداً آخر و«حين تشتاق تحرك رأسها يمنة ويسرة كأنها تمرغه في هواء معطر وهي تنظر «إلي» ولا تراني تتعقبني عيناها كآلتي تصوير و«الألم يشتد» لدرجة انتفاء الألم». في كل نص عيسى مخلوف نرى من جهة الشعر ونعثر لا على فضاء الشعر وحده لكن على مفرداته وجزئياته، فهو يرى من داخل نيويورك لا العالم وحده، لكن ذاته ايضا. انه نص لا نقرأه فحسب، بل نعترف أمامه.

* شاعر وصحفي من لبنان

( السفير )

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *