(ثقافات)
السباعي.. الشهيد
د. لوتس عبد الكريم
كلما حلَّت الذكرى طازجةً نقيةً عطرةً ، كأنها بالأمس القريب ، تكون ذكرى لكل من أغدق العطاء ، وبذرَ الحَبَّ ، وبذَلَ الحُب ، فكيف بمن كانت حياته – كلها – حُبًّا وبذلا وعطاءً ، حتى استُشهد في سبيل ذلك .
كيف يمكن لمن كانت حياته كلها أنموذجًا من الصعب أن يُحتذى في أقصى ما يمكن أن يُوصف به إنسانٌ من الجمال والاكتمال ، أن يظل في ذاكرة مُحبِّيه عزيزًا في الممات ، كما كان في الحياة .
هكذا تحِلُّ الذكرى حاملةً مئات الذكريات وأحداث الليالي والأيام ، كأنه ما فارقنا ، ولا مضت كل تلك السنوات الطوال .
إن صوته ونبراته ما زالت كما هي تنساب في رقة الأحاديث والنصائح بل والأوامر ، التي تنضح بالحب والإنسانية .
لقد كان مثالا نادرًا للخير لا يُنسى ، ولا تُمحى ذكراه أبدًا .
فهذا الرجل قد ترك بصمةً في الزمان ، وخلَّفَ جُرحًا غائرًا ، لا يداويه مرور الوقت ، ولا يصلح معه نسيان .
ولأن هذا الرجل هو الأديب المحارب الذي أطلقت عليه أول رصاصة إسرائيلية عام 1948 ، على أرض فلسطين ، قد قُدِّر له أن يموت بعد ثلاثين عاما ب ثلاث رصاصات فلسطينية .
الإنسان الذي لم يكره أحدًا ، أصابته رصاصاتٌ لم يستفد منها أحد ، فكان الحدث فريدًا من نوعه .
وتمر تسعة وثلاثون عاما على رحيل شهيد العدالة و الفن والأدب والثقافة والحق والحرية وقضايا الإنسان بشكل عام ، فارس القلم والسيف ، الذي سقط بعيدًا في بلدٍ غريبٍ ، وهو يدافع عن قضية الإنسان ، حيث قتلته رصاصاتٌ غاشمة غادرة ، عاش مُحاربًا ومات مُحاربًا ، لكنه لم يمُت في سمع أو بصر الزمن ، وكان كعنوان كتابٍ له ” أقوى من الزمن ” ، بابتسامته ومبادئه وبقوة إيمانه ، هذه الأشياء الثلاثة التي لا تزول أبدا من خيالٍ كل من عرفه أو عاشره.
فكان يسخر من الموت ، و من الحياة ، وكانت له فلسفة خاصة ، وروايات ، وتاريخ عريض ، لقد صنع يوسف السباعي هذا التاريخ وهو يكتب لمصر القصة والرواية منذ السادسة عشرة من عمره ، في الزقاق والدرب ، في الهزيمة والنصر ، وتَرْجَمت كتاباته عشق مصر ، التي حمل من أجلها السلاح كضابطٍ في قواتها المسلحة ، كما حمل راية الفن والأدب ، ولواء الدعوة للتضامن الآسيوي الإفريقي ، وحمل – أيضًا – مسؤلية الدفاع عن حرية الكاتب في كل مكانٍ من الوطن العربي .
ويصل يوسف السباعي إلى مرتبة الفيلسوف الشعبي ، كأنه يريد إيصال هذا المعنى إلى العامة ؛ لذا فقد راجت رواياته وقصصه على الصعيد المصري والعربي ؛ لرؤيته السياسية والاجتماعية ، كما تُرجمت إلى إحدى عشرة لغة أجنبية مختلفة .
فهو صاحب الرواية الواقعية التي تحمل العظة والعبرة والمعنى العميق منذ الكلمة الأولى ، وقد التهم الشباب المتعطِّش للمعرفة ، تلك الأهداف خُصوصًا من خلال تحويل أعماله إلى السينما والإذاعة والتلفزيون والمسرح ، فكان من أغزر كُتَّاب مصر إنتاجًا ، كما أن أيَّة مؤسسة أدبية قائمة في مصر اليوم يرجعُ الفضل في وجودها وحياتها إلى يوسف السباعي .
لقد عرفت يوسف السباعي في مرحلةٍ مبكِّرةٍ من الصبا ، وكانت كثيرات من فتيات مصر عاشقات لكتاباته ، من خلال رواياته : ” رُدَّ قلبي ” ، ” بين الأطلال ” ، ” إنِّي راحلة ” ، ومرَّت الأعوام والتقيت به وبأسرته في لندن ، حيث كنتُ أقيم كزوجةٍ لدبلوماسيٍّ ، وتوثَّقت أواصرُ الصداقة هناك ، وتكرّرَت الزيارات ، ورأيت لونًا آخر من وجوه يوسف السباعي كربٍّ للأسرة .
وأصبحت أسرة يوسف السباعي جُزءًا من حياتي ، وكان كثير الأسفار ، وكُنَّا ننتقل من بلدٍ إلى آخر ، فكانت زياراته لنا تتكرَّر ، حتى آخر زيارة في روما ، حيث كان زوجي سفيرًا هناك ، وكان يعتبرني واحدةً من أسرته ، فكان يوجِّه لي العبارات القاسية أحيانًا ، واللوم الشديد حرصًا على مصلحتي .
فحكاياته وفلسفته وحكمته ، وقلبه الكبير ، وابتسامته المشرقة أضاءت جلساتنا وحياتنا.
كثيرًا ما بكيتُ له ، وغرق معي في أحزاني ومشكلاتي ، إذ كنت أهرع إليه في المقطَّم حيال كل عقبة أو مشكلة أو موقف صعب ، حيث الدَّوحة ، دوحة الجمال والحب ، وواحة الأمان والراحة ، منزل يوسف السباعي ، و السكن الهادىء المطمئن ، والأسرة الوادعة الطيبة ، أقضي بينهم ليلةً أوليالي ، أنفض همومي ، ويعود إليَّ هدوئي ، واستكانة نفسي ، والفضل له ، فقد طبع أهل المنزل بطابعه في الحكمة والمرح ، فأصبحوا كيانًا واحدًا من العقل والرقة والمشاركة والإحساس ، وكانت هذه الدوحة ملتقىً للكثير من الأدباء والأصدقاء ، فقد التقيتُ فيها ومعه بأبرز أعلام الفكر والأدب والفن والسياسة : ثروت عكاشة ، إحسان عبد القدوس ، أنيس منصور ، فاتن حمامة ، ماجدة ، نجاة الصغيرة ، و…
كنتُ أحاول أن أتعلَّم الكثير من حكمته وتفكيره المتزن ، فكان يقول لي : ( الحياة حلوة ، وإن المرارة في أفواهنا نحن ، ومن كانت المرارة في فيه ؛ فإنه يجد مرًّا به الماء الزلال ، والحياة سهلةٌ لمن لا يركب الصعب ، مستقيمة لمن لا يعوج أو يلتوي ، هنيَّة لمن يخلص ، ليِّنة لمن يؤمن ) ، ويقول أيضًا : ( خيرٌ لنا أن نحب ما نوهب من أن نبكي على ماضاع ) ، وأذكر أيضًا أنه كان يقول لي دائمًا : ( إن السعادة ليست كما تنتظرونها وتفكرون بها إنما هي عبارة عن فتافيت يومية لا نلتفت إليها ، مثل كتابٍ شائقٍ ، أو حمَّامٍ ساخنٍ ، أو فنجان من القهوة المضبوط ، عطر وردة ، صديق أو نزهة إلى آخره ) .
وأراه ماثلا أمامي يحادثني ، وينصحني أو ينهرني أو يربت على كتفي ، فحواراتنا كانت كثيرةً ، ونقاشاتنا عنيفة أو هادئة كانت أكثر ، وآراؤه العاقلة الرصينة كانت تُحدِّد مسار أيامي .
فلا أنسى كلماته حين يجدني مُحبطةً يائسةً ، فيقول : ( اعملي زي التعلب لمَّا لم يصل إلى العنب فقال عليه إنه حصرم وانصرف ) .
وأذكر كلمات له بكل رومانسيته قالها في واقعيةٍ قاسيةٍ : ( الحب وحده لا يصلح أساسًا للزواج ) .
والغريب أنه ختم حياته ب ” العمر لحظة ” ( لحظة واحدة تعادل العمر كله ، ورب لحظة كيومٍ ويوم كعامٍ وعام كدهرٍ ، لحظة واحدة هي ذخيرة الحياة وما بعد الحياة ، لو كانت هناك بعد الحياة حياة ) .
ولم يكتب كاتب أو أديب عربي عن القضية الفلسطينية مثلما كتب يوسف السباعي ، حيث دافع عن الفلسطينيين فاغتالوه ، وفي مقال له بعنوان ” وثبة شجاعة عبر جدار الشك ” كتب ” ( إن القضية الفلسطينية هي جوهر المشكلة ، ولا سلام بغير الفلسطينيين ، ويجب الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ، والعودة إلى أرضه ، وإقامة دولته ) .
وفي رأيي أن الرئيس القبرصي كبريانو الأسبق يتحمَّل مع حكومته مسؤولية اغتيال يوسف السباعي ، سواء من الناحية الجنائية أو من الناحيتين الأخلاقية والسياسية ، وهو أيضًا مسؤول عن المذبحة الرهيبة التي وقعت على أرض لارنكا ، عندما أطلق جنود الحرس الوطني القبارصة اليونانيون ومجموعة ” الفدائيين ” الفلسطينيين الرصاص على ظهور أفراد قوة الكوماندوز المصريين ، جنود مصر التي قدمت الكثير من أجل وحدة شعبيْ قبرص واستقلاله ، وكذلك من أجل فلسطين .
الآن وبعد تلك السنوات الطُوال ، أكتب عن يوسف السباعي ، النجم الذي أفل في ذُروة نوره ، والنهر الذي نضب في قمة فيضانه ، والعمر الذي ذوى في أوج اكتماله وقوته ، لقد كان وزيرًا للثقافة حتى آخر أيامه ، ولو تجسَّدت الثقافة في إنسانٍ ؛ لكانت هي يوسف السباعي عقلا وقلبًا ورُوحًا وعلمًا وسلوكًا وخُلُقًا .
-
عن صفحة الأديبة د. لوتس عبدالكريم – الفيس بوك
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
من أوراق حياة يوسف إدريسمحسن عبد العزيز*هل كان يوسف إدريس إنسانا من لحم ودم، عاش بيننا؟ وهل كتب…
-