محسن عبد العزيز*
هل كان يوسف إدريس إنسانا من لحم ودم، عاش بيننا؟ وهل كتب عليه ما كتب على الناس من حياة ومرض وموت؟ إذا كانت الإجابة: نعم.. فمن إذن هذا الإنسان الأسطوري الذي تروي الحكايات عن عبقريته وطلعته وجنونه وعظمته وشجاعته وتمرده وموهبته.. ويحمل نفس الاسم والعيون الزرقاء والقامة المديدة والكبرياء الذي لا حد له؟
أيهما الإنسان؟ وأيهما الأسطورة؟ أيهما الكاتب المقاتل؟ وأيهما الأب والزوج؟ أيهما المبدع النزق؟و أيهما كان يوسف إدريس الذي يمشي على الأرض؟ وأيهما الذي كان يحلق عاليا في سماء الإبداع، يجلس فوق السحاب يكلم الريح فينزل المطر.. أيهما كان المارد الذي لا يهزم؟ وأيهما كان يعجز ـ وهو الطبيب ـ أن يداوي الفقر والجهل والمرض؟ ثم كيف يقولون إنك ذهبت: وقصصك وشخصياتك أبطال حكاياتك يطلعون في كل مكان؟
إذا ذهبت إلى قريتي أحس في لحظات كثيرة إنني أخرج من دنياي إلى دنيا يوسف إدريس، وأقول هذا الشخص الذي أراه هو “عوف بطل قصتك في الليل”، عوف الذي يضحك القرية وناس القرية ولا تحلو الجلسة ولا السهراية إلا به، رغم أنه لا يملك ثمن كيلة غلة.
وهذا هو البرعي الخفير الذي يحلم بأن يتكلم في التليفون مثل العمدة، وعندما تحدث المعجزة وتتحقق أمنيته يقول لمن يرد عليه في الطرف الآخر: يلعن أبوك يا مركز ويغلق السكة.
وهذا هو المقرئ الضرير في ”بيت من لحم”، وذلك الأسطى محمد الذي يتعامل مع المكنة كأنها حتة منه يجب ألا تخونه وتعمل مع سواه. وهذا عبده الذي يبيع دمه لأنه لا يجد عملا، وهذا الحفني أفندي مدرس الكيمياء الذي لم تعرف الابتسامة وجهه لكنه عندما علم بأن أحد تلاميذه أصبح طبيبا فرح كطفل نجح لتوه في الشهادة الابتدائية.. وهذا.. وهذا… إلخ.
شخصياتك تحاصرني في كل مكان، في المستشفى، والمدرسة، والمسجد، والمصلحة الحكومية، والقطار والأتوبيس، وحتي في السجن يا عاشق الوطن.. فكيف يقولون أنك مت؟! ونحن لا نستطيع الهروب منك ومن شخصياتك تلك التي لا تموت أبدا.
منذ بدايتك جاء الميلاد الأسطوري عندما صممت علي كسر قواعد اللغة العربية وصممت أن يكون اسم مجموعتك الأولى “أرخص ليالي” ولم تسمع لملاحظة النقاد والنحويين ولا حتى لعميد الأدب العربي طه حسين من أجل حذف الياء، رغم أن حذفها لن يغير المعني.. بل إنك قلت في تحد: أنا أنطقها هكذا وإنني ملتزم في كتاباتي بقواعد الحياة وليس بقواعد النحو.
وأمام الإبداع الجبار المباغت نسي الجميع حذف الياء بعد أن سحرهم بطل القصة ”عبد الكريم” الذي تتدفق من فمه خراطيم الشتائم عقب صلاة العشاء فتصيب آباء القرية وأمهاتها، وتأخذ في طريقها الطنطاوي وأجداده.
وكل هذه اللعنات لأن الطنطاوي الخفير عزم عليه بكوب شاي ثقيل في المغرب.. فطار النوم من عينيه.. وهو لا يعرف أين يسهر ليلته.. وليس معه قرش صاغ واحد حتي يذهب لغرزة الإسعاد ويطلب القهوة ويعقبها بكرسي دخان ويجلس ما شاء يراقب حريفة الكوتشينة، ويستمع إلي ما لا يفهمه من الراديو، ويضحك من قلبه مع السباعي ويلكز أبو خليل وهو يقهقه، لكن ليس معه قرش! جازاك الله يا طنطاوي! ويمشي عبد الكريم هائما في الشوارع ونحن معه نحس بالقرية وبيوتها التي تتكوم أمامها السباخ تشبه المقابر.. ولا شيء يدل على الأحياء المكدسين تحت السقوف إلا مصابيح متناثرة، كأنها عيون جنيات رابضات يقدح منها الشرر، ويغرق نورها في سواد البركة.
فكر عبد الكريم أن يخطف رجليه للشيخ عبد المجيد لكنه لا يستطيع أن يتنحنح ويطرق بابه، لأنه أول أمس فقط، دفع الرجل من فوق مدار الساقية فأوقعه في الحوض وأضحك عليه الشارد والوارد.
وعندما تضيق السبل أمام عبد الكريم يقول لنفسه:
ماذا يحدث إذا عاد إلي بيته كذا كالناس الطيبين.. ولكز امرأته فأيقظها، لكنه يعرف أنها ترقد كزكيبة الذرة المفروطة، ولن تصحو ولو نفخ إسرافيل في نفيره.. الله يجحم روحك يا طنطاوي يابن زبيدة.
وطالت حيرة عبدالكريم لكنه أخيرا استقر وسط داره وأغلق الباب بالضبة والمفتاح وراءه.. وتخطي أولاده الستة وهو يزحف في الظلام، ومصمص شفتيه هو يئن منهم ومن الظلام ويعتب علي الذي رزقه ستة بطون تأكل الطوب وعبر آخر الأمر علي امرأته.. وأخذ يطقطق لها أصابع يديها ويدعك قدميها اللتين عليهما التراب بالقنطار، ويزغزغها في خشونة بعثت اليقظة المقشعرة في جسدها. وقال وهو ينضو ثيابه ويستعد لما سيكون.. هه.. الله يجازي اللي كان السبب.
ولأن يوسف إدريس كاتب استثنائيا، فإنه لا يكتفي بهذه النهاية الدالة، ولكنه يدخل إلي نهاية ثانية يقول:بعد شهور كانت النساء كالعادة يبشرنه بولد جديد، وكان هو يعزي نفسه علي السابع الذي لن يملأ طوب الأرض بطنه هو الآخر،. ولا يكتفي يوسف إدريس بهذه النهاية أيضا لأنه قرر أن يفعل في إبداعه ما يشاء ونحن في جميع الأحوال لا نملك إلا الدهشة والإعجاب بهذا العبقري.
فهو تقول في نهاية ثالثة لنفس القصة، وبعد شهور وسنوات كان عبدالكريم لا يزال يتعثر في جيش النمل من الصغار الذين يزحمون طريقه.. وكان لا يزال يتساءل كل ليلة أيضا ويداه خلف ظهره وأنفه يتشمم حوله، عن الفتحة التي في الأرض أو السماء والتي منها يجيؤون!
كان الإبداع القصصي قبل يوسف إدريس يتكلم بالنحوي.. فالرجل الأمي يقول في حواره.. ماذا دهاك يا رجل؟ بلغة معلبة لا تناسب الشخصية ولا تحس معها بأي حرارة أو صدق.
حتي جاء يوسف إدريس وأنزل الأدب من أبراجه العاجية إلي براح الحياة وحركة الشارع والناس وآلام البشر وطموحاتهم، وأحلامهم العادية، وتفاصيل حياتهم التي تكشف أحلام الإنسان وإحباطاته أيضا.
ونظرا لقدرته الفذة وموهبته الملتهبة فإن يوسف إدريس يلعب بنا لعبة “المرجيحة” في قصة تحمل الاسم نفسه، يصعد بنا للسماء ثم يهبط بنا للأرض، وقد تدق رؤوسنا وتسيل منها الدماء، بينما هو يسخر من سذاجتنا كأي قاتل محترف لا يترك وراءه أثرا إلا الدهشة والمتعة التي لا تروح من شدة عبقريته.. نحن نلهث وراءه في لعبة المرجيحة التي تبدو كالدنيا ترفعنا إلي سابع سما ثم تهبط بنا إلي سابع أرض.
ونتفرج علي” عبد اللطيف” صاحب المرجيحة المريض، وهو ينتظر يوم العيد علي أحر من الجمر، يعد الثواني والساعات والأيام في انتظار العيد حيث تمتلئ جيوبه بالملاليم.
لكن قبل أن نتمادي في الحكاية انتظر قليلا، فيوسف إدريس قرر أن يسخر من انتظارنا جميعا ومن انتظار عبد اللطيف المسكين قائلا: خيل لعبداللطيف أن اليوم سيأتي فجأة كبيرا واسعا عريضا.. ولكنه عندما جاء لم يكن كذلك أبدا.. أشرق فجره ثم نما صبحه وكبر ضحاه في بساطة وبلا تهليل!
كان اليوم في بساطة قدومه كالزمن وهو يدفع مرجيحة الحياة بيده القوية، فتذهب أيامنا وتجيء ليالينا هكذا في يسر وبلا ضوضاء.
وعبد اللطيف مريض وابنه مريض وامرأته حلوة، لكن يوم العيد ينسي أنه عبداللطيف المشروخ الذي دفعه اعتلال صحته إلي ترك النجارة ونصب المرجيحة، فيقف بجوارها حليق الذقن مرتديا ثوبه الأبيض الجديد الذي اشتراه منذ ثلاث سنوات واحتفظ به للمناسبات.
الأطفال يحبون مرجيحة عبد اللطيف المريض ولا يذهبون إلى مرجيحة جودة القوي، يستريحون لعبد اللطيف ويده النحيلة التي لن تعلقهم أبدا بين الأرض والسماء. وفرح عبداللطيف وهو يري نفسه منتصرا والأطفال يتعلقون بجلبابه ويصرخون والنبي ياعم عبد اللطيف.. وحين سرت النشوة في قلبه غني بأعلى صوته ليغيظ جودة القوي.. لكن لعبة المرجيحة لم تنته بعد كما نتوقع، إذ يلعب بنا يوسف إدريس لعبة المرجيحة يوم فوق.. ويوم تحت.
فالزحام حول مرجيحة عبداللطيف كان السبب في إصابة سالم ابن العمدة من مقدمة المرجيحة وهو يشاهد صعودها وهبوطها.
ولم يمت ابن العمدة ولكن سالت دماؤه وأخذوا عبد اللطيف للمركز.. وهناك مات من الخوف مثل بطل تشيكوف الشهير في قصة «موت موظف».
ولا ينهي يوسف إدريس القصة عند هذا الحد لكنه علي لسان الأب يفتح قصة أو حكاية أخري فالمرجيحة (الدنيا لا تتوقف عن الصعود والهبوط حتي لو مات صاحبها.
يقول الأب لابنه وهو يموت: البركة فيك يا محمد، ولم تحل البركة بمحمد وإنما حل به المرض، وامتلأ بطنه بالماء وأطلقوا عليه محمد الزير.. وطال رقاده بالمنزل لكنه كان يسأل في دهاء مريض: من أين يأكلون؟ وكانت الإجابة اسمها المعلم أحمد بطاقيته الوبر ولاسته الحريرية.
ويضفر يوسف إدريس الحكاية قائلا: مات عبد اللطيف وعليه ديون للمعلم أحمد.. وكان المعلم يعرف كيف يطرق باب المرحوم فتفتح له نبوية وفوق فمها ابتسامة، وكان محمد يتساءل في رقدته فوق الفرن عن عيني أمه اللتين كثيرا ما زارهما الكحل ولم يمض علي وفاة زوجها شهران.. يتساءل محمد ولا يهتم بالإجابة، فقد كان بطنه العالي يخفي عن عينيه الدنيا.. لولا يد أمه البضة وهي تحمل له كوب الشاي، لكنه لم يعد يحتمل فسأل أمه:
ـ ألا يامه المعلم أحمد بييجي كتير ليه؟ واحمرت خدود الأم وابتسمت وغمزت بعينيها وقالت هامسة: أصله بيتكلم علي أختك.
وصدق هذا ولم يجد مانعا أن ينام المعلم في بيتهم مادام قرأ فاتحة أخته، ومع هذا ومن خلال الطاقة المعتمة التي يطل منها علي الحياة.. لم يفته أن يراعي التنافس الذي استوي علي أقدامه بين أمه وأخته في جلي الكعوب وتسريح الشعر وتقريص الخدود حتي تحمر.
ومع الأيام ساءت حالة محمد وتقرر نقله إلي مستشفي المركز وغاب عن وعي الناس والقرية وشيئا فشيئا عن وعي المعلم وأمه وأخته.. محمد المريض الذي كان السؤال مات لكن يوسف إدريس لا ينهي القصة هنا أيضا.. ربما لأننا في المرجيحة والمرجيحة لا تتوقف بسهولة. وأصبحت أحاديث القرية تبدأ بأمشير وما فعله في الأرض والناس وتقاوي القمح الفاسدة، ثم تنتهي بفاتحة البنت التي قرأها المعلم.. وقد يتحد الناس ويأتلفون حول أي شيء، لكنهم ينقسمون دائما ويختلفون هل يتزوج المعلم البنت أم أمها. وتستمر الشائعات رائحة غادية تعيد قصة المرجيحة التي كان ينصبها عبد اللطيف كل عيد، ويظل المعلم هو الآخر يروح ويجيء بينهما فلا يستقر عند البنت ولا عند أمها.
انتهت القصة، لكن الدنيا المرجيحة لم تنته بعد، وأعتقد أن يوسف إدريس كان يمكن أن يظل يمرجحنا هكذا إلي ما لا نهاية، لكنه بالتأكيد أدرك أن هذا يكفي وأننا لا يمكن أن نكون أغبياء أكثر من ذلك.
قصة5” ساعات” إحدي قصص هذه المجموعة من القصص التي كتبها يوسف إدريس من تجاربه الشخصية، فهي قصة واقعية عن مصرع الضابط الوطني عبدالقادر طه الذي قتله الحرس الحديدي للملك فاروق وتحدثت عنه الصحف، وشاء القدر أن يكون يوسف إدريس طبيبا مناوبا في قسم الاستقبال في مستشفي قصر العيني في ذلك الوقت، فحملوا إليه هذا الضابط الجريح ليخلد قصته ويكتبها بعقله ودمه بعد أن أصبح شاهدا علي أهم فصولها، خلال هذه القصة سوف يتماهي يوسف إدريس مع البطل تماما وأكثر من ذلك سوف يجعل هذا الضابط الجريح هو الوطن وهو كل الأبطال الذين دافعوا واستشهدوا في سبيله، يقول: كنت في تلك الليلة كلما رأيت دم الجريح المغتال يجف فوق يدي، كلما أوغلت في تأمل الجريح الذي لابد كان رجلا ككل الرجال.. نما من طمي وادينا.. ومصنع قمحنا.. وارتدي قطننا.. وصنعت أذرتنا خلاياه.. وكلما أوغلت في تأملي، أري الآباء والأجداد والشهداء الذين لهم أسماء فوق الرخام والشهداء الذين بلا أسماء ولا رخام، أهيم ثم أعود إلي يدي التي فوق صدر الجريح إلي الأصابع التي تحاول عبثا أن تمنع موتا جديدا.. وأي موت؟
كنت أحس طوال الوقت الثقيل أنه مضروب في ظهره، وأنه مظلوم، لأننا كلنا مظلومون، وأصبحنا في الحجرة أسرة واحدة ذات جرح واحد.. وكان لتر الدم الأخير أهم حدث أو محاولة لإنقاذ جسد يصارع النزيف الداخلي، لكن فجأة يبصق ملأ فمه دم أحمر.. وراح في غيبوبة ورحنا في صمت، الممرضة راحت عيناها تعودان بين الفم الذي أصبح كالجرح، والجرح الذي أصبح كالفم، والتومرجي قد أمسك بمفتاح أسطوانة الأكسجين واستمات عليه، وحاربنا عدوا قويا لا نراه.
وجاء من الركن نحيب الممرضة المكتوم واقشعرت أجسادنا وانتفضنا نبذل ما في وسعنا من جرأة اليأس ومقدرته، وعلا نحيبها وأصبح كدوي الطبول.
ودفع التومرجي أسطوانة الأكسجين جانبا وارتمي فوق عبدالقادر وهو ينهنه ويبكي، ويقتلع النفوس ببكائه الرجالي الخشن ويقول:
ـ آه يا حبيبي يا أخويا.
وجال بخاطري أن أعانق زميلي وأضم ما في صدري إلي ما في صدره وأخفي ما أحس به من خجل إزاء فشلنا أمام الموت.
ولم أفعل وبقينا بلا زمن راجعين نتأمل الرجل المسجي، وتحز الخسارة في قلوبنا، وأعيننا ثابتة في مكانها لا تغادر وجهه الوديع الذي كان يلمع بالعرق.. وملامحه التي استراحت في هدوء دائم، وحين واريناه تحت الغطاء كان الشك في موته لا يزال يملأ النفوس.
إذا كانت ثلاث قصص ليوسف إدريس من أول مجموعة له ”ارخص ليالي” عام 1954 قد أخذتنا شرقا وغربا، وذهبت بنا إلي عمق القرية والمدينة والكفاح الوطني وفلسفة الحياة، والفقر والغني، والقوة والضعف، والوفاء والغدر، والحب والكره.. ورفعتنا إلي عنان السماء بإبداعها الراقي.. فكم من المجلدات نحتاج لنكتب عن كل أعمال يوسف إدريس؟.. كم من الأوراق والمجلدات نحتاج لنكتب عن ”بيت من لحم” و”قاع المدينة” و”أليس كذلك” و”حادث مشرف” و”العتب علي النظر” وروايات”الحرام” و”العيبط و”البيضاءط ومسرحيات ”الفرافير” و”جمهورية فرحات” و”ملك القطن”… إلخ.
من أوراق حياته
تري ما أهمية أن نعرف إن كان يوسف إدريس غنيا أم فقيرا؟ ملاكا أم شيطانا؟ حقيقة أم خيالا؟.. كل هذه أشياء لا أهمية لها والمهم إبداعه العبقري الذي يقدر علي أن يستدرك ضحكك أو بكاءك وأنت تجلس بمفردك مأخوذا بشخصيات هذا العبقري المبدع حد الجنون.
مثل معظم المبدعين كانت نشأة يوسف إدريس المولود 19 مايو 1927 بقرية البيرون شرقية نشأة قاسية.
وحتي الأم كانت مثالا للجدية والصرامة لدرجة أنه لا يتذكر أنها قبلته إلا بعد حصوله علي بكالوريوس الطب!
وأبوه كان يعمل في استصلاح الأراضي وتزوج مرتين، الأولي أنجب منها بنتين، والثانية أم يوسف إدريس، وكثيرا ما كان الأب يتنقل من مكان لآخر بعيدا عن بيته وأسرته، فكانت الأم هي الأم والأب معا.. وكان يوسف الابن الأكبر علي سبعة أبناء من الزوجة الثانية، يسير علي قدميه ثلاثة كيلو مترات ليصل إلي مدرسته الابتدائية في فاقوس مع زملائه.
واستطاع والده ـ رغم دخله المحدود وهذا العدد الكبير من الأولاد ـ أن يرسل ولديه الكبيرين ليدرس أحدهما الطب في القاهرة والآخر الفنون الجميلة وسكن الأخوان في شقة صغيرة بالمبتديان عام 1945.. وفي كلية الطب التقي بصديقيه صلاح حافظ ومصطفي محمود وتغير مستقبله تماما.. وأسس لجنة الطلبة والعمال في جامعة القاهرة 1946 واشترك في المظاهرات وتعرض للاعتقال أكثر من مرة لكنها كانت لفترات قليلة لا تزيد علي أيام.. وعندما قامت ثورة يوليو كان أحد أنصارها وأنشأ مجلة ”التحرير” في سبتمبر 1952.
وبعد ذلك بعامين في أغسطس 1954 أصدر مجموعته القصصية الأولي ”ارخص ليالي” التي كانت فتحا جديدا في عالم القصة القصيرة المصرية والعربية، لكن في الشهر نفسه تقريبا قامت سلطات الثورة بالقبض عليه وحبسته لمدة 13 شهرا بحجة انتمائه لليسار، وكان السجن محفزا له علي الإبداع لأنه قرر أن يكمل ثورته الخاصة في الكتابة.
وفي عام 1957 شاهد الفتاة الصغيرة رجاء الرفاعي فأعجبته وتزوجها بعد أن قابلها بـ 48 ساعة، وكانت السنوات الخمس الأولي للزواج ـ كما روت لي السيدة رجاء في حوار سابق ـ جحيما لا يطاق لأن الحياة مع فنان صعبة جدا، فإن كان سعيدا يجعلنا جميعا نطير من الفرح، وإن كان تعيسا أتعسنا جميعا، لأنه كان صادقا جدا في انفعالاته.. وكان يظل أحيانا لمدة خمسة أيام بلا نوم.
ثم سافر إلي الجزائر وشارك في حرب التحرير عام 1961 وبعدها أنجب أول أولاده ”سامح” عام 1962 ثم ”بهاء” 1964 ثم”نسمة”. 1973.
وكانت هزيمة 67 قاسية عليه فترك الكتابة وافتتح عيادة خاصة ليحترف الطب لأول مرة في حياته، لكنه لم يلبث أن أغلق العيادة والتحق بوزارة الثقافة ثم استقر في جريدة ”الأهرام” منذ عام 1969 حتي وفاته عام 1991.
وكانت حياة يوسف إدريس كلها معارك فكرية وسياسية، ومع قدوم الثمانينيات زادت حدة معاركه مع توفيق الحكيم وعبد الحميد رضوان وزير الثقافة ثم الشيخ الشعراوي وخالد محمد خالد حول تطبيق الشريعة، ثم معركته مع دكتور أحمد شفيق حول اكتشاف دواء الإيدز.
وعندما فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل غضب غضبا شديدا وهو الأكثر موهبة عندما تجاوزته الجائزة للروائي المصري العتيد.
كان الرئيس السادات من الشخصيات التي حيرت يوسف إدريس كثيرا بعد أن استبعده من وظيفته عام 1973 ومعه مائة آخرون من الكتاب ثم قربه ثم أبعده مرة أخري، فكتب عنه سلسلة مقالات ”البحث عن السادات” أثارت عليه حربا شرسة من أنصار السادات، ومن الرئيس مبارك شخصيا الذي هاجمه في خطاب عيد العمال 1983.
كانت سياسة السادات قد أصابت معظم المبدعين بالاكتئاب كصلاح جاهين وصلاح عبد الصبور واضطرت البعض للهجرة كعبد المعطي حجازي وأحمد بهاء الدين، وأدت إلي توقف آخرين عن الإبداع منهم يوسف إدريس الذي توقف عن كتابة القصة واتجه إلي المقال.
وقال عن ذلك: لم أكن أحمل قلما لأكتب قصة، بل كنت أحمل رشاشات للدفاع عن نفسي ورد الهجوم اليومي الذي لا يتيح فرصة للتنفس فما بالك بالكتابة والفن والإبداع وكلها تحتاج للهدوء.
ورغم موهبته وإنجازه القصصي غير المسبوق في مصر، إلا أنه لم يحصل علي أي جائزة، غير جائزة الدولة التقديرية قبل وفاته بأسابيع توفي في أغسطس 1991.
والحقيقة أن يوسف إدريس لا يحتاج إلي أي جائزة، وإنما الجائزة هي التي تحتاج إليه لتستمد منه قيمتها وشرعيتها، لأنه حقا أكبر من أي جائزة.
* الأهرام.