من أوراق حياة يوسف إدريس


محسن عبد العزيز*


هل‭ ‬كان‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬إنسانا‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬ودم‭، ‬ عاش‭ ‬بيننا؟‭ ‬وهل‭ ‬كتب‭ ‬عليه‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬ومرض‭ ‬وموت؟ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الإجابة‭: ‬ نعم‭.. ‬فمن‭ ‬إذن‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬الأسطوري‭ ‬الذي‭ ‬تروي‭ ‬الحكايات‭ ‬عن‭ ‬عبقريته‭ ‬وطلعته‭ ‬وجنونه‭ ‬وعظمته‭ ‬وشجاعته‭ ‬وتمرده‭ ‬وموهبته‭.. ‬ويحمل‭ ‬نفس‭ ‬الاسم‭ ‬والعيون‭ ‬الزرقاء‭ ‬والقامة‭ ‬المديدة‭ ‬والكبرياء‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬حد‭ ‬له؟‭ 
أيهما‭ ‬الإنسان؟‭ ‬وأيهما‭ ‬الأسطورة؟‭ ‬أيهما‭ ‬الكاتب‭ ‬المقاتل؟‭ ‬وأيهما‭ ‬الأب‭ ‬والزوج؟‭ ‬أيهما‭ ‬المبدع‭ ‬النزق؟‭و ‬أيهما‭ ‬كان‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬الذي‭ ‬يمشي‭ ‬على‭ ‬الأرض؟‭ ‬وأيهما‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحلق‭ ‬عاليا‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬الإبداع، ‭ ‬يجلس‭ ‬فوق‭ ‬السحاب‭ ‬يكلم‭ ‬الريح‭ ‬فينزل‭ ‬المطر‭..‬ أيهما‭ ‬كان‭ ‬المارد‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يهزم؟‭ ‬وأيهما‭ ‬كان‭ ‬يعجز‭ ‬ـ‭ ‬وهو‭ ‬الطبيب‭ ‬ـ‭ ‬أن‭ ‬يداوي‭ ‬الفقر‭ ‬والجهل‭ ‬والمرض؟‭ ‬ثم‭ ‬كيف‭ ‬يقولون‭ ‬إنك‭ ‬ذهبت‭: ‬ وقصصك‭ ‬وشخصياتك‭ ‬أبطال‭ ‬حكاياتك‭ ‬يطلعون‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان؟‭
إذا‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬قريتي‭ ‬أحس‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬كثيرة‭ ‬إنني‭ ‬أخرج‭ ‬من‭ ‬دنياي‭ ‬إلى‭ ‬دنيا‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس، ‭ ‬وأقول‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬أراه‭ ‬هو “‬عوف‮ ‬بطل‭ ‬قصتك‭ ‬‮‬في‭ ‬الليل”‬، ‭ ‬عوف‭ ‬الذي‭ ‬يضحك‭ ‬القرية‭ ‬وناس‭ ‬القرية‭ ‬ولا‭ ‬تحلو‭ ‬الجلسة‭ ‬ولا‭ ‬السهراية‭ ‬إلا‭ ‬به، ‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬ثمن‭ ‬كيلة‭ ‬غلة‭.‬
وهذا‭ ‬هو‭ ‬البرعي‭ ‬الخفير‭ ‬الذي‭ ‬يحلم‭ ‬بأن‭ ‬يتكلم‭ ‬في‭ ‬التليفون‭ ‬مثل‭ ‬العمدة، ‭ ‬وعندما‭ ‬تحدث‭ ‬المعجزة‭ ‬وتتحقق‭ ‬أمنيته‭ ‬يقول‭ ‬لمن‭ ‬يرد‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭: ‬يلعن‭ ‬أبوك‭ ‬يا‭ ‬مركز‭ ‬ويغلق‭ ‬السكة‭.‬
وهذا‭ ‬هو‭ ‬المقرئ‭ ‬الضرير‭ ‬في ‬‮”‬بيت‭ ‬من‭ ‬لحم”‬، ‭ ‬وذلك‭ ‬الأسطى‭ ‬محمد‭ ‬الذي‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬المكنة‭ ‬كأنها‭ ‬حتة‭ ‬منه‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬تخونه‭ ‬وتعمل‭ ‬مع‭ ‬سواه‭. ‬وهذا‭ ‬عبده‭ ‬الذي‭ ‬يبيع‭ ‬دمه‬ لأنه‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬عملا، ‭ ‬وهذا‭ ‬الحفني‭ ‬أفندي‭ ‬مدرس‭ ‬الكيمياء‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬الابتسامة‭ ‬وجهه‭ ‬لكنه‭ ‬عندما‭ ‬علم‭ ‬بأن‭ ‬أحد‭ ‬تلاميذه‭ ‬أصبح‭ ‬طبيبا‭ ‬فرح‭ ‬كطفل‭ ‬نجح‭ ‬لتوه‭ ‬في ‬الشهادة‭ ‬الابتدائية‭.. ‬وهذا‭.. ‬وهذا‭… ‬إلخ‭.‬
شخصياتك‭ ‬تحاصرني‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان، ‭ ‬في‭ ‬المستشفى، ‭ ‬والمدرسة، ‭ ‬والمسجد، ‭ ‬والمصلحة‭ ‬الحكومية، ‭ ‬والقطار‭ ‬والأتوبيس، ‭ ‬وحتي‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬يا‭ ‬عاشق‭ ‬الوطن‭.. ‬فكيف‭ ‬يقولون‭ ‬أنك‭ ‬مت؟‭! ‬ونحن‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬الهروب‭ ‬منك‭ ‬ومن‭ ‬شخصياتك‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تموت‭ ‬أبدا‭.‬
منذ‭ ‬بدايتك‭ ‬جاء‭ ‬الميلاد‭ ‬الأسطوري‭ ‬عندما‭ ‬صممت‭ ‬علي‭ ‬كسر‭ ‬قواعد‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وصممت‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬اسم‭ ‬مجموعتك‭ ‬الأولى “‬أرخص‭ ‬ليالي‮” ‬ولم‭ ‬تسمع‭ ‬لملاحظة‭ ‬النقاد‭ ‬والنحويين‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬لعميد‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حذف‭ ‬الياء، ‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬حذفها‭ ‬لن‭ ‬يغير‭ ‬المعني‭.. ‬بل‭ ‬إنك‭ ‬قلت‭ ‬في‭ ‬تحد:‭ ‬أنا‭ ‬أنطقها‭ ‬هكذا‭ ‬وإنني‭ ‬ملتزم‭ ‬في‭ ‬كتاباتي‭ ‬بقواعد‭ ‬الحياة‭ ‬وليس‭ ‬بقواعد‭ ‬النحو‭.‬
وأمام‭ ‬الإبداع‭ ‬الجبار‭ ‬المباغت‭ ‬نسي‭ ‬الجميع‭ ‬حذف‭ ‬الياء‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬سحرهم‭ ‬بطل‭ ‬القصة ‬‮”‬عبد الكريم‮” ‬الذي‭ ‬تتدفق‭ ‬من‭ ‬فمه‭ ‬خراطيم‭ ‬الشتائم‭ ‬عقب‭ ‬صلاة‭ ‬العشاء‭ ‬فتصيب‭ ‬آباء‭ ‬القرية‭ ‬وأمهاتها، ‭ ‬وتأخذ‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬الطنطاوي‭ ‬وأجداده‭.‬
وكل‭ ‬هذه‭ ‬اللعنات‭ ‬لأن‭ ‬الطنطاوي‭ ‬الخفير‭ ‬عزم‭ ‬عليه‭ ‬بكوب‭ ‬شاي‭ ‬ثقيل‭ ‬في‭ ‬المغرب‭.. ‬فطار‭ ‬النوم‭ ‬من‭ ‬عينيه‭.. ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أين‭ ‬يسهر‭ ‬ليلته‭.. ‬وليس‭ ‬معه‭ ‬قرش‭ ‬صاغ‭ ‬واحد‭ ‬حتي‭ ‬يذهب‭ ‬لغرزة‭ ‬الإسعاد‭ ‬ويطلب‭ ‬القهوة‭ ‬ويعقبها‭ ‬بكرسي‭ ‬دخان‭ ‬ويجلس‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬يراقب‭ ‬حريفة‭ ‬الكوتشينة، ‭ ‬ويستمع‭ ‬إلي‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يفهمه‭ ‬من‭ ‬الراديو، ‭ ‬ويضحك‭ ‬من‭ ‬قلبه‭ ‬مع‭ ‬السباعي‭ ‬ويلكز‭ ‬أبو‭ ‬خليل‭ ‬وهو‭ ‬يقهقه، ‭ ‬لكن‭ ‬ليس‭ ‬معه‭ ‬قرش‭! ‬جازاك‭ ‬الله‭ ‬يا‭ ‬طنطاوي‭! ‬ويمشي‭ ‬عبد الكريم‭ ‬هائما‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬ونحن‭ ‬معه‭ ‬نحس‭ ‬بالقرية‭ ‬وبيوتها‭ ‬التي‭ ‬تتكوم‭ ‬أمامها‭ ‬السباخ‭ ‬تشبه‭ ‬المقابر‭.. ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬الأحياء‭ ‬المكدسين‭ ‬تحت‭ ‬السقوف‭ ‬إلا‭ ‬مصابيح‭ ‬متناثرة، ‭ ‬كأنها‭ ‬عيون‭ ‬جنيات‭ ‬رابضات‭ ‬يقدح‭ ‬منها‭ ‬الشرر، ‭ ‬ويغرق‭ ‬نورها‭ ‬في‭ ‬سواد‭ ‬البركة‭.‬
فكر‭ ‬عبد الكريم‭ ‬أن‭ ‬يخطف‭ ‬رجليه‭ ‬للشيخ‭ ‬عبد المجيد‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يتنحنح‭ ‬ويطرق‭ ‬بابه، ‭ ‬لأنه‭ ‬أول‭ ‬أمس‭ ‬فقط، ‭ ‬دفع‭ ‬الرجل‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬مدار‭ ‬الساقية‭ ‬فأوقعه‭ ‬في‭ ‬الحوض‭ ‬وأضحك‭ ‬عليه‭ ‬الشارد‭ ‬والوارد‭.‬
وعندما‭ ‬تضيق‭ ‬السبل‭ ‬أمام‭ ‬عبد الكريم‭ ‬يقول‭ ‬لنفسه‭:‬
ماذا‭ ‬يحدث‭ ‬إذا‭ ‬عاد‭ ‬إلي‭ ‬بيته‭ ‬كذا‭ ‬كالناس‭ ‬الطيبين‭.. ‬ولكز‭ ‬امرأته‭ ‬فأيقظها، ‭ ‬لكنه‭ ‬يعرف‭ ‬أنها‭ ‬ترقد‭ ‬كزكيبة‭ ‬الذرة‭ ‬المفروطة، ‭ ‬ولن‭ ‬تصحو‭ ‬ولو‭ ‬نفخ‭ ‬إسرافيل‭ ‬في‭ ‬نفيره‭.. ‬الله‭ ‬يجحم‭ ‬روحك‭ ‬يا‭ ‬طنطاوي‭ ‬يابن‭ ‬زبيدة‭.‬
وطالت‭ ‬حيرة‭ ‬عبدالكريم‭ ‬لكنه‭ ‬أخيرا‭ ‬استقر‭ ‬وسط‭ ‬داره‭ ‬وأغلق‭ ‬الباب‭ ‬بالضبة‭ ‬والمفتاح‭ ‬وراءه‭.. ‬وتخطي‭ ‬أولاده‭ ‬الستة‭ ‬وهو‭ ‬يزحف‭ ‬في‭ ‬الظلام، ‭ ‬ومصمص‭ ‬شفتيه‭ ‬هو‭ ‬يئن‭ ‬منهم‭ ‬ومن‭ ‬الظلام‭ ‬ويعتب‭ ‬علي‭ ‬الذي‭ ‬رزقه‭ ‬ستة‭ ‬بطون‭ ‬تأكل‭ ‬الطوب‭ ‬وعبر‭ ‬آخر‭ ‬الأمر‭ ‬علي‭ ‬امرأته‭.. ‬وأخذ‭ ‬يطقطق‭ ‬لها‭ ‬أصابع‭ ‬يديها‭ ‬ويدعك‭ ‬قدميها‭ ‬اللتين‭ ‬عليهما‭ ‬التراب‭ ‬بالقنطار، ‭ ‬ويزغزغها‭ ‬في‭ ‬خشونة‭ ‬بعثت‭ ‬اليقظة‭ ‬المقشعرة‭ ‬في‭ ‬جسدها‭. ‬وقال‭ ‬وهو‭ ‬ينضو‭ ‬ثيابه‭ ‬ويستعد‭ ‬لما‭ ‬سيكون‭.. ‬هه‭.. ‬الله‭ ‬يجازي‭ ‬اللي‭ ‬كان‭ ‬السبب‭.‬
ولأن‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬كاتب‭ ‬استثنائيا، ‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬بهذه‭ ‬النهاية‭ ‬الدالة، ‭ ‬ولكنه‭ ‬يدخل‭ ‬إلي‭ ‬نهاية‭ ‬ثانية‭ ‬يقول‭:‬بعد‭ ‬شهور‭ ‬كانت ‬النساء‭ ‬كالعادة‭ ‬يبشرنه‭ ‬بولد‭ ‬جديد، ‭ ‬وكان‭ ‬هو‭ ‬يعزي‭ ‬نفسه‭ ‬علي‭ ‬السابع‭ ‬الذي‭ ‬لن‭ ‬يملأ‭ ‬طوب‭ ‬الأرض‭ ‬بطنه‭ ‬هو‭ ‬الآخر،. ‬ولا‭ ‬يكتفي ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬بهذه‭ ‬النهاية‭ ‬أيضا‭ ‬لأنه‭ ‬قرر أن ‬يفعل‭ ‬في‭ ‬إبداعه‭ ‬ما‭ ‬يشاء‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الأحوال‭ ‬لا‭ ‬نملك‭ ‬إلا‭ ‬الدهشة‭ ‬والإعجاب‭ ‬بهذا‭ ‬العبقري.‬
فهو‭ ‬تقول‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬ثالثة‭ ‬لنفس‭ ‬القصة، ‭ ‬وبعد‭ ‬شهور‭ ‬وسنوات‭ ‬كان‭ ‬عبدالكريم‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يتعثر‭ ‬في‭ ‬جيش‭ ‬النمل‭ ‬من‭ ‬الصغار‭ ‬الذين‭ ‬يزحمون‭ ‬طريقه‭..‬ وكان‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يتساءل‭ ‬كل‭ ‬ليلة‭ ‬أيضا‭ ‬ويداه‭ ‬خلف‭ ‬ظهره‭ ‬وأنفه‭ ‬يتشمم‭ ‬حوله، ‭ ‬عن‭ ‬الفتحة‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬أو‭ ‬السماء‭ ‬والتي‭ ‬منها‭ ‬يجيؤون‭!‬
كان‭ ‬الإبداع‭ ‬القصصي‭ ‬قبل‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬يتكلم‭ ‬بالنحوي‭.. ‬فالرجل‭ ‬الأمي‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬حواره‭.. ‬ماذا‭ ‬دهاك‭ ‬يا‭ ‬رجل؟‭ ‬بلغة‭ ‬معلبة‭ ‬لا‭ ‬تناسب‭ ‬الشخصية‭ ‬ولا‭ ‬تحس‭ ‬معها‭ ‬بأي‭ ‬حرارة‭ ‬أو‭ ‬صدق‭.‬
حتي‭ ‬جاء‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬وأنزل‭ ‬الأدب‭ ‬من‭ ‬أبراجه‭ ‬العاجية‭ ‬إلي‭ ‬براح‭ ‬الحياة‭ ‬وحركة‭ ‬الشارع‭ ‬والناس‭ ‬وآلام‭ ‬البشر‭ ‬وطموحاتهم، ‭ ‬وأحلامهم‭ ‬العادية، ‭ ‬وتفاصيل‭ ‬حياتهم‭ ‬التي‭ ‬تكشف‭ ‬أحلام‭ ‬الإنسان‭ ‬وإحباطاته‭ ‬أيضا‭.‬
ونظرا‭ ‬لقدرته‭ ‬الفذة‭ ‬وموهبته‭ ‬الملتهبة‭ ‬فإن‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬يلعب‭ ‬بنا‭ ‬لعبة “‬المرجيحة‮” ‬في‭ ‬قصة‭ ‬تحمل‭ ‬الاسم‭ ‬نفسه، ‭ ‬يصعد‭ ‬بنا‭ ‬للسماء‭ ‬ثم‭ ‬يهبط‭ ‬بنا‭ ‬للأرض، ‭ ‬وقد‭ ‬تدق‭ ‬رؤوسنا‭ ‬وتسيل‭ ‬منها‭ ‬الدماء، ‭ ‬بينما‭ ‬هو‭ ‬يسخر‭ ‬من‭ ‬سذاجتنا‭ ‬كأي‭ ‬قاتل‭ ‬محترف‭ ‬لا‭ ‬يترك‭ ‬وراءه‭ ‬أثرا‭ ‬إلا‭ ‬الدهشة‭ ‬والمتعة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تروح‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬عبقريته‭.. ‬نحن‭ ‬نلهث‭ ‬وراءه‭ ‬في‭ ‬لعبة‭ ‬المرجيحة‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬كالدنيا‭ ‬ترفعنا‭ ‬إلي‭ ‬سابع‭ ‬سما‭ ‬ثم‭ ‬تهبط‭ ‬بنا‭ ‬إلي ‬سابع‭ ‬أرض‭.‬
ونتفرج‭ ‬علي‭” ‬عبد اللطيف‮” ‬صاحب‭ ‬المرجيحة‭ ‬المريض، ‭ ‬وهو‭ ‬ينتظر‭ ‬يوم‭ ‬العيد‭ ‬علي‭ ‬أحر‭ ‬من‭ ‬الجمر، ‭ ‬يعد‭ ‬الثواني‭ ‬والساعات‭ ‬والأيام‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬العيد‭ ‬حيث‭ ‬تمتلئ‭ ‬جيوبه‭ ‬بالملاليم‭.‬
لكن‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نتمادي‭ ‬في‭ ‬الحكاية‭ ‬انتظر‭ ‬قليلا، ‭ ‬فيوسف‭ ‬إدريس‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يسخر‭ ‬من‭ ‬انتظارنا‭ ‬جميعا‭ ‬ومن‭ ‬انتظار‭ ‬عبد اللطيف‭ ‬المسكين‭ ‬قائلا‭: ‬خيل‭ ‬لعبداللطيف‭ ‬أن‭ ‬اليوم‭ ‬سيأتي‭ ‬فجأة‭ ‬كبيرا‭ ‬واسعا‭ ‬عريضا‭.. ‬ولكنه‭ ‬عندما‭ ‬جاء‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬كذلك‭ ‬أبدا‭.. ‬أشرق‭ ‬فجره‭ ‬ثم‭ ‬نما‭ ‬صبحه‭ ‬وكبر‭ ‬ضحاه‭ ‬في‭ ‬بساطة‭ ‬وبلا‭ ‬تهليل‭!‬
كان‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬بساطة‭ ‬قدومه‭ ‬كالزمن‭ ‬وهو‭ ‬يدفع‭ ‬مرجيحة‭ ‬الحياة‭ ‬بيده‭ ‬القوية، ‭ ‬فتذهب‭ ‬أيامنا‭ ‬وتجيء‭ ‬ليالينا‭ ‬هكذا‭ ‬في‭ ‬يسر‭ ‬وبلا‭ ‬ضوضاء‭.‬
وعبد اللطيف‭ ‬مريض‭ ‬وابنه‭ ‬مريض‭ ‬وامرأته‭ ‬حلوة، ‭ ‬لكن‭ ‬يوم‭ ‬العيد‭ ‬ينسي‭ ‬أنه‭ ‬عبداللطيف‭ ‬المشروخ‭ ‬الذي‭ ‬دفعه‭ ‬اعتلال‭ ‬صحته‭ ‬إلي‭ ‬ترك‭ ‬النجارة‭ ‬ونصب‭ ‬المرجيحة، ‭ ‬فيقف‭ ‬بجوارها‭ ‬حليق‭ ‬الذقن‭ ‬مرتديا‭ ‬ثوبه‭ ‬الأبيض‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬اشتراه‭ ‬منذ‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬واحتفظ‭ ‬به‭ ‬للمناسبات‭.‬
الأطفال‭ ‬يحبون‭ ‬مرجيحة‭ ‬عبد اللطيف‭ ‬المريض‭ ‬ولا‭ ‬يذهبون‭ ‬إلى‭ ‬مرجيحة‭ ‬جودة‭ ‬القوي، ‭ ‬يستريحون‭ ‬لعبد اللطيف‭ ‬ويده‭ ‬النحيلة‭ ‬التي‭ ‬لن‭ ‬تعلقهم‭ ‬أبدا‭ ‬بين‭ ‬الأرض‭ ‬والسماء‭. ‬وفرح‭ ‬عبداللطيف‭ ‬وهو‭ ‬يري‭ ‬نفسه‭ ‬منتصرا‭ ‬والأطفال‭ ‬يتعلقون‭ ‬بجلبابه‭ ‬ويصرخون‭ ‬والنبي‭ ‬ياعم‭ ‬عبد اللطيف‭.. ‬وحين‭ ‬سرت‭ ‬النشوة‭ ‬في‭ ‬قلبه‭ ‬غني‭ ‬بأعلى‭ ‬صوته‭ ‬ليغيظ‭ ‬جودة‭ ‬القوي‭.. ‬لكن‭ ‬لعبة‭ ‬المرجيحة‭ ‬لم‭ ‬تنته‭ ‬بعد‭ ‬كما‭ ‬نتوقع، ‭ ‬إذ‭ ‬يلعب‭ ‬بنا‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬لعبة‭ ‬المرجيحة‭ ‬يوم‭ ‬فوق‭.. ‬ويوم‭ ‬تحت‭.‬
فالزحام‭ ‬حول‭ ‬مرجيحة‭ ‬عبداللطيف‭ ‬كان‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬إصابة‭ ‬سالم‭ ‬ابن‭ ‬العمدة‭ ‬من‭ ‬مقدمة‭ ‬المرجيحة‭ ‬وهو‭ ‬يشاهد‭ ‬صعودها‭ ‬وهبوطها‭.‬
ولم‭ ‬يمت‭ ‬ابن‭ ‬العمدة‭ ‬ولكن‭ ‬سالت‭ ‬دماؤه‭ ‬وأخذوا‭ ‬عبد اللطيف‭ ‬للمركز‭.. ‬وهناك‭ ‬مات‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬مثل‭ ‬بطل‭ ‬تشيكوف‭ ‬الشهير‭ ‬في‭ ‬قصة «موت موظف»‭.‬
ولا‭ ‬ينهي‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬القصة‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬لكنه‭ ‬علي‭ ‬لسان‭ ‬الأب‭ ‬يفتح‭ ‬قصة‭ ‬أو‭ ‬حكاية‭ ‬أخري‭ ‬فالمرجيحة (‬الدنيا‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬الصعود‭ ‬والهبوط‭ ‬حتي‭ ‬لو‭ ‬مات‭ ‬صاحبها‭.‬
يقول‭ ‬الأب‭ ‬لابنه‭ ‬وهو‭ ‬يموت‭: ‬البركة‭ ‬فيك‭ ‬يا‭ ‬محمد، ‭ ‬ولم‭ ‬تحل‭ ‬البركة‭ ‬بمحمد‭ ‬وإنما‭ ‬حل‭ ‬به‭ ‬المرض، ‭ ‬وامتلأ‭ ‬بطنه‭ ‬بالماء‭ ‬وأطلقوا‭ ‬عليه‭ ‬محمد‭ ‬الزير‭.. ‬وطال‭ ‬رقاده‭ ‬بالمنزل‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬يسأل‭ ‬في‭ ‬دهاء‭ ‬مريض‭: ‬من‭ ‬أين‭ ‬يأكلون؟‭ ‬وكانت‭ ‬الإجابة‭ ‬اسمها‭ ‬المعلم‭ ‬أحمد‭ ‬بطاقيته‭ ‬الوبر‭ ‬ولاسته‭ ‬الحريرية‭.‬
ويضفر‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬الحكاية‭ ‬قائلا‭: ‬مات‭ ‬عبد اللطيف‭ ‬وعليه‭ ‬ديون‭ ‬للمعلم‭ ‬أحمد‭.. ‬وكان‭ ‬المعلم‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يطرق‭ ‬باب‭ ‬المرحوم‭ ‬فتفتح‭ ‬له‭ ‬نبوية‭ ‬وفوق‭ ‬فمها‭ ‬ابتسامة، ‭ ‬وكان‭ ‬محمد‭ ‬يتساءل‭ ‬في‭ ‬رقدته‭ ‬فوق‭ ‬الفرن‭ ‬عن‭ ‬عيني‭ ‬أمه‭ ‬اللتين‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬زارهما‭ ‬الكحل‭ ‬ولم‭ ‬يمض‭ ‬علي‭ ‬وفاة‭ ‬زوجها‭ ‬شهران‭.. ‬يتساءل‭ ‬محمد‭ ‬ولا‭ ‬يهتم‭ ‬بالإجابة، ‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬بطنه‭ ‬العالي‭ ‬يخفي‭ ‬عن‭ ‬عينيه‭ ‬الدنيا‭.. ‬لولا‭ ‬يد‭ ‬أمه‭ ‬البضة‭ ‬وهي‭ ‬تحمل‭ ‬له‭ ‬كوب‭ ‬الشاي، ‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يحتمل‭ ‬فسأل‭ ‬أمه‭:‬
ـ‭ ‬ألا‭ ‬يامه‭ ‬المعلم‭ ‬أحمد‭ ‬بييجي‭ ‬كتير‭ ‬ليه؟‭ ‬واحمرت‭ ‬خدود‭ ‬الأم‭ ‬وابتسمت‭ ‬وغمزت‭ ‬بعينيها‭ ‬وقالت‭ ‬هامسة‭: ‬أصله‭ ‬بيتكلم‭ ‬علي‭ ‬أختك‭.‬
وصدق‭ ‬هذا‭ ‬ولم‭ ‬يجد‭ ‬مانعا‭ ‬أن‭ ‬ينام‭ ‬المعلم‭ ‬في‭ ‬بيتهم‭ ‬مادام‭ ‬قرأ‭ ‬فاتحة‭ ‬أخته، ‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬الطاقة‭ ‬المعتمة‭ ‬التي‭ ‬يطل‭ ‬منها‭ ‬علي‭ ‬الحياة‭.. ‬لم‭ ‬يفته‭ ‬أن‭ ‬يراعي‭ ‬التنافس‭ ‬الذي‭ ‬استوي‭ ‬علي‭ ‬أقدامه‭ ‬بين‭ ‬أمه‭ ‬وأخته‭ ‬في‭ ‬جلي‭ ‬الكعوب‭ ‬وتسريح‭ ‬الشعر‭ ‬وتقريص‭ ‬الخدود‭ ‬حتي‭ ‬تحمر‭.‬
ومع‭ ‬الأيام‭ ‬ساءت‭ ‬حالة‭ ‬محمد‭ ‬وتقرر‭ ‬نقله‭ ‬إلي‭ ‬مستشفي‭ ‬المركز‭ ‬وغاب‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬الناس‭ ‬والقرية‭ ‬وشيئا‭ ‬فشيئا‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬المعلم‭ ‬وأمه‭ ‬وأخته‭.. ‬محمد‭ ‬المريض‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬السؤال‭ ‬مات‭ ‬لكن‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬لا‭ ‬ينهي‭ ‬القصة‭ ‬هنا‭ ‬أيضا‭.. ‬ربما‭ ‬لأننا‭ ‬ في‭ ‬المرجيحة‭ ‬والمرجيحة‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬بسهولة‭. ‬وأصبحت‭ ‬أحاديث‭ ‬القرية‭ ‬تبدأ‭ ‬بأمشير‭ ‬وما‭ ‬فعله‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬والناس‭ ‬وتقاوي‭ ‬القمح‭ ‬الفاسدة، ‭ ‬ثم‭ ‬تنتهي‭ ‬بفاتحة‭ ‬البنت‭ ‬التي‭ ‬قرأها‭ ‬المعلم‭.. ‬وقد‭ ‬يتحد‭ ‬الناس‭ ‬ويأتلفون‭ ‬حول‭ ‬أي‭ ‬شيء، ‭ ‬لكنهم‭ ‬ينقسمون‭ ‬دائما‭ ‬ويختلفون‭ ‬هل‭ ‬يتزوج‭ ‬المعلم‭ ‬البنت‭ ‬أم‭ ‬أمها‭. ‬وتستمر‭ ‬الشائعات‭ ‬رائحة‭ ‬غادية‭ ‬تعيد‭ ‬قصة‭ ‬المرجيحة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬ينصبها‭ ‬عبد اللطيف‭ ‬كل‭ ‬عيد، ‭ ‬ويظل‭ ‬المعلم‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬يروح‭ ‬ويجيء‭ ‬بينهما‭ ‬فلا‭ ‬يستقر‭ ‬عند‭ ‬البنت‭ ‬ولا‭ ‬عند‭ ‬أمها‭.‬
انتهت‭ ‬القصة، ‭ ‬لكن‭ ‬الدنيا‭ ‬المرجيحة‭ ‬لم‭ ‬تنته‭ ‬بعد، ‭ ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬يمرجحنا‭ ‬هكذا‭ ‬إلي‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نهاية، ‭ ‬لكنه‭ ‬بالتأكيد‭ ‬أدرك‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬يكفي‭ ‬وأننا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬أغبياء‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭.‬
قصة‭‬5‭” ‬ ساعات‮”‭ ‬إحدي‭ ‬قصص‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬من‭ ‬تجاربه‭ ‬الشخصية، ‭ ‬فهي‭ ‬قصة‭ ‬واقعية‭ ‬عن‭ ‬مصرع‭ ‬الضابط‭ ‬الوطني‭ ‬عبدالقادر‭ ‬طه‭ ‬الذي‭ ‬قتله‭ ‬الحرس‭ ‬الحديدي‭ ‬للملك‭ ‬فاروق‭ ‬وتحدثت‭ ‬عنه‭ ‬الصحف، ‭ ‬وشاء‭ ‬القدر‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬طبيبا‭ ‬مناوبا‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬الاستقبال‭ ‬في‭ ‬مستشفي‭ ‬قصر‭ ‬العيني‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت، فحملوا‭ ‬إليه‭ ‬هذا‭ ‬الضابط‭ ‬الجريح‭ ‬ليخلد‭ ‬قصته‭ ‬ويكتبها‭ ‬بعقله‭ ‬ودمه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬شاهدا‭ ‬علي‭ ‬أهم‭ ‬فصولها، ‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬سوف‭ ‬يتماهي‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬مع‭ ‬البطل‭ ‬تماما‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬سوف‭ ‬يجعل‭ ‬هذا‭ ‬الضابط‭ ‬الجريح‭ ‬هو‭ ‬الوطن‭ ‬وهو‭ ‬كل‭ ‬الأبطال‭ ‬الذين‭ ‬دافعوا‭ ‬واستشهدوا‭ ‬في‭ ‬سبيله، ‭ ‬يقول‭: ‬كنت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬كلما‭ ‬رأيت‭ ‬دم‭ ‬الجريح‭ ‬المغتال‭ ‬يجف‭ ‬فوق‭ ‬يدي، ‭ ‬كلما‭ ‬أوغلت‭ ‬في‭ ‬تأمل‭ ‬الجريح‭ ‬الذي‭ ‬لابد‭ ‬كان‭ ‬رجلا‭ ‬ككل‭ ‬الرجال‭.. ‬نما‭ ‬من‭ ‬طمي‭ ‬وادينا‭.. ‬ومصنع‭ ‬قمحنا‭.. ‬وارتدي‭ ‬قطننا‭.. ‬وصنعت‭ ‬أذرتنا‭ ‬خلاياه‭.. ‬وكلما‭ ‬أوغلت‭ ‬في‭ ‬تأملي، ‭ ‬أري‭ ‬الآباء‭ ‬والأجداد‭ ‬والشهداء‭ ‬الذين‭ ‬لهم‭ ‬أسماء‭ ‬فوق‭ ‬الرخام‭ ‬والشهداء‭ ‬الذين‭ ‬بلا‭ ‬أسماء‭ ‬ولا‭ ‬رخام، ‭ ‬أهيم‭ ‬ثم‭ ‬أعود‭ ‬إلي‭ ‬يدي‭ ‬التي‭ ‬فوق‭ ‬صدر‭ ‬الجريح‭ ‬إلي‭ ‬الأصابع‭ ‬التي‭ ‬تحاول‭ ‬عبثا‭ ‬أن‭ ‬تمنع‭ ‬موتا‭ ‬جديدا‭.. ‬وأي‭ ‬موت؟
كنت‭ ‬أحس‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬الثقيل‭ ‬أنه‭ ‬مضروب‭ ‬في‭ ‬ظهره، ‭ ‬وأنه‭ ‬مظلوم، ‭ ‬لأننا‭ ‬كلنا‭ ‬مظلومون، ‭ ‬وأصبحنا‭ ‬في‭ ‬الحجرة‭ ‬أسرة‭ ‬واحدة‭ ‬ذات‭ ‬جرح‭ ‬واحد‭.. ‬وكان‭ ‬لتر‭ ‬الدم‭ ‬الأخير‭ ‬أهم‭ ‬حدث‭ ‬أو‭ ‬محاولة‭ ‬لإنقاذ‭ ‬جسد‭ ‬يصارع‭ ‬النزيف‭ ‬الداخلي، ‭ ‬لكن‭ ‬فجأة‭ ‬يبصق‭ ‬ملأ‭ ‬فمه‭ ‬دم‭ ‬أحمر‭.. ‬وراح‭ ‬في‭ ‬غيبوبة‭ ‬ورحنا‭ ‬في‭ ‬صمت، ‭ ‬الممرضة‭ ‬راحت‭ ‬عيناها‭ ‬تعودان‭ ‬بين‭ ‬الفم‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬كالجرح، ‭ ‬والجرح‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬كالفم، ‭ ‬والتومرجي‭ ‬قد‭ ‬أمسك‭ ‬بمفتاح‭ ‬أسطوانة‭ ‬الأكسجين‭ ‬واستمات‭ ‬عليه، ‭ ‬وحاربنا‭ ‬عدوا‭ ‬قويا‭ ‬لا‭ ‬نراه‭.‬
وجاء‭ ‬من‭ ‬الركن‭ ‬نحيب‭ ‬الممرضة‭ ‬المكتوم‭ ‬واقشعرت‭ ‬أجسادنا‭ ‬وانتفضنا‭ ‬نبذل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬وسعنا‭ ‬من‭ ‬جرأة‭ ‬اليأس‭ ‬ومقدرته، ‭ ‬وعلا‭ ‬نحيبها‭ ‬وأصبح‭ ‬كدوي‭ ‬الطبول‭.‬
ودفع‭ ‬التومرجي‭ ‬أسطوانة‭ ‬الأكسجين‭ ‬جانبا‭ ‬وارتمي‭ ‬فوق‭ ‬عبدالقادر‭ ‬وهو‭ ‬ينهنه‭ ‬ويبكي، ‭ ‬ويقتلع‭ ‬النفوس‭ ‬ببكائه‭ ‬الرجالي‭ ‬الخشن‭ ‬ويقول‭:‬
ـ‭ ‬آه‭ ‬يا‭ ‬حبيبي‭ ‬يا‭ ‬أخويا‭.‬
وجال‭ ‬بخاطري‭ ‬أن‭ ‬أعانق‭ ‬زميلي‭ ‬وأضم‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬صدري‭ ‬إلي‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬صدره‭ ‬وأخفي‭ ‬ما‭ ‬أحس‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬خجل‭ ‬إزاء‭ ‬فشلنا‭ ‬أمام‭ ‬الموت‭.‬
ولم‭ ‬أفعل‭ ‬وبقينا‭ ‬بلا‭ ‬زمن‭ ‬راجعين‭ ‬نتأمل‭ ‬الرجل‭ ‬المسجي، ‭ ‬وتحز‭ ‬الخسارة‭ ‬في‭ ‬قلوبنا، ‭ ‬وأعيننا‭ ‬ثابتة‭ ‬في‭ ‬مكانها‭ ‬لا‭ ‬تغادر‭ ‬وجهه‭ ‬الوديع‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يلمع‭ ‬بالعرق‭.. ‬وملامحه‭ ‬التي‭ ‬استراحت‭ ‬في‭ ‬هدوء‭ ‬دائم، ‭ ‬وحين‭ ‬واريناه‭ ‬تحت‭ ‬الغطاء‭ ‬كان‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬موته‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يملأ‭ ‬النفوس‭.‬
إذا‭ ‬كانت‭ ‬ثلاث‭ ‬قصص‭ ‬ليوسف‭ ‬إدريس‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬مجموعة‭ ‬له‭ ‬‮”‬ارخص‭ ‬ليالي”‬‭ ‬عام‭ ‬1954‭ ‬قد‭ ‬أخذتنا‭ ‬شرقا‭ ‬وغربا، ‭ ‬وذهبت‭ ‬بنا‭ ‬إلي‭ ‬عمق‭ ‬القرية‭ ‬والمدينة‭ ‬والكفاح‭ ‬الوطني‭ ‬وفلسفة‭ ‬الحياة، ‭ ‬والفقر‭ ‬والغني، ‭ ‬والقوة‭ ‬والضعف، ‭ ‬والوفاء‭ ‬والغدر، ‭ ‬والحب‭ ‬والكره‭.. ‬ورفعتنا‭ ‬إلي‭ ‬عنان‭ ‬السماء‭ ‬بإبداعها‭ ‬الراقي‭.. ‬فكم‭ ‬من‭ ‬المجلدات‭ ‬نحتاج‭ ‬لنكتب‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬أعمال‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس؟‭.. ‬كم‭ ‬من‭ ‬الأوراق‭ ‬والمجلدات‭ ‬نحتاج‭ ‬لنكتب‭ ‬عن‭ ‬‮”‬بيت‭ ‬من‭ ‬لحم‮”‬‭ ‬و”قاع‭ ‬المدينة‮”‬‭ ‬و”أليس‭ ‬كذلك”‬‭ ‬و”حادث‭ ‬مشرف‮”‬‭ ‬و”العتب‭ ‬علي‭ ‬النظر‮”‭ ‬وروايات‭”‬الحرام‮”‭ ‬و”العيب‮ط‬‭ ‬و”البيضاء‮ط‬‭ ‬ومسرحيات‭ ‬‮”الفرافير‮”‬‭ ‬و”جمهورية‭ ‬فرحات”‬‭ ‬و”ملك‭ ‬القطن‮”‭… ‬إلخ‭.‬
من‭ ‬أوراق حياته
تري‭ ‬ما‭ ‬أهمية‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬غنيا‭ ‬أم‭ ‬فقيرا؟‭ ‬ملاكا‭ ‬أم‭ ‬شيطانا؟‭ ‬حقيقة‭ ‬أم‭ ‬خيالا؟‭.. ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬أشياء‭ ‬لا‭ ‬أهمية‭ ‬لها‭ ‬والمهم‭ ‬إبداعه‭ ‬العبقري‭ ‬الذي‭ ‬يقدر‭ ‬علي‭ ‬أن‭ ‬يستدرك‭ ‬ضحكك‭ ‬أو‭ ‬بكاءك‭ ‬وأنت‭ ‬تجلس‭ ‬بمفردك‭ ‬مأخوذا‭ ‬بشخصيات‭ ‬هذا‭ ‬العبقري‭ ‬المبدع‭ ‬حد‭ ‬الجنون‭.‬
مثل‭ ‬معظم‭ ‬المبدعين‭ ‬كانت‭ ‬نشأة‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬المولود‭ ‬19‭ ‬مايو‭ ‬1927‭ ‬بقرية‭ ‬البيرون‭ ‬شرقية‭ ‬نشأة‭ ‬قاسية‭.‬
وحتي‭ ‬الأم‭ ‬كانت‭ ‬مثالا‭ ‬للجدية‭ ‬والصرامة‭ ‬لدرجة‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يتذكر‭ ‬أنها‭ ‬قبلته‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬حصوله‭ ‬علي‭ ‬بكالوريوس‭ ‬الطب‭!‬
وأبوه‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬استصلاح‭ ‬الأراضي‭ ‬وتزوج‭ ‬مرتين، ‭ ‬الأولي‭ ‬أنجب‭ ‬منها‭ ‬بنتين، ‭ ‬والثانية‭ ‬أم‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس، ‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬الأب‭ ‬يتنقل‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬لآخر‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬بيته‭ ‬وأسرته، ‭ ‬فكانت‭ ‬الأم‭ ‬هي‭ ‬الأم‭ ‬والأب‭ ‬معا‭.. ‬وكان‭ ‬يوسف‭ ‬الابن‭ ‬الأكبر‭ ‬علي‭ ‬سبعة‭ ‬أبناء‭ ‬من‭ ‬الزوجة‭ ‬الثانية، ‭ ‬يسير‭ ‬علي‭ ‬قدميه‭ ‬ثلاثة‭ ‬كيلو‭ ‬مترات‭ ‬ليصل‭ ‬إلي‭ ‬مدرسته‭ ‬الابتدائية‭ ‬في‭ ‬فاقوس‭ ‬مع‭ ‬زملائه‭.‬
واستطاع‭ ‬والده‭ ‬ـ‭ ‬رغم‭ ‬دخله‭ ‬المحدود‭ ‬وهذا‭ ‬العدد‭ ‬الكبير‭ ‬من‭ ‬الأولاد‭ ‬ـ‭ ‬أن‭ ‬يرسل‭ ‬ولديه‭ ‬الكبيرين‭ ‬ليدرس‭ ‬أحدهما‭ ‬الطب‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬والآخر‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة‭ ‬وسكن‭ ‬الأخوان‭ ‬في‭ ‬شقة‭ ‬صغيرة‭ ‬بالمبتديان‭ ‬عام‭ ‬1945‭.. ‬وفي‭ ‬كلية‭ ‬الطب‭ ‬التقي‭ ‬بصديقيه ‬صلاح‭ ‬حافظ‭ ‬ومصطفي‭ ‬محمود‭ ‬وتغير‭ ‬مستقبله‭ ‬تماما‭.. ‬ وأسس‭ ‬لجنة‭ ‬الطلبة‭ ‬والعمال‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة‭ ‬1946‭ ‬واشترك‭ ‬في‭ ‬المظاهرات‭ ‬وتعرض‭ ‬للاعتقال‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬لفترات‭ ‬قليلة‭ ‬لا‭ ‬تزيد‭ ‬علي‭ ‬أيام‭.. ‬وعندما‭ ‬قامت‭ ‬ثورة‭ ‬يوليو‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬أنصارها‭ ‬وأنشأ‭ ‬مجلة‭ ‬‮”‬التحرير‮”‬‭ ‬في‭ ‬سبتمبر‭ ‬1952‭.‬
وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬بعامين‭ ‬في‭ ‬أغسطس‭ ‬1954‭ ‬أصدر‭ ‬مجموعته‭ ‬القصصية‭ ‬الأولي‭ ‬‮”‬ارخص‭ ‬ليالي‮”‬‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬فتحا‭ ‬جديدا‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬المصرية‭ ‬والعربية، ‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬الشهر‭ ‬نفسه‭ ‬تقريبا‭ ‬قامت‭ ‬سلطات‭ ‬الثورة‭ ‬بالقبض‭ ‬عليه‭ ‬وحبسته‭ ‬لمدة‭ ‬13‭ ‬شهرا‭ ‬بحجة‭ ‬انتمائه‭ ‬لليسار، ‭ ‬وكان‭ ‬السجن‭ ‬محفزا‭ ‬له‭ ‬علي‭ ‬الإبداع‭ ‬لأنه‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يكمل‭ ‬ثورته‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭.‬
وفي‭ ‬عام‭ ‬1957‭ ‬شاهد‭ ‬الفتاة‭ ‬الصغيرة‭ ‬رجاء‭ ‬الرفاعي‭ ‬فأعجبته‭ ‬وتزوجها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قابلها‭ ‬بـ‭ ‬48‭ ‬ساعة، ‭ ‬وكانت‭ ‬السنوات‭ ‬الخمس‭ ‬الأولي‭ ‬للزواج‭ ‬ـ‭ ‬كما‭ ‬روت‭ ‬لي‭ ‬السيدة‭ ‬رجاء‭ ‬في‭ ‬حوار‭ ‬سابق‭ ‬ـ‭ ‬جحيما‭ ‬لا‭ ‬يطاق‭ ‬لأن‭ ‬الحياة‭ ‬مع‭ ‬فنان‭ ‬صعبة‭ ‬جدا، ‭ ‬فإن‭ ‬كان‭ ‬سعيدا‭ ‬يجعلنا‭ ‬جميعا‭ ‬نطير‭ ‬من‭ ‬الفرح، ‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬تعيسا‭ ‬أتعسنا‭ ‬جميعا، ‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬صادقا‭ ‬جدا‭ ‬في‭ ‬انفعالاته‭.. ‬وكان‭ ‬يظل‭ ‬أحيانا‭ ‬لمدة‭ ‬خمسة‭ ‬أيام‭ ‬بلا‭ ‬نوم‭.‬
ثم‭ ‬سافر‭ ‬إلي‭ ‬الجزائر‭ ‬وشارك‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬التحرير‭ ‬عام‭ ‬1961‭ ‬وبعدها أنجب‭ ‬أول‭ ‬أولاده‭ ‬‮”‬سامح‮”‬‭ ‬عام‭ ‬1962‭ ‬ثم‭ ‬‮”‬بهاء‮”‬‭ ‬1964‭ ‬ثم‭”‬نسمة‮”.‬‭ ‬1973‭.‬
وكانت‭ ‬هزيمة‭ ‬67‭ ‬قاسية‭ ‬عليه‭ ‬فترك‭ ‬الكتابة‭ ‬وافتتح‭ ‬عيادة‭ ‬خاصة‭ ‬ليحترف‭ ‬الطب‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬حياته، ‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬أغلق‭ ‬العيادة‭ ‬والتحق‭ ‬بوزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬ثم‭ ‬استقر‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬‮”‬الأهرام‮”‬‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1969‭ ‬حتي‭ ‬وفاته‭ ‬عام‭ ‬1991‭.‬
وكانت‭ ‬حياة‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬كلها‭ ‬معارك‭ ‬فكرية‭ ‬وسياسية، ‭ ‬ومع‭ ‬قدوم‭ ‬الثمانينيات‭ ‬زادت‭ ‬حدة‭ ‬معاركه‭ ‬مع‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬وعبد الحميد‭ ‬رضوان‭ ‬وزير‭ ‬الثقافة‭ ‬ثم‭ ‬الشيخ‭ ‬الشعراوي‭ ‬وخالد‭ ‬محمد‭ ‬خالد‭ ‬حول‭ ‬تطبيق‭ ‬الشريعة، ‭ ‬ثم‭ ‬معركته‭ ‬مع‭ ‬دكتور‭ ‬أحمد‭ ‬شفيق‭ ‬حول‭ ‬اكتشاف‭ ‬دواء‭ ‬الإيدز‭.‬
وعندما‭ ‬فاز‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬بجائزة‭ ‬نوبل‭ ‬غضب‭ ‬غضبا‭ ‬شديدا‭ ‬وهو‭ ‬الأكثر‭ ‬موهبة‭ ‬عندما‭ ‬تجاوزته‭ ‬الجائزة‭ ‬للروائي‭ ‬المصري‭ ‬العتيد‭.‬
كان‭ ‬الرئيس‭ ‬السادات‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬حيرت‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬كثيرا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬استبعده‭ ‬من‭ ‬وظيفته‭ ‬عام‭ ‬1973‭ ‬ومعه‭ ‬مائة‭ ‬آخرون‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬ثم‭ ‬قربه‭ ‬ثم‭ ‬أبعده‭ ‬مرة‭ ‬أخري، ‭ ‬فكتب‭ ‬عنه‭ ‬سلسلة‭ ‬مقالات‭ ‬‮”‬البحث‭ ‬عن‭ ‬السادات‮”‬‭ ‬أثارت‭ ‬عليه‭ ‬حربا‭ ‬شرسة‭ ‬من‭ ‬أنصار‭ ‬السادات، ‭ ‬ومن‭ ‬الرئيس‭ ‬مبارك‭ ‬شخصيا‭ ‬الذي‭ ‬هاجمه‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬عيد‭ ‬العمال‭ ‬1983‭.‬
كانت‭ ‬سياسة‭ ‬السادات قد أصابت ‬معظم‭ ‬المبدعين‭ ‬بالاكتئاب‭ ‬كصلاح‭ ‬جاهين‭ ‬وصلاح‭ ‬عبد الصبور‭ ‬واضطرت‭ ‬البعض‭ ‬للهجرة‭ ‬كعبد المعطي‭ ‬حجازي‭ ‬وأحمد‭ ‬بهاء‭ ‬الدين، ‭ ‬وأدت‭ ‬إلي‭ ‬توقف‭ ‬آخرين‭ ‬عن‭ ‬الإبداع‭ ‬منهم‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬الذي‭ ‬توقف‭ ‬عن‭ ‬كتابة‭ ‬القصة‭ ‬واتجه‭ ‬إلي‭ ‬المقال‭.‬
وقال‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭: ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أحمل‭ ‬قلما‭ ‬لأكتب‭ ‬قصة، ‭ ‬بل‭ ‬كنت‭ ‬أحمل‭ ‬رشاشات‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬نفسي‭ ‬ورد‭ ‬الهجوم‭ ‬اليومي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتيح‭ ‬فرصة‭ ‬للتنفس‭ ‬فما‭ ‬بالك‭ ‬بالكتابة‭ ‬والفن‭ ‬والإبداع‭ ‬وكلها‭ ‬تحتاج‭ ‬للهدوء‭.‬
ورغم‭ ‬موهبته‭ ‬وإنجازه‭ ‬القصصي‭ ‬غير‭ ‬المسبوق‭ ‬في‭ ‬مصر، ‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يحصل‭ ‬علي‭ ‬أي‭ ‬جائزة، ‭ ‬غير‭ ‬جائزة‭ ‬الدولة‭ ‬التقديرية‭ ‬قبل‭ ‬وفاته‭ ‬بأسابيع‭ ‬توفي في أغسطس 1991.
والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلي‭ ‬أي‭ ‬جائزة، ‭ ‬وإنما‭ ‬الجائزة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تحتاج‭ ‬إليه‭ ‬لتستمد‭ ‬منه‭ ‬قيمتها‭ ‬وشرعيتها، ‭ ‬لأنه‭ ‬حقا‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬جائزة‭.
* الأهرام.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *