شارع تحت درجة 50 مئوي .. وقصص أخرى

شارع تحت درجة 50 مئوي .. وقصص أخرى

*عامر هشام الصفّار

شارع تحت درجة 50 مئوي

ينهض جاسم مبكرا هذا الصباح البغدادي الذي أشرقت شمسه قبل قليل لتعكس أشعتها على سعفات نخلة في حديقة بيته البسيط في حي العامل ببغداد.. يرفض الكسل الذي ألّم به فجأة .. ينظر من خلل شباك غرفته الى شارع خلا من الناس ألاّ من بعض الكسبة الذين راحوا يسرعون لأعمالهم الحرة طلبا لرزق حلال. أغتسل وراح يرتب ملابس شرطي المرور التي أعتاد عليها منذ سنوات.. قميصه الأبيض غسله البارحة وعمل فيه المكواة على عجل.. رفع قبعته التي سيحتاجها وهو يتوسط شارعا مزدحما قرب ساحة الحي في هذا اليوم التموزي.. تذكر أنه شاهد صورة فوتغرافية بالأسود والأبيض يوما لشرطي المرور في ساحة من ساحات بغداد الخمسينيات وهو يقف تحت مظلة في الشارع ينظم المرور لسيارات فارهة قليلة في أعدادها تمرق ببطيء كما يبدو.. كانت أياما أخرى لزمن ذهب ولن يعود.. يكرر مع نفسه ذهب.. مع الريح.. الريح الصفراء.. يبتسم.. ولا ينسى أن يمر على شعرات رأسه القليلة بمشطه القديم الذي يتركه قرب مرآة مدورة في مدخل البيت…

الشمس بدأت تصّاعد في سماء حي العامل، وها هو يومه قد أنتصف.. حرارة الأسفلت أصبحت لا تطاق.. خبير الأنواء الجوية يقول بغداد هي أكثر مدينة في العالم حرارة اليوم.. ستكون درجة الحرارة 50 مئوي أو قد تزيد على ذلك.. لقد تعوّد جسمه على الحر.. والرطوبة ودخان السيارات التي تمرق قربه لتزيد في شعوره بالتعب.. يذهب لمحل أبو عمار القريب عليه.. يغسل وجهه في دقائق ليعود لنفس الساحة.. رافعا يده اليمنى مرة واليسرى مرات.. الكل يطيع أوامره اليوم.. لا مخالفات أبدا رغم الحر الذي لا يطاق.. لم يشأ أن يقارن أيامه الحاضرة بما مضى.. فهو لا يعرف لماذا أصبح الصيف أكثر حرارة من أي صيف آخر.. بعض الناس من المثقفين يقولون أنه تلوث البيئة.. ولكن جاسم لا يصدق ذلك.. ويظل همه أن لا يحدث أي حادث سيارة في حي العامل اليوم..

مر بخاطره كابوس الليلة الماضية عندما قال له ولده:

-بابا.. كنت تنظّم المرور في الشارع وأنت نائم..!

-كيف يا ولد؟

-كانت يدك اليسرى مرفوعة مرة.. ومرة أخرى ترفع يدك اليمنى.. وتحاول أن تتكلم.. سمعتك تقول.. أمش.. دير بالك .. بالك..

ضحك جاسم .. وتذكر حمال الشورجة الذي كان يمشي في شوارع السوق الضيقة ويصيح بصوت عال: بالك.. بالك.. بالك..

مع نسمات هواء يود أن يظن أنها كانت عليلة، راح جاسم في مساء المدينة يراقب ولده ويسمعه وهو يلعب مع أولاد المحلة بكرة قدم جديدة أشتراها له قبل أيام.. فجأة أنطفأ الكهرباء .. وساد الساحة ظلام دامس… !

 

بيت الضفادع

أعطني فسحة من وقتك لأتحدث أليك أيها الطبيب.. هكذا قال لي السيد كامبل الرجل الثري المعروف في هذه المدينة التي يلّفها الضباب هذه الأيام..كيف تريدني أن أبقى هنا لوحدي وأبنتي بعيدة عني في كندا.. لماذا لا أذهب أليها؟!.. أنا في السبعين من عمري وها أنت تعطيني كل شهر كيساً من الأدوية والعقاقير التي أتناولها كل يوم دون أن أنبس ببنت شفة.. ولكنني لا يمكن أن أتحمل هذا الذي يجري في المدينة..كل يوم أشاهد تلفزيون البي بي سي يبث على مدار الساعة أخبار الموتى  والأصابات بهذا الفايروس اللعين..صورهم تملأ صفحات الجرائد..فقدتُ العديد من أصدقائي الذين عرفتهم منذ أيام الشباب في كارفيلي..حيث كنت أعمل في مناجم الفحم..عملنا سوية..تلوّنت وجوهنا سوية بسخام الفحم والحديد.. كنا نضحك..نسعل.. نحتسي الخمرة في بار المدينة، ولكننا لم نكن نتوقع أن نموت لوحدنا في بيوت هي اليوم مثل بيوت الضفادع النتنة..أتركني يا سيدي الطبيب..أعطني السماح لي لألحق بأبنتي..لا أريد اليوم أكثر من ذلك.

المرفأ

ها هو اليوم الرجل الستيني (عمره 65 عاما) يتأبط عددا قديما من مجلة العربي ويسير تحت أشعة الشمس الباهتة في مدينة كارديف الويلزية دون أن يتعب أو يمّل.. ها هو على عادته كما يقول.. ومنذ عشرين عاما حيث سكن المدينة بعد أن هاجر من أرض الوطن التي أصبحت بعيدة..

أسماعيل كان مدرّسا للغة العربية في المدرسة المتوسطة في منطقة الأعظمية ببغداد.. يكرّر مع نفسه اليوم أنه مربي للأجيال..أجيال لا يدري أين أصبحت، وأين حلّ بها الدهر بعد كل هذا الزمن.

ها هي البحيرة الهادئة البريئة مثل وجه طفل جميل تبدو أمامه مرحبة.. تفرش ذراعيها كما الحبيبة عندما تلقى الحبيب بعد غياب..يستذكر مكان جلوسه قرب حديقة الروز في بستان قريب على البحيرة.. كانت زوجته معه..وكانا معا يستذكران أول قصة كتبها يوم كان ينشر في مجلة الأقلام العراقية..كانت تحب أن تسمعه يقرأ لها. مرّ بزهرة التوليب الحمراء.. مسّد خدها الناعم..داعبته..ضحكت له..أو تخيلها كذلك.. جذب نظره اليوم الشكل الجديد  الزاهي الذي بدا عليه مرفأ البحيرة وهو يرمز لتاريخ مدينة الثقافة والجمال. لم يكن أذن وحيدا..ها هو صدى صوتها..زوجته يرّن في أذنه..”هل تعلم أن هذا المرفأ قد أعيد طلاءه وتشكيله بعد أن منح رجل المال للبنائين ليرمّموا المرفأ حيث كانت شريكة حياته تحب أن تجلس أمامه..مرفأ البحيرة هذا..وترسم لوحة عمرها كما كانت تقول”..

تذكّر كل ذلك..وهو لا زال ماشيا متأبطا مجلته. بعد قليل سيدّس رأسه في أوراقه، وسيبحث عن فكرة جديدة، لا يظن أنها ستتلاشى، كما ألوان قوس قزح تشكّل قبل دقائق، بعد نثيث مطر خفيف في مدينته التي يرى فيها فصول السنة في لحظات زمن عابرة.

* قاص ورئيس المنتدى الثقافي العربي في بريطانيا

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *