ركوّة فيلليني: حول رواية “حذاء فيلليني” للكاتب الروائي وحيد الطويلة

(ثقافات)*طلعت قديح

هناك من الروائيين من لا يصح أن تقرأ لهم بطريقة تقليب الصفحات؛ حتى وإن علمت أن ما بها هي رتابة قد تتواصل، وهناك منهم من يجوس خلالك، يهزك، يلطمك، يطبطب على تعبك، وهو يغرز حبره الموجع في خاصرة عقلك ويتمدد فيه حتى يُسقط كل تحصيناتك الوراثية أو المكتسبة، وهناك من الروائيين من تغمض عينيك – رغما عنك – وكأنك تحت مخدر أو منوم مغناطيسي؛ يأخذك حيث يريد، ولا يتورع أن يصيبك بصرخات ملتهبة، كالتهاب الجرح حين يتعرض لماء أو ما شابه ذلك.

نحن أمام عمل روائي ثقيل؛ أرى أنه أوجع كاتبه، وعذّبه في حبره حتى نال منه ونال منا، وجعلنا ندمع تارة، ونعضّ أصابعنا تارة، ونتعلم الشتم تارة أخرى إلى أن أرهقت عيوننا، ولاذت ألبابنا بالصمت.

حذاء فيلليني ليست رواية، هي وثيقة الوجع الإنساني من استعباد الإنسان للإنسان، هي النظرة المتعالية والرأي الأوحد الذي يصم آذانه عن الآخرين، ويجعل من فكره الدين الذي يُتبع.

ولنبدأ رحلتنا ليس في نقد أو قراءة “حذاء فيلليني” بل في استنطاق الداخل الإنساني الذي كلما كُتب؛ آلمنا وأبعدنا عن حقيقة قد نخجل من البوح بها!

*الغلاف:

اللون الأخضر لون حياة، وهو الخلفية المنظورة في الغلاف، وكأن المشهد المفترض للحياة هو لونها الطبيعي وما استجد هو الطارئ عليها!

لكننا نرى أن اللون لم يكن داكنا بل بشيء من الدرجات الفاتحة من درجات اللون، فالخلفية حية دون إفراط أو تفريط، وهو يُثبت للرائي أن الحياة جميلة، لكنما هي المنغصات والصراعات …الخ، مما نعرف.

وقد جاء اسم الكاتب (وحيد الطويلة) أبيض اللون؛ إيحاء بعدم التدخل في الأحداث سوى أنه يعرضها كما هي، فهو لا يُجمل أو يُثقل الحبر، هو يروي الحقيقة دونما ماكياج.

وصُبغت كلمة “حذاء” بلون أسود؛ ليكون تعبيرا عن المشقة والتعب والأرق الذي يصاحب الكلمة المتحركة في فعلها، أو لعلها الذنوب والخطايا التي ترتكب!

واختير اللون الأحمر الباهت لكلمة “فيلليني” ارتكازا على حالة الإثخان في الحال، توجيهًا بخلخلة الأمور، وفي بعضها غير مُتمكَن منها، لذا جاء “حذاء” بشكله وعمله؛ مختلفًا عن حال مرتديه.

وأما الصورة الماثلة أمامنا في الغلاف؛ فهي تركيبة فنتازية متوشحة بالسريالية؛ ترينا رأسًا نتبينه هيئة من قماش في غالب وجهه، وهذا يعلمنا المرونة في الانكماش وقابلية التغير من العطب، والوجه بائن القلق والحيرة والحزن.

الرواية تختلف عن الأنواع الأدبية الأخرى في أن الوعي التام هو ديدن كتابتها، فالكاتب لا يكتب شيئًا في كتابته إلا ويقصد ما يقصد، دون عشوائية.

ففي الصفحة الأولى – ما قبل الإهداء – يكتب “وحيد الطويلة”:

( اسحب ذيلاً قصيراً، فقد تجد في نهايته فيلاً)، بتوقيع “فيلليني”.

فالتعيين الموجود في المقولة يتناسل ضمن فلسفة تكشف الحبكة غير الظاهرة؛ وإن كانت اللّب، فالأمر “اسحب” يحدد نوع المستهدف من القول لينتج تحديدا ما وهو “ذيلاً قصيراً” لأن فيه استعارة لمعنوي (شيئا في متناول الفعل) بقوله “اسحب”، لذا فلا يحتاج إلى جهة للتنفيذ، ثم يقابله في الجواب قوله: “فقد تجد في نهايته فيلا”، فقد يتبادر إلى الذهن أن هذا الجزء يعتبر احتمالية تحققه مع انتفائه بنسبة 50% بالتساوي، إلا أننا ندرك أن احتمالية الانتفاء منعدمة، وقد جاء ذلك ضمن تحديدين:

-التحديد الأول:

“نهايته” فتحديد المكان يعني أن هناك شيئا متغيرا سيكون، لا أن (يمكن أن يكون)، فهذه الكلمة سحبت البساط من حرف “قد” الذي يكون للمراوغة في تحقق الفعل اللاحق له.

ثم تأتي كلمة “فيلا” لتثبت نجاعة فعل “اسحب” بتحقق الحدوث بذكر محدد وهو “فيلا”؛ ليغلق كل الاحتمالات، فيؤكد أن الجملة متحققة، وهذا دلالة ثم إعلان مجاني أن أحداث الرواية مثبتة الدهشة.

ناهيك عن المعنى المتدحرج للأحداث في نسق متلاحق.

*الإهداء:

جاء الإهداء بتوقيع “وحيد” . . .

إلى الذين صرخوا ولم يسمعهم أحد.

إلى الذين لم يستطيعوا أن يصرخوا.

لقد جاء الإهداء متوائما مع التوقيع ” وحيد” إنه إهداء للطبقة المدعوكة، حيث يُفعل أمران:

-الأمر الأول:

هي السلوى لأولئك (المدعوكين) في عالم سفلي لا يرى ضوء الرحمة من شدة العتمة، ولا أقصد بالعالم السفلي طبقة المنهكين ماديا أو حال معيشتهم، بل هو عالم يختلط فيه الغني والفقير، والكادح والمنعم، هو عالم النفس التي تنفض عنها المادية وتستقي ألمها من وجع الحال النفسي.

-الأمر الثاني:

التعبير بحال الحرف عن تلك الفئة (المدعوكة) غير القادرة على البوح بما يختلج في النفس وبما يعتمل من ألم لا يخطه سوى مقتدر ومكين حرف؛ حتى ظروف القهر المانعة التي تصل للصراخ، تحتاج من يكتم ألمها فيخرجه لنا حرفا معصورا من صراخ لفئة تصرخ ولا أحد يلتفت لها!

وفي هذا الإهداء ازدواج أراد به “الطويلة” أن يحمل على كاهله كفتا الميزان، ويعبر بنا نحو روايته مثقلا بهذا التعب.

*مشهد ما كان فيلليني ليحبه:

يتخذ الروائي ” وحيد الطويلة” في بداية روايته تأسيسا وصفيا لصورة القائد المستبد – ولا أحسب قائدا غير مستبد – الذي يكون له هامش إنسانية ما، سواء بالوصف أو بالحال أو بالتعبير، هو يُسقط حال المستبد على نماذج ما، قد تأتيه الأسماء في ديمومة العقل المتخمر بحال أمة العرب وغيرها، فتارة نرى لفظ “الهر” فـ “العقيد القذافي” إلى “صدام حسين” فالسيد الرئيس حتى مسمى كاميرات المراقبة، فكلها أوصاف للقيادة، حتى أنه في وصف ما يقترب من “سوريا” بقوله: (حرب تشرين)!

هو مشهد طولي أراد به الكاتب أن يهيئ القاري للآتي من الأحداث في افتتاحية درامية، تنشف الريق من أولها!

مشهد يقترب من الدائرة المنكشفة لما يحيط من خلد كل قريب من المُتحكم والحاكم.

“الطويلة” يتعالى في ضخه للحبر، فلا يتباطأ في جرعة القذف لحبره، حيث يبدأ من قمة السلطة بشكل مزدوج ما بين الوصف الفنتازي واللوحة السريالية في جو متعدد الألوان من الريبة والقلق؛ حتى لتحس بهيبة هذا المشهد، وهو مجرد مشهد يحاول فقط إلقاء شيء من ضوء على صفوة القرب!

*مشهد كان فيلليني ليحبه:

-قل آه.

-آه.

أيكون هذا هو المقطع الساذج الذي نعبر عنه لحال المريض مع طبيب يكشف ألمه! ولأننا في حضرة كاتب لا يرتوي من وجعه في كتابته، فإننا ننتقل بهذه الفرضية إلى حال أعمق من وصف معتاد لا يعطي لنا فائدة لمشهد مستهلك.

هو مدخل سيكولوجي يوخز عقولنا التي عانت وما تزال من صورة (الزعيم الأوحد) في انعطافات رشيقة الانتقال، لكنها وخزات تعيد لنا شريط الأنظمة العربية، مرورا بمسميات تتعكز على نفسها ما بين المأساة والملهاة، تلك الملهاة التي تجعلنا عرايا أمام مرآة عقولنا وأنفسنا!

كأنه يلطمنا بريشة “سلفادور دالي” لحقيقة نحاول تغافلها وهي ملتصقة بكينونتنا!

*فتحت الستارة:

هل يمكن أن نطلق على الطويلة “الحكّاء”، بيد أننا نعرج على مسمى الحكّاء في اللغة لنراه وصفيا شعبيا لقصص التسلية لجمع من الناس، وفي نفس الوقت نعاين الوصف، لنصهره في الحكي النفسي المثقف الذي يفتح “الطويلة” نار حبره في عقل القارئ، عابرا بالجمع نحو حكي للجيل الذي لم تمسسه كماشة التحقيق أو لأجيال آتية نرجو ألا يكون للكماشة فيه استعمالا في لحم الإنسان!

يتسلل الطويلة بخفة حبر مثل بالوجع!

يتسلل إلى ذات ضحايا الرواية، ولا أقول أبطالا – لأن الوجع لا أبطال له- وإن اختلفت أدوراهم، بقوة، فتراه يفرغ إلى خلد الرائي، ويكأنه يبكي معهم، ليس بكاء حكي بل بكاء من جرحه الحبر بدفقة خارج السيناريو، فأصاب منه ألما وشعورا بأن الشخصيات يمكن أن تخرج من الورق، ليناقشوك، ليعذبوك، ليرصدوا ملامحك وأنت تقرأهم، حتى يمارسوا عليك ما قد لاقوه، ممسكين بإصبعك، مرغمينك على كتابة: (هذا الرجل عذّبني)!

*تسلسل متوال:

الاقتراب من عالم التحقيق ليس جديدا في كتابته ضمن أدب السجون أو ضمن سير ذاتية أو حتى مذكرات يمكن أن تعرج على وصف أو مناسبة ما، إلى أن نلتفت لشيء مضحك؛ أن أول تحقيق يجربه الإنسان هو تحقيق والديه! وبنفس وتيرة التحقيق الذي سيأتي حتما في حياة؛ أين ذهبت … متى فعلت… كيف حدث …الخ، من متواليات لن تنتهي، وهو أول غيث إحساس مقيت (الخوف).

كان الخوف الأول في الأحداث من نصيب شخصية طبيب يقال له: (مطاع) الذي تحول في غمرة حدث واحد إلى (مطيع)، حدث لخيوط عنكبوتية تتناسل دون رحمة، وتحت سنابك التحقيق المعنوية والمادية، فمن ذا يلتفت في التحقيق لمسماه!

ومضات التحقيق تقترب منك، تنير رمادية روحك المتفحمة، توخزك مرارا بشعور متقارب وأنت تقرأ “حذاء فيلليني”؛ متى تعرضت لهذا! يا بن القحبة، يا بن الكلب …، نعم سمعت هذه الألفاظ كثيرا، لكن بدرجات ومشاهد متفاوتة ومكانات غير التحقيق البوليسي؛ إذًا هو تراث لم يتغير في الحياة، لكنه يشتد ويكون مركزا فيما ما يسمى (التحقيق).

(هل ينام ملك التعذيب بعد أن خرج على المعاش؟ هل يستريح ليعدِّد ضحاياه على كفوف يديه ورجليه؟ لا أسألك بل أجيبك: لا ينام؟)

*صرخة مشاهد:

أرى دمعة من قارئ يشاهد أمامه مسار التقاطات الكاميرا لحال الضحية (مطاع) أو (مطيع)، فالأسماء ليست مهمة، بقدر ما هو مهم أن نعلم أن المشرط يخترق نفس اللحم!

استطاع “الطويلة” أن يخمشنا في وجوهنا بل في أرواحنا بتسليط كشّاف كبير على الحالة النفسية لطبيب تعرض للبشاعة أثناء التحقيق، عبر وجبات يلقمها السجّان لشيء يمكن وصفه بمسميات كثيرة باستثناء وصف (إنسان) إلا عبر الشتائم التي تعلمك بأنها موجهة لإنسان؛ يا حقير …يا أولاد الكلب !

وإزاء ذلك يُفعل الكاتب ذاكرة الضحية ويشحذ همته العقلية في طرق متعددة للانتقام من طبيب وقع تحت قسوة سجانيه.

*المسرح لا يحتمل:

الأمر المفزع في سرد “الطويلة” هو انتقاله من خشبة مسرح العتمة وفقدان الأمل والضياع إلى مسرح الحنان والمرح الموصوف بالأخّاذ! إلى حركية الكاميرا الناطقة بالمشاعر، وتكمن حرفية “الطويلة” في اقتناص المشهد لإزاحة التعب المتراكم من بوح ثقيل على المسرح إلى التقاطات لفيلم يخترق فيه عالم المخرج الإيطالي “فيلليني” بشكل اقتحام متعمد بل ومتسلط!

لا يكون الألم في توصيفه متمكنا إلا إن قابلناه بنقيضه! وفي هذا يبحر الكاتب في مذاق الوصف والفلسفة، مذاقان لائقان في بحر كتابة الحدث والإحساس وتمرير ما يحاول به نكأ جراح البداية المهلكة للمدعوكين!

هو حوار الحب وما اقترب منه، حيث يداعب كل منهما الآخر بما التقط من نعيم الكلام وبلسم تزيد طراوته كلما فاح عطر الود والشغف في ملابسها.

هو حوار الشطرنج؛ غير أن لا منتصر، حتى التحركات لم تعد لكسب نقاط بل للاقتراب دون حساب.

هو الاقتراب من شيء تشغف به، تاركا موضوع إحراز نقاط ما، خارج دائرة اهتمامك.

*هشاشة لا بد منها:

الخديعة صنعة يد رجالية، تماما كصناعة الساعة السويسرية، هكذا يوصف الخداع دوما بأنه (made in man)!

عبر كلمات أقرب إلى التمتمات داخل نفس مسحوقة؛ تفضي الأنثى بسيل عرم من الهشاشة الإنسانية الفاضحة، والبوح الأليم الذي يفضي لنهش معالم شخص طالما أذاقها الويلات.

يختبئ “الطويلة” خلف صوت من بكاء وهو يختنق، جاعلا من الضحية الأنثى ملقم الرواية، تاركا لها حق التلقين والإلقام والتفريغ والإشباع.

كيف يمكن لكاتب أن يخمش بأظفار حبره طبقة الزيف التي تحجب حقيقة إحساس امرأة فاتنة، ويضع المغمور منه في حبر يفضي لحالة من ملامح تتقيأ على جلادها بكل هذا الوجع!

(-خذوه ولفوه في ورق سيلوفان.

خذوه ولفوه في ورق سيلوفان.)

هو الخوض في بحيرة لا يعرف ماؤها من طحالبها أو أعشابها المتلونة بتلوث الوصف والأحداث التي تنخر في النفس!

*إنصات لكرسي:

من المسؤول عن تفرد الحاكم؟ أليست تلك الحناجر المليونية التي تصدح بها الجماهير الغفيرة!

يدير “الطويلة” يد الكاميرا لنقطة يخالها الكثيرون مهلكة حتى لمجرد الذكر!

يبدأ الكاتب في بلورة الغلاف الروائي في شكل (المونولوج) والذي ارتأينا عدم إطلاق الوصف عليه إلا حين رأينا تعدد الأصوات، بل وإننا نرى أن الرواية هي عبارة عن استطالة الكولاج الروائي في تقنية السرد الحاصل في “حذاء فيلليني”.

(تقول عني إنني جلاد، تتفوه بها أيها المعالج من بين أسنانك وتجز عليها، أراها تسكن عينيك بالشرر، تستولي عليك من غير أن تنطق بها، بخسَّة تقول زوجتي التي منحتها شرف اسمي منذ البداية، كان يمكن أن ىخذها قسراً ولو كانت في حضن أي رجل ثم أرميها في أي وقت.)

لقد استثمر الروائي “وحيد الطويلة” تقنية الكولاج ضمن متواليات المونولوج، ليس بالمفهوم الترقيعي أو دمج اللامتناسق، بل هو العمل المختلط في البنية الذاتية؛ المسكوب في ذروة الأحداث دون شطط أو إقحام، وهذا في اعتقادي جرأة واستحداث في نمط الكتابة ما بين الدمج بين السرد الروائي والنصوص والعمل الدرامي؛ في توليفة أخذت العمل الروائي إلى مناطق سردية أشبه بلعبة (مكعب الروبيك)، وهذا ليس بالأمر السهل؛ فهو يحتاج إلى إحاطة بخيوط متداخلة لا يجب أن تنحرف عن تشكيلها السردي وإلا فإن المتن سيتعرض لحالة من خفوت العرض والحدث والذهاب إلى تناقض سردي واضح.

*جدلية الالتقاطة الصادمة:

لقد استعان “الطويلة” بالاستعارة المونتاجية في إحداث صدمة سيكولوجية ضمن صراع تراثي بين الإنسان والشيطان، لقد كان حوار الشيطان زاوية سردية جديدة في مقطع من البحث عن التقاطة أراد بها الكاتب استحداثها بشكل يبرز التكوين النفسي المتناقض؛ ليس في وجوده بل في اتجاهه!

ويحسب له أنه حرك من لغة (الشيطان) من لغة التحريض والتنافر العملياتي لكينونته إلى لغة متصادمة مع كينونته (التقارب والسكينة)!

*قطعة جمر تقترب:

قالب لمزج سياقي ارتآى الكاتب أن يلقم الرواية ليس لوجهة نظر الجلاد، بل لحكمه، فالجلاد لا وجهة نظر له، بل حكم متيقن الفكرة، يقيني الحدوث في ذاته!

إن كل قالب في هذه الرواية يمتد من أول إعلانه لمنتهاه، فهو يتحدث بوصفه “الأنا العليمة” المتعددة في مختلف المونولوجات التي نتابعها ضمن هذا العمل الروائي الذي يغوص في الذات الإنسانية سواء ما كانت منها حقيقة أو ما كانت زاوية الكاميرا هي من تظهر هذا الجانب.

كاشفا في ذلك على مختلف الأبعاد النفسية والفكرية والعاطفية التي يتسم بها التكوين السردي للشخصيات حتى الأوصاف التي تُلقم ضمن الرواية.

*مونتاج فيلليني:

هل فيلليني هو وحيد الطويلة أم وحيد الطويلة هو فيلليني؟

والقاسم المشترك في عملهما يقوله الطويلة ضمن روايته في المقطع العاشر منها بحديثه:

(الفرق بيني وبينه أنه كان يحلم أما أنا فلا أرى غير الكوابيس، كان يرى الفيلم كله في أحلامه لقطة لقطة وأنا أرى فيلمي في كوابيسي مشهداً مشهداً، يصحو وهو يفرك عينيه يكاد يطير من الفرح وأنا أصحو أجاهد أن أنتشل قدمي من القبو، أشدها، لا أستطيع تركها هناك وأمشي أعرج ببقدم واحدة وأحياناً بدون قدمين، هو ينسى الفيلم تماماً بمجرد أن ينتهي من وضعه في العلب، يمحوه من ذاكرته وينتقل إلى فيلم آخر وعشيقة أخرى، وفيلمي واحد لا ينتهي معروض على شاشة روحي طوال الوقت، كلما مرت لقطة جاءت أخرى أفظع منها ثم تعود الأولى مرة أخرى وهكذا، فيلم واحد لدار عرض واحدة طوال الوقت.)

إنه مونتاج بنائي يتكأ عليه الكاتب في مقايضة العمل الروائي بخاصية العمل السينمائي أو بمعنى آخر تحول الالتقاطات الروائية في أصلها لالتقاطات سينمائية مع اختلاف مدتها ما بين زاويتها أو مدتها أو إلمامها بالفكرة المطروحة.

كل ذلك يدفعنا إلى حتمية أن المونتاج في العمل الروائي هو تقني بالدرجة الأولى من خلال الترتيب المتزامن المتقن بين الالتقاطات وانتقالات المشاهد والتوليفة والدقة والإحاطة في الشكل الداخلي والمضمون في الرواية مما يشكل تآخيا بين البناء والشكل والمضمون؛ عن المونتاج الذي يصوغه المخرج الإيطالي فيلليني هو ما يصوغه الروائي “وحيد الطويلة” في منظومة حكائية تستند إلى ثوابت العمل الإداري المحض (التخطيط – التنظيم – المتابعة –التنسيق – الرقابة)، ولا يمكن لروائي ناجح إلا أن يراقب شخصيات عمله، ويُسند للعسس مهمة التلصص دون الإفصاح!

*سيناريو لقيط:

(نحن النساء لسنا كالرجال، الصبر حيلتنا الأثيرة في انتظار المسرات والأحزان، والأحضان أيضاً، يغيب الرجل قسراً، أو يغيب ليلهو ويعبث ونحن ننتظره، إنها لعبتنا في انتظاره وترويضه، وعشقه أيضاً، نلعبها بغرام مع الأب والحبيب والطفل، كلكم أطفال إلا من غاب طفله، ساعتها يتحول إلى وحش لا يجدي معه صبر أيوب، لكنني صبرت، دعك من أنني كنت مرغمة أو أنني شاركت باللعبة بالتسليم بالأمر، بالرضوخ أو حتى التواطؤ على نفسي قبل غيري، وأقسمت أن آخذه يوم خروجه على المعاش ولو لمرة أخيرة، وعندما جاء وجهه يومها مسحوقاً كذئب مهزوم فعلت له ما لم أفعله في حياتي، كان مؤشر صبري يدق كساعة كاهن قديم، سحبته ليعتليني بمزاجي، بنذري القديم لنفسي، وهو عار، عار من كل طغيانه، من كل قميص أو رائحة لها علاقة بالماضي، حممته بنفسي وهو مندهش مذهول، لكنه كان ذبيحاً مستسلماً، ثم كأي عاشقة ولهانة سحبتُ يده إلى مخدعنا.)

وأنا أقرأ هذا المقطع أطلقت ضحكة مزاجية كضحكة “صدام حسين” قائلا لوحيد الطويلة: تبا لك؛ لم تلطمنا بأنوثة المرأة رغم قهر الرجل لها؟ أين كيدهن، وشررهن المستطير، أين لون الحرباء في انتقامها … أين أين؟!

وتطفو على خد الورق تلك التي أراد لها “الطويلة” أن تكون المستكينة المسامحة، لتخط بعض فورانها الحقيقي، قائلة:

((نحن النساء لسنا كالرجال بالطبع، فصيرورة انتقامنا لمن آذانا لا تقترب من الخيال حتى؛ فذاك الذي أذاقني الويلات لن أدعه يرتاح (فيمتو) من الثانية، سأصب عليه نار عمري الذي تهشم منه، سأعلقه على نار هادئة وسيخ يخترقه، كشاورما غير ناضجة، سأقشر ما التهب من لحمه حتى يتبدل جلده ليعاود الكرة ودواليك، لن أجعله يموت، لن أجعله يحلم بوسام الموت حتى أشفي غلائل كياني كله، لن أكتفي بما تفتقت عنه محاكم التفتيش، ولن أساوم كتّاب روايات الرعب والتعذيب على أن يمنحوني بعض أفكارهم، سأكون أنا مؤلفة جهنم، حتى إن دخل جهنم حقيقة سيقول في خلده: لقد جربت ذلك قبلا!)) …

يكفي . . .

*مأمون ومطيع ومطاع!

كليك ثلاثي يعني ارتطاما بصوت زاهق: تبا لكم . . .

*المشهد الأخير. . .

يتحلل “وحيد الطويلة” من كتابة المشهد الأخير من الرواية، ليجعل المخرج فيلليني هو من يرسم مسار الالتقاطات والزوايا التصويرية للنهاية؛ يفتح احتمالات المشاهد بناء على رغبة الضحايا، يحاول فيلليني انتهاز الفرصة ليحكم قبضته، ولأنه رجل يجب أن يأخذ نصيبا من قبلة أو التحام – أليس رجلاً – ويكون كما يريد.

أو كما قال في آخر سطر …

(على الأرجح، هذا ما حدث!)

لقد كانت طريقة السرد في رواية “حذاء فيلليني” ذات مونتاج متوازن فكريا وفنيا، يتوافق مع المونولوجات المتتابعة والكولاج غير المقحم في الرواية.

ويشكل المنحى في بعض تفرعاته منحة تعالقيا في الدخول لمجريات الحبكات المتعددة والذي كان المونولوج العمود الفقري لها.

ملاحظة: مابين القوسين ((…)) محاكاة مني في محاولة لإظهار الأنثى محتجة على “وحيد الطويلة”.

شاهد أيضاً

سوسن دهنيم وأحمد زايد يوقعان كتابيهما في أبوظبي للكتاب

(ثقافات) سوسن دهنيم وأحمد زايد يوقعان كتابيهما في جناح مؤسسة العويس بمعرض أبوظبي للكتاب   …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *