لوركا.. شاعر الرّومنطقيّة المغايرة

*ساسي جبيل

في فوينتي فاكيروس، إحدى قرى مقاطعة غرناطة في إسبانيا، وُلد الشّاعر الإسباني المعروف فيديريكو غارسيا لوركا يوم 5 يونيو عام 1898، ونشأ في كنفِ أسرة من الطّبقة الوسطى، حيث كان والدُه أحدَ مُلّاك الأراضي الزّراعيّة، أمّا والدته المدرّسة فيسنتا لوركا، فقد كان لها الدّور الأكبر في تعزيز الميول الشعريّة والأدبيّة في شخصيّته، وقد تلقّى غارسيا دراسته في قريته، ثمّ في مدينة الميريا، وانتقلت عائلته إلى مدينة غرناطة، حيث تابع دراسة المرحلة الثانوية، غير أنّه لم يُظهر اهتماماً بدراسته، حيث كان همّه الأكبر منصباً على القراءة الحرّة، وكتابة الأشعار إلى جانب العزف على البيانو، ممّا كان يُغضب أساتذته، وبعد تخرّجه في الثّانوية عام 1914 التحق بجامعة مدينة غرناطة.
أصدر الشاعر غارسيا لوركا عام 1918، وكان في العشرين من عمره، كتابه النثريّ الأول بعنوان «انطباعات ومشاهد» بعد مشاركتِه في إحدى رحلات نهايةِ العام الدراسيّ إلى قشتالة والأندلس، وقد صدّره بإهداء في ذكرى موت أستاذه أنطونيو ساغورا، وإلى الأصدقاء كافّة الذين رافقوه في الرحلة. وفي عام 1919م قرر غارسيا لوركا الانتقال إلى مدريد لمتابعة دراسته، وسَكَن هناك في مقر إقامة الطلاب، حيث عقد علاقات وطيدة مع العديد من الفنّانين، وفي مدقمتهم الفنان التشكيلي الشهير سلفادور دالي أحد أعلام المدرسة السّريالية في الفن والأدب، والمخرج السينمائيّ لويس بونيويل. 

وفي 22 مارس 1920 عُرضَت أولى مسرحيّاته بعنوان «الرقية المؤذية للفراشة»، ولكنّها منيت بفشلٍ ذريع، وأبقته بعيداً عن المسرح لسنواتٍ، إلى أن عاد إليه في عام 1927 في فترة كانت فيها إسبانيا تعيش تحت قوة الحديد والنّار، فألَف مسرحيّة «ماريانا بينيدا»، وهي مسرحية مُستوحاة من تاريخ إسبانيا النضاليّ، وبالتحديد من قصّة فتاة أندلسيّة من غرناطة أُعدمت عام 1830. 
وبعدَ تعرّض مسرحيته الأولى للفشل ظهر ديوانُه الشعري الأول بعنوان «كتاب القصائد» سنة 1921، الذي بشّر بميلادِ شاعر جديد، فقد تجلّت فيه تلك الشفافية في الصور مع بساطة الأسلوب وعفويته، لتنهال عليه بعد ذلك الدعوات، ليلقي المحاضرات، ويشارك في الأمسيات الشعرية، ويصبحَ له جمهور واسع يضمّ جميع طبقات الشّعب من الغجريّ البسيط إلى المثقّف المتخصّص.

«قصيدة الغناء الغجريّة»
وفي عام 1928 نشر غارسيا لوركا مع عدد من أصدقائه مجلّة أدبيّة لم يصدرْ منها إلّا عددان، وكذلك في العام نفسِه نُشرَ ديوانه الأهمّ بعنوان «قصيدة الغناء الغجريّة»، قبل أن يسافر في ربيع عام 1929 في رحلة إلى نيويورك ، حيث عاش كطالب في جامعة كولومبيا، ومن على منبرها أعاد لوركا بعض المحاضرات التي سبق أن ألقاها في إسبانيا، ولحّن بعض الأغاني التي استمدّ روحها من بعض نصوصه المسرحية، ثم زار البرازيل والأوروغواي، حيث ألقى العديد من المحاضرات. وبعد عودته عام 1930، بدأ مشروعاً كان يمثّل حُلم حياته، هو تعريف الجمهور في الريف والقرى النائية الفقيرة بروائع المسرح الكلاسيكي الإسباني، وأنشأ ما عرف باسم مسرح الكوخ، وهو فرقة مسرح نقّالة يجوب بها قرى إسبانيا ليقدّم عروضه المسرحيّة مجاناً. 
وفي عام 1933، عرضت مسرحيته الشهيرة «عرس الدّم» في مدريد، وأصابت شهرة كبيرة، ثمّ عرضت في بوينس آيرس عاصمة الأرجنتين. وفي العام التالي عرضت مسرحيته الجديدة واسمُها «يرما» التي يتناول فيها الحياة البائسة للمرأة الإسبانية، وفي 1935، كان العرض الأول لمسرحيّة «السيدة روزيتا العانس». ثمّ عاد لوركا مرة أخرى إلى تأليف الشعر، وتميزت أعماله آنذاك بقلتها وجودتها، ففي عام 1936، نشر مجموعته الشعرية «التماريت»، وتدور حول اليأس الذي استبدّ به كشّاعر نتيجة وحدته بعد فقدانه حبيبته، وكان أكبر كسبٍ له حملته فترة الثلاثينيات بعد عودته إلى وطنه تلك الصّداقة الحميميّة التي ربطته بالشّاعر التشّيلي العظيم بابلو نيرودا، وقد تأثّر لوركا بحادثة مقتله المريعة، شأنه شأن جميع الأدباء ومختلف الأوساط الثقافية في العالم.

ترجيدية الغياب
لا تزالُ الظّروف المحيطة بمقتل غارسيا لوركا لغزاً غامضاً حتّى الآن، ففي 19 أغسطس 1936، أثناء الحرب الأهليّة الإسبانيّة، عاد لوركا إلى غرناطة، وهناك اعتقلته القوّات الوطنية التي كانت تسيطر على المدينة، وعلى الأغلب كانت التّهمة الموجّهة إليه هي كونه جمهورياً، وهناك من يقول إنّ التّهمة هي أنّه كان شيوعياً.. وكانت الأوضاع مضطربة للغاية، ولم يفلح أصدقاء لوركا أو معارفه في إنقاذه من الموت، فأُعدم رَمياً بالرصاص، ووُظف مقتله سياسياً واتخذ شعاراً رفعه مختلف الخصوم السياسيّون في إسبانيا ضد بعضهم بعضاً، فقد اتهِم النّظام بارتكاب الجّريمة، ثم اتهم حزب الكتائب الإسباني، ونتيجة لهذا الخلط نُسِبت إلى لوركا نزعات شيوعيّة ويساريّة مع عدم وجود ما يدلّ على ذلك في نتاجه الأدبي! بل إنه كان ينفر من السّياسة، ويكره أن يزجّ باسمه في الصّراعات السّياسيّة، على أنّه كان ثورياً بكل ما تعني الكلمة، ولكن ثوريته كانت أدبيّة مسرحيّة وفنيّة أيضاً، فقد كان عبقرياً ورقيقاً ورومنطيقيّاً في أدبه، وكان مبدعاً في الوصول بهذا الأدب والمسرح والفنّ إلى الفقراء، حتى استحقّ من محبيه لقبَ «الشّهيد» وبُني له مزار بعد أن فُقِد الأمل في وجود جثته، ليزوره المحبّون والأدباء والسياسيّون أيضاً.
وكان غارسيا قد تنبأ في إحدى قصائده، بعدم العثور على جسده بعد موته، فقال:
«وعرفت أنني قتلت
وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس
فتحوا البراميل والخزائن
سرقوا ثلاث جثثٍ
ونزعوا أسنانها الذهبية
ولكنهم لم يجدوني قط»!

نجوى الوداع
يقول لوركا: «منذ كنت طفلاً كنت أكره الوداع، كلمة الوداع بالنسبة لي تعني شكلاً مصغراً من أشكال الموت، يا له من ألم ألا يكون لك ألم، سلام على من رأى العين كادت تبكي فأضحكها، كل ما تبقى يمر، تورد بلا اسم كوكب أبدي دائم كل الباقي شيء آخر مختلف، رياح جزينة، بينما تفر الأوراق أسراباً، ربما سُرق ربما تركته عائماً فوق رغوة فنجان قهوة، ربما طرق باب الليل وكان السهر غافياً، ذلك الوقت الذي لم يجمعني بك مَن ضيعه؟ آه يا لها من أحزان عميقة لا يمكن تجنبها، تلك الأصوات المتوجعة التي يغنيها الشعراء، ماذا سيحدث إذا تحولت الوسادة تحت رؤسنا إلى صدر من نحب، ما أعظمه من جهد أن أهواك كما أهواك، ما الإنسان من دون حرية يا ماريانا، قولي لي كيف أحبك إن لم أكن حراً، كيف أحبك قلبي وقلبي ليس ملكي، حين تنتظر فإن الثواني تتمطى إلى اللانهاية، اعلموا أن الرجل المشهور ينوء بمرارة حمله قلباً بارداً طعيناً بأضواء المصابيح المُعشية التي تسلطها الجماهير عليه! كانت طفولتي ريفية، رعاة، حقول، بساطة، عزلة، وإنني لأعجب حين يظن أن في أدبي افتعالاً وجرأة، إن كل ما وصفت كان حقيقياً، حين تنتظر فإن الثواني تتمطى إلى اللانهاية، وإن نلت ذاك المجد فالفضل يعود إلى غرناطة التي أنشأت كياني وجعلت مني شاعراً بالفطرة، إنني أعرف الكثير لكن في المعهد كانوا يعطونني صفعات هائلة، إنني ولدت سقيماً ونحيل الجسد أنأى به بعيداً عن إخوتي، اتخذت من الطبيعة مسرحاً كبيراً أسامر طيرها وأغصان الشجر ونسيمها العابق بشذا الورد، أخذت من أمي طباعها المرهفة ومن أبى سخاءه ووفاءه ودأبه». 

مدينة الصداقات
ونثر غارسيا لوركا كشعره: ينبغي لنا أن نتألم لنرى أولادنا يكبرون، يسقط ألف كمان في راحة يدي، ما زلت في مدريد الحبيبة مدينة الصداقات، افتحوا صدوراً للإنسانية لألج فيها وأنعم بالدفء، الفضاء المزدحم بأقواس قزح يكسر مراياه فوق الأغصان، المدية تنغرس في القلب كما تنغرس سكة المحراث، لم يكن أحد يعرف أنك تعذبين طائر حب بين أسنانك، على الشاعر في عصرنا هذا أن يفتح عروق دمه من أجل الآخرين، لم تنظم بعد القصيدة التي تنغرز في القلب كما ينغرز السيف، لا يريد الليل ولا النهار أن يأتيا حتى أموت من أجلك وتموتي من أجلي، هناك رائحة ملح ودم لأنثى في السنابل المحمومة لشاطئ هذا البحر، أريد أن أنام رقاد ذاك الطفل الذي كان يريد أن ينتزع قلبه في عرض البحر، لست برجل ولا بشاعر أو ورقة بل نبضة مجروحة تسير الطرف الآخر من الأشياء، ليس هناك من أحد ينسى الجماجم الجامدة للأحصنة الميتة وهو يداعب وليداً. ضعت مرات كثيرة في البحر، أذني مليئة بأزهار مقطوفة للتو ولساني مليء بحجب وباحتضار، هناك جذر مر وعالم من ألف سطح إلا أن أصغر يد لا تستطيع أن تحطم باب الماء، أرى قطرات من الندى على أجنحة العندليب وقطرات صافية من القمر جمدها الوهم.

لا أريد أن أعرف شيئاً عن العذاب الذي يعطيه العشب ولا عن القمر ذي الفم الأفعواني، ينبغي لنا أن نعترف بأن جمال إسبانيا ليس هادئاً متزناً بل هو جمال متقد محرق مندفع، أي طفل أشعل مصباحه، إن فراشة واحدة كافية لإطفائه! ترى أتكون اليراعة المضيئة قمراً، لا أريد سوى يد مجروحة إن أمكن من أجل كفن احتضاري الأبيض، لا أريد سوى هذه اليد لتسند جناحاً من منيتي، أريد العيش دون رؤية نفسي وسوف أحلم بأن النمل وأن الشوك، صارا أغصاني.

الظل الكبير لدموعي
يقول غارسيا لوركا: «كما أعرف أن للحواس الخمس أبواباً متصلة وعلى الشاعر إما أن يتصدى لجلاء صورة ما، أو أن يفتح ما بين هذه الأبواب لتنوب حاسة عن الأخرى، فقد عابثت سلفادور دالي بتمثيل حركات الاحتضار أمامه، وأقلد الوضع الذي سيصير إليه جسمي بعد الموت، فقط من أجل أن أرى التأثير السحري الذي خلفته في نفسه، في ديواني حكايا غجرية!
أريد للصور التى أستمدها من شخصياتي أن تفهمها تلك الشخصيات نفسها، لقد كانت تجيش في مطاوي قلبي ألف مأساة، كانت الأندلس ماضياً بأوضاعه تحتدم عواطفي، فهي منبع ثري تنهل منه ألف مسرحية ومسرحية. حذروني الأصدقاء كثيراً عندما قررت العودة إلى غرناطة في مطلع الحرب الأهلية فلم أستجب لهم قائلاً: إنني الظل الكبير لدموعي، إن الشعر بحاجة إلى ناقل، إلى كائن حي.. لا تحملي ذكراك، دعيها وحيدة في صدري.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *