هدية حسين *
تأتي إليّ في الليالي الموحشات، أنا المسكونة بك منذ زمن بعيد، منذ تفتحت براعم الياسمين على جسدي وشممتُ طلْع النخيل، منذ حلمتُ برجل يشبهك حين تعذّر اللقاء المستحيل بك، متمنية أن يلقي على مسامعي قصائد حب تشبه قصائدك.
أدرك بيقين واضح لا لبس فيه أن كل شيء انتهى، لم تعد غرناطة كما كانت، لم يعد بيتك على حاله.. مثلما أدرك أيضاً أن بيتي في بغداد شاخ واضمحل وفقد طراوة ملامحه، لا الشوارع ولا المقاهي ولا الأبراج ولا المساجد ولا الكنائس ولا القناطر ولا السفوح ولا القمر المتلألئ في ليل غرناطة الصافي وليل بغداد المضطرب، لكنني أجمح بخيالي فأدير قرص الشمس وأحسبه عجلة الزمن، أدوّر العجلة إلى الوراء وأعيد رصف البيوت وأرفع سقوف المقاهي وأسمع أغنيات الغجر تلك التي اندثرت أو تكاد، أشاهد اخضرار الحدائق وألق ورودها العابقة في المنحنيات.. وأراك، بعينيك الواسعتين العميقتين، تنظر إلى كل ما تركته خطواتك على الدروب ليصبح كل ما تقع عليه عيناك ضاجّاً بالحياة بعد أن أصابته الخدوش واستقرت فيه الندوب.
كذلك أفعل مع بغداد، وأراني الطفلة التي تحمل حقيبتها الثقيلة وتمضي إلى المدرسة مشياً على الأقدام، والصبية الضاجة بأغاني الحب حين تقف في المنحيات منتظرة حبيبها ذاك الذي ضيعته الدروب، أعيد النهارات إلى ألقها والليالي إلى سمرها، والقصائد إلى شعرائها الغاوين، وطعم القبلة الأولى التي لم نقترفها إلى الشفاه الظمأى، والحنين إلى الحنايا، والصداقات إلى عذوبتها، ونكهة الطعام وهي تخرج من مطابخنا إلى بيوت الجيران.
ولأنني أدرت قرص الشمس وظننتهُ عجلةَ الزمن، فها نحن نمضي معاً محاذاة نهر «شينيل» الذي تأتي مياهه من جبال الثلج، ويخيل لي أننا نمشي محاذاة دجلة الذي تأتي مياهه من جبال الثلج أيضاً، أحس بملامسة النسيم الرطب على وجهي عندما تحدثني عن غرناطة وعن طفولتك وصباك البهي وعن كثير من قصص العشاق وفرسان ذاك الزمان، تحكي بحب وبشاعرية فأنأى عن حكاياتي المحزنة لئلا تخترق قلبك سهام الحزن.
إخالني، أحياناً، البنت الرابعة في قصيدتك التي تقول فيها:
«غرناطة..
حيث تعيش بنات المانولا
البنات الثلاث اللاتي يذهبن إلى الحمراء
الثلاث معاً….. الرابعة وحدها».
وإخالني «وفيقة» في قصائد السياب، تلك التي تطل من شباكها الأزرق النشوان:
«شباك يضحك في الألقِ
أم باب يُفتح في السور
فتفر بأجنحة العبقِ
روحٌ تتلهف للنور».
وحدي، أجمع في أخيلتي كل ما فقدْتُه في بغداد، وأعيد له رونق الحياة، أمشي في شارع الرشيد وأدخل متاجره ومطاعمه وأحجز لي مقعداً في سينما النصر لأشاهد فيلم «بعيداً عن الأرض» بانتظار الرجل الذي أحببته ليحلّق بي إلى سماوات الحب.. ويأخذني قرص الشمس الدوار إليك وإلى غرناطة التي ما غادرني سحر دروبها مُذ رأيتها، فأراني معك، نمشي تحت القلاع التي فقدتْ فرسانها، فوق الأبراج العالية أو فوق الجسور، قرب نهر «دارو» الذي ينساب على أعتاب قصر الحمراء، أو على ضفاف نهر دجلة الذي يقسم قلب بغداد إلى قسمين. ليس من ضيرٍ أن ذاكرتي تنقل الأنهار وتغير مجراها، هناك في بلدي حيث تتنفس ذكرياتي بصعوبة، وهناك عبر البحار، في قلب غرناطة تتنفس بقايا قصائدك، حيث السهول والتلال والينابيع والكهوف والشرفات المزدانة بالأزهار، وحيث أراك حائراً وباحثاً عن إجابات لسؤال مرت عليه عشرات السنين: «مَن تلك اليد التي أطلقت الرصاص على رأسي وثقبت قلبي؟»، وأنا في الوقت نفسه أتساءل كل يوم وكل ليلة: «من تراها تلك اليد الخفية التي أحرقت مدينتي بغداد؟».
يا لها من مخيلة جامحة أن أحس بدفء أصابعك تنسلّ إلى أصابع يديّ الباردتين، تأخذني إلى مدينة الكرمات، نجلس على ربوة خضراء فتُسمعني قصائدك، وأرى الأرواح الهائمة في ساحات المدينة وشوارعها المضيئة وزواياها المعتمة، تلك الأرواح التي كنت تؤمن بوجودها وتراها في حين ينكرها الآخرون.
في أول زيارة إلى غرناطة أخذني الدليل وحدّثني كثيراً عنك غير مكترث بشرودي وغير مدرك أنك دليلي وأنه ليس أكثر من أصابع تشير هنا وهناك، متوهماً أنني أُنْصت إليه باهتمام بالغ، بينما أنا أمضي حيث تشير لي يدك، أمضي تحت شمس حارقة مستذكرة شمس بلادي، ولكي لا يوغل الدليل بأوهامه ويحتكر الكلام لنفسه كنت أقاطعه أحياناً وأسأله عن أماكن قرأت عنها وحكايات عنك سمعتها فيشعر الدليل أنه رجل مهم وذو مكانة عالية تمنحه حق توجيه خطواتي فيأخذني إلى حدائق الحمراء ويحكي لي تاريخ أجدادي المهزومين، وبينما هو يحكي عن الهزائم أحس بأنفاسي تضيق، أراني أركض في ليل لا نهاية لظلامه والقنابل تطرّز ليل مدينتي، فأحاول استنشاق الأكسجين.. هل ما تزال بغداد تتنفس الأكسجين؟ أم إن غبار الصحارى، ذاك الأحمر الذي يعمي العيون، التصق بحنجرتها وحبسَ الهواء عنها؟
الليل ليل، هنا أو هناك، بلا عيون أو بعيون مفتوحة، سوى أن للذكريات ما تشاء من جعله كثيفَ الظلمة أو شفيفَ الضوء أو متوهجاً مثل تنور أمي أو مراوغاً مثل لص يحسب وقع أنفاسه قبل وقع قدميه لكي لا يُفتَضح أمره.. وما دام الليل متوهجاً بذكرياتي فها أنا أتجول في حدائقه وأستدعيك من الشواطىء الفيروزية لكي أشاركك التساؤل: «لماذا يطلقون الرصاص على الأقمار الساطعة بنور الحقيقة؟».
عزاؤنا أنهم (القتلة) يموتون بلا أسماء ولا مزايا ولا نياشين ولا حكايا، ولا يعرفهم الناس بغير كلمة «القتلة»، وأقمارنا تبقى سرمدية تنير لنا دروب الحياة.. ولا شك أن «فيدريكو غارثيا لوركا» يدرك من مكانه القصيّ الذي راح إليه قبل عشرات السنين، كم لوركا من بعده قُتل بالطريقة نفسها ولم يمت.
* قاصة وروائية من العراق
( الرأي الثقافي – الأردن )