في الذكرى الخامسة لرحيل الأديب عدي مدانات

(ثقافات)

في الذكرى الخامسة لرحيل عدي مدانات

أنت وأنا و…” بقية من زيت قنديل”

أفلين الأطرش

قبل خمس سنوات، وفي العاشر من تشرين الثاني، ترحل يا أغلى الناس وأحبّهم. وأنا لا أحب مكانا صار عنوان إقامتك الأخير، بالرغم من زياراتي الكثيرة برفقة أبنائنا. فهو ينال من قوّتي وقدرتي على الصبر والاحتمال، فيقلّلان من طمأنينتك تجاهنا. ببساطة شديدة، وبوضوح أشدّ، لأنه يؤكّد الحقيقة الأمرّ في كلّ حقائق الحياة، وبخاصّة مع اتساع رقعة تجوالي فيه، بالتحاق شقيقتي ليلى قبل ثلاثة أسابيع وثلاثة أيام من اليوم، بشقيقنا جريس بفارق سبعة أشهر ونصف، الذي التحق بزوجها فايز الصياغ بذات الفارق الزمني تقريبا، ليأخذوا جميعا، ومثلك تماما، ذات العنوان إلى جانب أحباب كثرٍ لنا سبقوهم. فلتأتِ أنت إلى مكان يقويّني ويرفد قدرتي على الاحتمال، فأنت لا تزال في أدقّ تفاصيله. تتابع أيامي، تراني وترعاني…
وأتيتَ مع طقس قهوة الصباح الذي تحضره بكليّتك. أبدأ حديثي كالعادة في ما أتابعه من شأن عام صار يطغى بظلمات بؤس تسوّد العقل والقلب معا، فلا منجاة لي بالهروب إليه من طغيان الشأن الخاص باسوداد عيش حالات مماثلة لما خبرناه ولازمنا عام رحيلك وبعده. فالصور لا تدفن أو تمحي، مهما أهلت عليها من خرسانة شديدة التماسك. تحضر بقوّتها الذاتية وبعمق آلامها المتجرّعة لبقائها. فكيف وهي على امتداد هذا العام والعام الماضي، بفواصل زمنية قوامها الأشهر والأسابيع والأيام، في ما يشبه متوالية حسابية لا تستطيع حلّها؟؟؟
لكنني بالأمس أضفت: ” كلّ من سرب الطيور المهاجرة، بتعدّد الأسماء والصفات، سواء مَن له ذات عنوان إقامتك أو اختلف به العنوان، حمل وجعه الخاص على امتداد عيشه. لكنكم جميعا أبقيتموها لنا لنضيفها مجتمعة إلى أوجاع حيواتنا.” لم تعلّق… تتابع صمتك الذي اعتدتُه أنا الآن، لأكمل فنجان قهوتك برويّة كما اعتدتَ أنت، ويتلوه فنجان قهوتي الذي أرتشف بسرعة أكبر، لبرودة تسري في محتواه. تكمل تجوالك في أرجاء بيتنا مزهواً، فها الأشياء لا تزال على حالها، فلا اغتراب…
تدخل غرفة النوم حيث أحتفظ بكل إصداراتك الإبداعية، إلى جانب “ذلك الجانب من السرير”. تطلب إليّ التقاط أحد تلك الكتب لشكل يميِّزه. هو مجموعة قصصية صدرت لك قبل أحد عشر عاما، تحمل اسم” حكاية السوار العتيق”. تُتبع طلبك بإعادة قراءتي لها. هذا إذن يا أحبّ الناس، هو تعليقك المؤجّل: “تأخذون أجسادكم المتعبة لترتاح فقط، وتبقون لنا كلّ ما أنتم عليه، لنعيشكم كما حقائق ذواتكم.”…. تومئ بالإيجاب، تبتعد ثمّ تغادر.
لكنّك هذا الصباح، تُخرج حضورك عن نمطيّة صباحات الخمسة أعوام الماضية. تسألني إذا ما وجدتُ رسالة لي في هذه المجموعة، تريدها بديلا لرسالتي إليك في مثل هذا اليوم، فأنا أولى بها وأكثر حاجة ، كما أضفتَ. أفتح الكتاب ونشير معا إلى إحداها… تَبسم، وتطلب إليّ قراءتها بصوتي، فحبالك الصوتيّة نال منها الصمت الطويل…….
=========================
بقيّة من زيت قنديل
“التفتت بغتةً لدى سماع صوت الوافد الجديد. كانت آنذاك منشغلة بمراقبة قطّ أبيض موفور الصحة، يتهادى في حديقة المطعم ويتقافز لعِبا من الأرض إلى شجرة اللّيمون ثم إلى الأرض دون كلل.
كانت تجلس وسط رهط من الأصدقاء، ولم تكن معنيّة على وجه الخصوص بكل وافد، فهي تعرف على وجه التقريب الأشخاص الذين يرتادون ذات المقهى. لقد خصّوه ملتقى أنيسا لهم وبسطوا سيطرتهم على زاوية منه. إنهم ببساطة تامة مجموعة من البشر لهم ميول مشتركة، احتاجوا باحة مفتوحة وظليلة، تهدّئ من روع النهار القائظ وتهدي إلى أرواحهم سلاما يحتاجونه.
كان الصوت أليفا ومفتقدا، فجذب انتباهها في الحال. تركت القط المنتشي بنشاط حواسه وشأنه، وتوجّهت بكليتها نحو الوافد الجديد.
حنى جذعه باتجاهها وصافحها. تفحّصته في اللحظة التي كانت راحة يده تحتضن فيها راحة يدها بحنان مفتقد. لاحظت اختلافا غمض عليها إدراك كنهه، ليس بسبب بياض شعره الذي ازداد كثيرا عمّا كان عليه، وليس بسبب انضمامه المتحرّج إلى مائدتهم، وإنما لذهول في عينيه لم تلحظه من قبل.
ـــ مرحبا. كيف أنتِ. أسعدتِ مساءً.
قال لها، ثم انتقل وجلس على المقعد الذي جُلب له.
” أسعدت مساء أنت أيضا”. ردّت عليه بعد أن اتّخذ جلسته.
ـــ ها أنت بهيّة كما أنتِ دائما.
أمعنت النظر إليه، ثم دفعت جذعها إلى الأمام حتى اختصرت المسافة بينهما, وردّت عليه:
ــ وأنت كذلك. هذا البياض الذي غزا شعرك، فعلها في خلسة عنّا.
ابتسم إذّاك، غير أن ابتسامته كانت كسيفة لا تبهج من يتلقاها. انشغل بحديث مع جاره الذي بادره بسؤال آخر. وضعت مرفقيها على المائدة وانتظرت أن يشرع بحديث يكشف سرّ غيبته التي طالت، غير أنه لاذ بالصمت على غير عادته، فقد كان لديه دائماً فيض من الكلام يثير شهيّة الحديث لدى الجميع، ولكنه لم يقل شيئاً. اكتفى بانضمامه إليهم. التفتت من جديد جهة ملعب القط، غير أنه لم يعد يستحوذ على اهتمامها، فقد استغرقها التفكير في الاختلاف الذي طرأ على صديق قديم لم يرَ فيها من قبل إلا أنها واحدة من هذه الجَمعة، وليس أكثر. لم يحدث من قبل أن تبادلت معه حديثا خاصّا، فقد كانت تكتفي بحضوره الأليف.
سمعت أحدهم يوجّه إليه السؤال المنتظر:
ـــ لماذا انت منزوٍ؟ لماذا لم نعُد نراك؟
اتّخذ مظهرا جادّاً وأجاب في هيئة سؤال:
ـــ يتعلّق الأمر بزيت القنديل. إن كان لديك قنديل وفيه بقيّة من زيت، أكنتَ تشعله في ليلة واحدة وتعيش أيامك التالية من دون إضاءة؟
ثم غشت وجهه من جديد تلك الكآبة المُحيِّرة.
تركت القط العابث والتفتت إليه وسبقت الصديق السائل إلى الجواب:
ـــ ماذا لو كانت تلك ليلتك الأخيرة، ألا تترك القنديل مضاءً؟
أسند جذعه إلى المقعد ورفع بصره نحو سماء تلألأت في محيطها النجوم، ثم حطّ على وجهها. لاحظ أنها أكثر ألقاً وبهاءً مما كانت عليه، وأنها امتلكت جرأة الإفصاح عن رأيها من خلال توجيه سؤالها المراوغ، وأدرك بإشراقة نفس مفاجئة، أنها بالذات من كان يفتقدها، من كانت يشغفه هديل صوتها وانبثاقة صدرها واتساع محيط عينيها وأن الضوء كله في ليلة واحدة يستحق هذه المجازفة، فانفجر ضاحكاً غرِداً، ما لبث ضحكه وأن سرى مثل العدوى لدى الآخرين، فضحكوا أيضا حتى استنفذوا ما لديهم من ضحك. قال:
ــ أنت محقة تماما. لم أنظر إلى أمر القنديل هكذا من قبل.
ثم بحث عن علبة لفائفه وأخذ واحدة، فأشعلها وكرّر مع ابتسامة واضحة وإحساس بالغبطة:
ـــ أنت محقة تماما، فلأي أمر آخر أحتفظ بزيت القنديل؟ “
======================
أنتهي من قراءة القصة ولا أجدك، فقد انسللت عائدا إلى تجمّع سكاني تخشى افتقاده لوجودك.
وأنا أغرق في تفكير هادئ لمغزى رسالة، هي قطعة من ذاتك.
أفلين
للإطلاع على بعض من أعمال الأديب عدي مدانات*

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *