ثقافات موقع عربي لنشر الآداب والفنون والفكر يهتم بالتوجه نحو ثقافة إيجابية تنويرية جديدة ..!
ترجمة – وفاء السعيد*
في 28 مارس 1941م، خرجت فرجينيا وولف، واحدة من أهم رواد الأدب الحداثي، وأيقونة من أيقونات تيار الوعي أو أسلوب تداعى الذاكرة في الرواية الإنجليزية، من بيتها قاصدةً «نهر أوز» القريب من منزلها الريفي في ريف إنجلترا، لا تلوي على شيء تاركةً رسالة إلى زوجها الكاتب والناشر ليونارد وولف، تخبره فيها بالقرار الذي عزمت عليه.
ملأت كاتبة «السيدة دالاوي» جيوب معطفها بقطع الحجارة وانزلقت في ماء النهر كي تستقر في قاعه إلى الأبد عن عمر يناهز التاسعة والخمسين عاماً كانت تسع روايات والعديد من المقالات من أهم ما كُتِب في الأدب الإنجليزي ثمرتها، لتنهي بذلك أصعب فصل في رواية حياتها، تلك الروائية المتميزة التي اشتهرت بمرضها العقلي، عُرِف فيما بعد بـ«اضطراب ثنائي القطب»، الذي أدخلها في نوبات من الاكتئاب الحاد، وفقدان القدرة على التركيز والسيطرة على الكلمات كما كتبت في رسالتها الأخيرة لزوجها قبيل انتحارها.
كما اشتهرت باتجاهها «النسوي» في الكتابة، أو هكذا تم تصنيفها من قِبل بعض النقاد والباحثين. وفى مقالها الممتد لكتابٍ صغير «غرفة تخص المرء وحده»، وكانت تقصد بالمرء «الكاتبة» تحديداً، قدمت فيه نصيحتها الشهيرة: «إذا أرادت امرأة أن تكتب الأدب، عليها أن تمتلك غرفة خاصة بها وحدها، وبعض المال».
وبعد مرور خمسة وسبعين عاماً على رحيل فرجينيا وولف، تقدم هيئة الإذاعة البريطانية BBC التسجيل الوحيد المتبقي لديها بصوتها، أذيع للمرة الأولى في التاسع والعشرين من الشهر الرابع عام 1937م، كجزء من سلسلة سُميت «تخونني الكلمات». ثماني عشرة دقيقة، هي كل ما تبقى من هذه الوثيقة التاريخية الصوتية المهمة للكاتبة الإنجليزية البارزة.
هذا التسجيل تم تحويله فيما بعد إلى مقال مُطوَّل بعنوان «حرفة الكتابة» ونُشِر كجزء من مجموعة مقالات عُنونَت بـ«موت الفراشة، ومقالات أخرى».
وهذا نص الحديث المتبقي من تسجيل فرجينيا وولف نقلاً عن موقع بي بي سي:
الكلمات، الكلمات الإنجليزية مليئة بالأصداء، بالذكريات، بتداعيات المعاني – بطبيعة الحال. لقد كانت مُتداولة على شفاه الناس، في منازلهم، في الشوارع، في الحقول، على مدى قرون عديدة. وهذه واحدة من المشكلات الرئيسية في كتابتهم اليوم، إنها مشحونة بمعانٍ كثيرة مختزنة، بالذكريات، التي قد عُقدت بها العديد من الزيجات الشهيرة.
الكلمة البديعة «يجعله قرمزي اللون incarnadine»، على سبيل المثال، مَنْ يستطيع استخدامها دون أن يتذكر أيضاً «البحار العديدة»؟() في الأيام الخوالي، بالطبع، عندما كانت الإنجليزية لغة جديدة، تمكن الكُتَّاب من اختراع كلمات جديدة واستخدامها. في هذه الأيام، من السهولة بمكان أن تخترع كلمات جديدة – إنها تتبادر إلى الشفاه عندما نرى مشهداً جديداً أو نشعر بإحساس جديد – لكن نحن لا نستطيع استعمالها لأن اللغة قديمة. أنت لا تستطيع أن تستخدم كلمة جديدة تماماً في لغة قديمة؛ بسبب الحقيقة الواضحة جداً والغامضة أيضاً ان الكلمة ليست كياناً واحداً ومستقلاً، لكنها جزء من كلمات أخرى. إنها ليست كلمة بالفعل حتى تكون جزءاً من جملة.
إن الكلمات تنتمي لبعضها البعض، بالرغم من أن – بالطبع – الكاتب العظيم فقط مَنْ يعرف أن كلمة «يجعله قرمزي اللون incarnadine» تنتمى إلى «البحار العديدة». إن الجمع بين كلمات جديدة مع أخرى قديمة هو بمثابة خطأ قاتل في بناء الجملة. لكي تتمكن من استخدام كلمات جديدة بشكل صحيح، قد تضطر إلى ابتكار لغة جديدة؛ ومن ثم، بالرغم من عدم وجود شك فيما سنصل إليه، ليست تلك في الوقت الراهن مهمتنا. إن مهمتنا هي أن نرى ما نستطيع القيام به مع اللغة الإنجليزية كما هي. كيف نستطيع أن نجمع الكلمات القديمة في ترتيبات جديدة بحيث تبقى على قيد الحياة، بحيث تخلق الجمال، بحيث تقول الحقيقة؟ هذا هو السؤال.
وإن الشخص الذي بوسعه أن يجيب عن هذا السؤال سوف يستحق أي تاج للمجد، على العالم أن يقدمه له. فكّر فيما سوف يعنيه إذا ما استطعت أن تُعلّم، وتتعلم، فن الكتابة. لماذا وكل كتاب، وكل صحيفة سوف تقول الحقيقة، سوف تخلق الجمال. لكن هناك، على ما يبدو، بعض العقبات في الطريق، بعض العوائق أمام تعليم الكلمات. لأنه وإن كان في هذه اللحظة لا يقل عن مائة من الأساتذة يلقون محاضراتهم عن الأدب في الماضي، وعلى الأقل ألف من النقاد ينقدون أدب الحاضر، ومئات المئات من الشبان والشابات تجتاز اختبارات الأدب الإنجليزي بأعلى التقديرات. مع ذلك، هل نكتب أفضل، هل نقرأ أفضل مما كنا نقرأ ونكتب منذ أربعمائة عام مضت عندما كنا لا تُلقى علينا المحاضرات، وليس لدينا نقد، وغير متعلمين؟ هل الأدب الجورجي أفضل من الإليزابيثي؟
على عاتق مَنْ إذاً نلقى باللائمة؟ ليس على عاتق أساتذتنا، ولا نقادنا، ولا كُتَّابنا، لكن على الكلمات. إنها الكلمات هي الملامة. هي الأكثر جموحاً وحرية، الأكثر رعونة، الأكثر عدم قابلية للتعليم من كل الأشياء. بالطبع، تستطيع أن تقبض على معانيها، وتصنفها، وتُسَكّنها في ترتيبٍ أبجديّ في القواميس. لكن الكلمات لا تحيا في القواميس؛ إنها تعيش في العقل. إذا أردت دليلا على ذلك، تأمل كم مرة في اللحظات العاطفية عندما نكون في أمس الحاجة إلى كلمات لكننا لا نجد شيئاً منها. بالرغم من أن هناك القاموس، هناك في حوزتنا حوالي نصف مليون كلمة جميعَها بالترتيب الأبجدي.
لكن هل نستطيع استخدامها؟ لا، لأن الكلمات لا تعيش في القواميس، إنها تعيش في العقل. انظر ثانيةً في القاموس. هناك مما لا يدع مجالاً للشك توجد مسرحيات أكثر روعة من «أنطونيو وكليوباترا»؛ وأشعار أكثر جمالاً من «قصيدة إلى العندليب»؛ وروايات التي بجانبها «فخر وكبرياء» أو «ديفيد كوبرفيلد» أعمال بسيطة غير متقنة لهواة. إنها ليست سوى مسألة إيجاد الكلمات المناسبة ووضعها في ترتيب صحيح. لكن لا نستطيع القيام بذلك لأنها لا تعيش في القواميس؛ إنها تعيش في العقل.
وكيف تعيش في العقل؟ بأشكال مختلفة وبغرابة، كثيراً كما يعيش البشر، من خلال التنقل هنا وهناك، والوقوع في الحب، والتزاوج معاً. صحيح أنها مُلزمة أقل بكثير منا بقواعد السلوك والأعراف الاجتماعية. الكلمات الملكية تتزاوج بالعوام. الكلمات الإنجليزية تتزاوج بالفرنسية، والألمانية، والهندية، والزنجية، إذا كان لديها الميل. والواقع، أنه كلما قل تفتيشنا في ماضي أمنا العزيزة الإنجليزية، كان ذلك أفضل لسمعة هذه السيدة. لأنها قد ذهبت كرحّالة، خادمة أمينة متجولة من مكان لآخر.
وهكذا كي تسن أي قوانين من أجل هكذا متسكعة يتعذر إصلاحها، فإن ذلك أسوأ من أنه غير مجد. بعض قواعد النحو والإملاء التافهة هي كل القيود التي نستطيع وضعها عنها. كل ما يمكننا قوله عنها، كما ننظر إليها بفضول على حافة هذا الكهف العميق، المظلم، والمُضَاء فقط لفترة قصيرة التي تعيش فيه – العقل، هو أنه يبدو أنها تحب الناس أن يفكروا وأن يشعروا قبل أن يستخدموها، لكن أن يفكروا وأن يشعروا ليس عنها، لكن عن شيء آخر مختلف.
إنها بالغة الحساسية، تصنع بسهولة وعيها الذاتي. إنها لا يحبون أن توضع مسألة رقيَّهم من بذاءتهم موضع المناقشة. إذا ما قمت بتدشين جماعة للغة الإنجليزية المهذبة، سوف يظهرون استياءهم بتدشين أخرى للغة البذيئة – وبالتالي العنف غير الطبيعي لكثير من الخطاب الحديث؛ هو احتجاج ضد المتزمتين (البيوريتان). هم ديمقراطيون للغاية، أيضاً؛ إنهم يعتقدون أن كلمة واحدة هي جيدة مثل أخرى، الكلمات غير المتعلمة هي جيدة مثل الكلمات المتعلمة، الكلمات غير المثقفة هي جيدة مثل الكلمات المثقفة، لا وجود للرتب أو للألقاب في مجتمعهم.
كما أنها لا تحب أن تُرفَع من على نقطة قلم وتُفحَص بشكل منفصل. إن الكلمات تدعم بعضها البعض، في الجُمَل، في الفقرات، وأحياناً لصفحات الكلمات في وقت واحد. إنها تكره أن تكون ذات منفعة؛ إنها تكره كسب المال؛ إنها تكره أن تُلقى عنها المحاضرات في الأماكن العامة. باختصار، إنها تكره أي شيء يدمغها بمعنى واحد أو يقصرها على اتجاه واحد. بسبب طبيعتها المتغيرة.
ولَعَلَّ تلك هي الميزة الأكثر لفتاً للنظر – حاجتها للتغيير. هذا بسبب أن الحقيقة التي تحاول فهمها هي متعددة الجوانب، وتنقلها من خلال كونها نفسها متعددة الجوانب، تومض بهذه الطريقة، ثم بتلك. وهكذا إنها تعنى شيئا واحدا بالنسبة لشخص واحد، وشيئا آخر بالنسبة لشخص آخر؛ هي مبهمة بالنسبة لجيل، وسهلة الفهم بالنسبة للجيل الذي يليه. ويرجع هذا للتعقيد الذي يبقى على قيد الحياة.
ولَعَلَّ هذا هو أحد أسباب أننا لا نمتلك شاعرا عظيما، أو روائيا، أو ناقد كتابة اليوم هو أن نرفض اختيارهم كلمات حريتهم. نحن نجبرهم على أخذ معنى واحد، معناها المفيد، المعنى الذي يجعلنا نلحق بالقطار، المعنى الذي يجعلنا نجتاز الامتحان. وعندما تُحَاصر الكلمات، تطوى أجنحتها وتموت.
ختاماً، وبكل تأكيد، الكلمات مثلنا، كي تعيش في يُسر، تحتاج إلى خصوصية. مما لا شك فيه انها تحبنا أن نفكر، وتحبنا أن نشعر، قبل أن نستخدمها؛ لكنها أيضاً تحبنا أن نتوقف؛ أن نصبح غير عَمديين. إن عدم عَمديتنا هي خصوصيتها، وظلامنا هو نورها… هذا التوقف صُنع، هذه الغلالة من الظلام أسقطت، لإغراء الكلمات أن تعمل معاً في واحدة من تلك الزيجات السلسة التي هي صور من الكمال وخَلْق للجمال الأبدي. لكن لا.. لا شيء من هذا القبيل سيحدث الليلة. هؤلاء التعساء القليلون الحادون، غير المجاملين، المتمردون، حمقى. ماذا عليه أن يتذمروا؟ «الوقت انتهي! صمت! ».
* القاهرة.
