فوقَ سُورِ المدينةِ

(ثقافات)

فوقَ سُورِ المدينةِ

قصَّة قصيرة

الأديب السُّوري موسى رحوم عبَّاس

      الرَّفيق غَيْث كما كان يناديه أصحابه ومريدوه، ليس بخير، هذا جوابه الجديد لمن يسأله عن أحواله :  ” شلونك رفيق” سنوات مَرَّتْ، وهو يجيب عن السؤال نفسه بلازمته المعروفة ” عَالْ، كل شيء تمام التَّمام” ها هوذا يسير إلى جانب الجسر وحيدا، ويخرجُ من جيبه ورقة دوَّن فيها بعض الملاحظات، فمن عادته توثيق كل شيء، لا يرمي حتى فواتير الماء والكهرباء القديمة، يسجِّل أدقَّ تصرفات المحيطين به، الأصدقاء قبل الأعداء، فلا تعلم متى يحين وقتها؛ ليشهرها سلاحا في وجوههم، المعلومة مع تاريخها ومكان حدوثها وشهودها، قصة الشُّهود هذه خاضعة للتدقيق، وانتقائية غالبا، كان غيث العبدالله يحاذي النَّهر، ويغيب في بئر هواجسه، يقرأ نصائح والده، المتطوع السَّابق في الحرس القومي، الذي أعد نفسه لتحرير فلسطين، والدفاع عن الثورة، لكن أصدقاءه في تلك المرحلة لهم رواية أخرى، عن هروبه من القرية، وألاعيبه وخيباته في المدينة الكبيرة، وهروبه الآخر إلى بيروت وجمهورية الفاكهاني، غيثٌ يصدِّق والده، ويدون ملاحظاته، يقرأ بصوت مرتفع، فلا أحد يسمعه على شاطئ هذا النهر، فالفرات يخفي الأسرار، ويحسن التكتم على المواجع:

– المدينة مثل ” الغُوَّالة[i]” تبتلعك، ولن تستطيع النجاة!

– المدينة عاهرة، لاتطوح بساقيها عاليا إلا لأصحاب الجيوب المنتفخة! أو النجوم اللامعة!

– لا تعترف المدن إلا بفئتين: أهل المال وأهل السياسة، وبينهما القوادون والسماسرة.

– لا مال لديك، فلست تاجرا أو ابن تاجر، اتبع السياسة، وإياك أن تكون من الفئة الثالثة!!

هذا إرثك يا أبي، وهذه وصاياك، قفزتُ من فوق سور هذه المدينة، حملتُ شهاداتي الكبيرة، لم يكترثْ لي أحدٌ، غبار قريتي وعجاجها كان يغشي أبصارهم عني، حتى لباسي المدني بالغتُ فيه، كنتُ أرسلُ في طلبه من بيروت، دخلتُ نظام الحلقات والأحزاب، قدتُ المَسِيرات، هتفتُ للقيادة الحكيمة، قاطعتُ الخطباءَ بقصائد الوطن وفلسطين، صفَّق النَّاسُ وقوفا لي، انتشر اسمي في المقاهي والمضافات، استدعاني مسؤولٌ كبيرٌ، وربت على كتفي، قال لي: أنتَ مكسبٌ كبير لنا، هذه  ال ” نا” أسعدتني، يا أبي! أتذكرها دائما كلما تجولتُ بالسَّيارة السَّوداء بلوحتها المميزة، لم أعدْ مضطرا للهُتَافِ، كُثُرٌ هم أولئك الذين ينوبون عني في هذه المهمَّة، يكفي أن أشير لهم بأصبعي أو أحرك نظارتي قليلا، تحولتُ إلى مكسب وطني، أصبحتْ ال ” نا ” تشمل بلادا كاملة، وكي أكون صادقا يا أبي الكسبُ كان مُشْتَرَكا، حتى تلك الليلة المشؤومة، التي ابتلعتني فيها ” الغُوَّالة” التي أخبرتني بها، وسحبتني إلى أعماق النهر، كانت تدور وتشدني من ثيابي للأعماق، كان الماء لزجا، كأنَّهُ الخيبةُ، والهواء ثقيلا، كأنَّه تاريخك المضطرب، يا أبي! الرفاق كانوا يوثِّقون أيضا، ولديهم شهودهم أيضا، يبدو أنَّ وقتهم قد حانَ للقفز فوق سور المدينة، فصُورُهُمْ تملأ فضاءها، والأغاني الوطنية تصدح في كلِّ مكان، هذا إرثك يا أبي، أودُّ أن أدفنه إلى جانبك!

توقفت سيارةُ الحكومة عند بوَّابة المقبرة، فترجَّل منها الضَّابط المناوب، وجذب غيثا من جيب ثوبه، آمرا:

انهضْ يا رجل! ماذا تفعلُ في هذه السَّاعة المتأخرة من الليل في المقبرة، وتنتهكُ حُرْمةَ الأمواتِ بنبشِ قبورهم، ألا تخجل؟ّ! دفعه بقوة في حوض السَّيارة الخلفي، وقفل عائدا إلى المركز، كان غيثٌ يريد أن يقول له هذا قبرُ والدي، كنتُ أقرأ عليه الفاتحة، لكنَّه ظنَّ أنَّ ذلك لن يغيِّرَ من الأمر شيئًا، بينما كان سورُ المدينة يرتفعُ، ويرتفعُ، حتى غدا قلعةً تشبه قلعة حلب!

[i] الغُوَّالة: تسمية فراتية للدوامات النمائية التي تكثر في نهر الفرات، ومن تبتلعه يستحيل نجاته؛ فهي تأخذه بحركة دورانية للقاع.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *