المرأة.. حكاية هذا العالم.. قراءة في رواية (جسر عبدون) لقاسم توفيق

*مجدي دعيبس

 

في صفحة العنوان كتب المؤلف (جسر عبدون) وتحته بخط أصغر وبين علامتي تنصيص كتب: أكثر من رواية. ولو شاء لجعل من هذه الرواية روايتين دون عناء يذكر، لكن غرض قاسم توفيق كان أبعد من مجرد روايات تنضمّ لذيل القائمة الطويلة لديه. كان يبحث عن رواية فسيفسائية برؤية متشابكة تعكس حال التّعقيد الذي تسرّب إلى المشهد الذي نعيشه ونعاينه كل يوم. هي محاولة جادة للإحاطة بما يؤرقنا ويثقل كاهلنا في هذا الزمن المر وهذه الحياة المستعصية على الفهم والإدراك. في صفحة التصدير يقربنا خطوة أخرى من أجواء الرواية عندما يؤكّد على حقيقة بسيطة: أنّنا كلنا خطاة وكلنا أبرياء في الوقت عينه، كتب: (يا قديسة مريم يا أم المسيح صلي لأجلنا نحن الخطاة/ يا قدّيسة مريم يا أم المسيح صلي لأجلنا نحن الأبرياء).

جاءت الرواية في جزئين؛ الأول بعنوان أوطان صغيرة والثاني بعنوان أوطان مهشّمة، وما اختار الكاتب هذه الصفة إلّا ليدلل على تشتت الشخصيّات ومعاناتها وتفتّت دواخلها. وجاء تحت كل جزء عناوين فرعيّة تعطي القارئ تلميحا وأحيانًا تصريحًا بما يلي من سرد وأحداث. كان السارد العليم مسيطرًا على العناوين الفرعية في الرواية الخارجية إن جاز التعبير، بينما كان ضمير المتكلّم من تولّى عملية السرد في الرواية الداخليّة وعلى لسان بطلها أو الشخصية الرئيسة فيها وهو عادل سليمان.

ظلّت شخصيات الرواية على مدار (350) صفحة تعاند أقدارها وتبحث عن طريق للخلاص ومخرج من المأزق التي وجدت نفسها عالقة فيه. شخصيات متشظيّة تحاول لملمة أجزاءها للوقوف في وجه الحياة النكِد. تمرّ بأزمات حادة تزلزل كيانها وتدفعها إلى تخوم بعيدة عن نقطة الاتزان النفسي والاجتماعي، تجدّف ضد تيار ماء لا يرحم، ولا ينظر في وجوه من يقعون فيه لأنهم مجرد أجسام تخضع لقوانين الفيزياء المجردة من المشاعر والأحاسيس.

لنبدأ بعادل سليمان وهو بطل الرواية الداخلية وعنوانها الانحدار والمؤلف هو أحد شخصيات الرواية الخارجية ويدعى رائف الساقي كما سيرد تفصيله لاحقًا؛ عادل سليمان شاب من أسرة ميسورة، اكتفى من التعليم بالمرحلة الاعدادية، أزمته هي الخلاص من تجبّر أبيه والبحث عن حياة جديدة لا يكون الأب أو العائلة أو الماضي كله جزءاً منها. شخصية والده فيها شيء من شخصية السيد أحمد عبد الجواد بطل ثلاثية نجيب محفوظ؛ تاجر ثري، بخيل متسلّط وقاسي على أبنائه وأهل بيته وفيه شيء من التناقض. يقول عادل: بعض الآباء لا يعرفون كيف يعبّرون عن حبّهم، قد يكون أبي واحدًا منهم، لكن من أين جاء بكل هذه القوّة وكل هذه القسوة ليعبّر عن كراهيته؟ يقول عادل أيضًا في وصف أبيه: متعته الحقيقية زيادة ثروته وتعذيبنا. كان يجلدنا بحزامه العريض بذنب أو دون ذنب حتى يدمي أجسادنا، ولا يعرف أنه كان يدمي نفوسنا أكثر. أم عادل أيضًا فيها شيء من أمينة زوجة أحمد عبد الجواد؛ مستسلمة وخاضعة لجبروت زوجها ورغباته وليس لها كلمة أو رأي مسموع في المنزل. يخرج عادل من البيت أو على وجه أدق يُطرد منه، بعد أن يكون قد سرق من مال أبيه على مدار سنوات ما يكفي لتدبير أمور سفره وإقامته في القاهرة لحين صدور فيزا البلد الخليجي الذي قرّر أن يعيش ويعمل فيه واسمه الدّفّة. لكن لماذا لم يستخدم الكاتب اسم حقيقي بدل هذا المتخيّل؟ ربما لأنّ الخليج يمثّل وحدة عضوية بالتاريخ والثقافة والعادات والتّقاليد وأنّ الكُل في هذه الحالة يعبّر عن الجزء. خلال رحلة حياة عادل ابتداءً من الليلة التي قضاها في وسط البلد حتى أُبعد أو رُحّل عن الدفة قسرًا، يفرد الكاتب أمامنا قضايا وصور كثيرة من خلال الاحداث التي تتوالى بسرعة، منها على سبيل المثال لا الحصر صورة الذين ينامون على أسرّة من الكرتون في عمان؛ يبسطونها على الأرصفة وفي ساحات المساجد، يتوسدون الجوع ويلتحفون التعب والشقاء الذي هدّ حيلهم طوال النهار. وأيضًا هناك علاقة العاملين في الخليج بالكفيل التي هي أبعد ما تكون عن علاقة الند بالند، بل علاقة السيّد بالخادم إلًا ما رحم ربّي. يقول عادل: نظرات الموظف الذي ختم جواز السفر في المطار كان يملؤها الشك أو الكراهية لأنّه يحمل في رأسه فكرة أنني قادم لأسرق خير النفط الذي جعل من صحرائه وطنًا. لم يفكّر في أنّ مجيئي جعل حياته أسهل، عندما صرت خادمًا وعبدًا في بلده، وأنّ كلّ ما سأقوم به سيكون لخيره، إن كنست الشوارع التي يسير فيها، أو صرت عامل بناء لبيت يسكنه، أو عندما أغسل الصحون الوسخة التي يخلّفها وراءه عندما يأكل، أو أنظف مخلّفاته وزبالته.

يعمل عادل في تنظيف الحمامات في مطعم، ثم يدخل السجن لجريمة لم يرتكبها. يخرج بعد ستة أشهر ليعمل كوافير ستاتي ومديرًا لمركز تجميل قبل أن يبيع نفسه للشيطان ويعمل قوادًا وموزع مخدرات، وهنا يعود ما ورد في صفحة التصدير إلى أذهاننا: كلنا أبرياء وكلنا خطاة. سأترك لكم المجال مفتوحًا لاكتشاف ما حدث وكيف حدث عندما تقرأون الرواية وسأصل إلى ما يهمّني مباشرة. يقول عادل: لطالما تسألتُ: كيف يتنامى الحقد في الناس بسرعة صاروخيّة، في حين أنّ الحب لا ينمو فيهم إلّا بصعوبة وبطء وتثاقل كما هو حال مع أبي؟ لا أريد أنّ أصدق أنّ الحقد يولد معنا؛ لأنّه إن كان كذلك فالحب يجب أن يولد معنا أيضًا، القضية غير ذلك. إنّها عملية منظمة تمارس منذ بداية تشكلنا لغرس بذور الكراهية بيننا وإخماد أنفاس المحبة فينا. لن يحكمنا أحد ويسلبنا حريتنا إلا عندما ينجح في زرع الكراهية فينا. ومن دون ذلك سيبقى عاجزًا عن السيطرة علينا والتحكم بنا، وتدجيننا لنصبح عبيدًا راضين قانعين، وكلما زاد جهلنا صرنا فرحين أكثر بعبوديتنا. مؤامرة عمرها آلاف السنين تحاك ضد أنسنة الإنسان، سلاحها الأسطورة والفلسفة والدين والعولمة، ولا تألو أن تزداد حدة كل يوم.

نوح العكاوي ابن آدم العكاوي صاحب مطبعة العكاوي ولد وعاش في عمان لكن ذكرياته التي لم يعشها في فلسطين ظلت تلاعب خياله. حرب 67 شكّلت جرحًا غائرًا في وجدانه. يسافر للدراسة في إيطاليا لكنه يتركها في السنة الثالثة ويتوجه لنصرة بيروت عام 1982. يصل متأخرًا ويظل هناك بعد نهاية الحرب ويعمل نادلًا في أحد المطاعم. يخطط للزواج من أجنبية لكن القدر يقذف إليه بفلك الفتاة الأردنية المنحدرة من عائلة ليبرالية. يقع بحبها ويتزوجها ويعود بها إلى عمّان. أزمة نوح العكّاوي هي البحث عن وطن يشعر فيه أنّه مواطن من الدرجة الأولى وليس الثانية أو الثالثة. ولعل العنوانين المشار إليهما سابقًا (أوطان صغيرة وأوطان مهشّمة) تشيران إلى تجربة نوح بطريقة أو بأخرى. أوطان صغيرة هنا وهناك وعندما وجد هذا الوطن أخيرًا في زوجته فلك، ماتت سريعًا وتركته على قارعة الحياة مهشّمًا يعاند الذكرى. يقول نوح وهو يتأمل حياته في مدينة بيروجيا في إيطاليا: لماذا هي الحياة سهلة؟ ولماذا الناس طيبون؟ ولماذا الأرض أجمل؟ وكانت الإجابة التي اهتدى إليها بعد سفر كثير: لأنّ الناس يريدونها كذلك.

نقرأ تحت عنوان (نوح والهويّة) ما آل إليه حال الأمة بعد هزيمة حزيران: صاروا يعدّون أنفسهم ويعدّون الناس لساعة القيامة، كثرت الدعوات للرجوع إلى الله بالموعظة والكلمة الحسنة، والترغيب في الآخرة الصالحة والجنّات التي تجري من تحتها الأنهار. ولمّا رأوا أنّ هناك بشرًا لم تعجبهم تلك الكلمة الحسنة، انفجروا كنبت شيطاني، فقرّروا أنّ لا سبيل لهدايتهم وفرض الجنة عليهم إلا بالإكراه والجبر والترهيب شاؤوا أن يؤمنوا أم أبوا. اشتعلت الحروب والفتن، وانقسمت الأمّة وأضحى الذبح والسّبي والتكفير حكمًا إلهيًّا يفرضه معتوه أو مجرم على الأرض.

رائف الساقي الشاب الذي اهتزّ من الداخل ولم يعد يحتمل الاكتئاب والسوداوية التي سيطرت على مشاعره. ينتمي لأسرة متماسكة وهو الأصغر بين أشقائه وشقيقاته. الأب يعيل العائلة من عمله في مدرسة خاصة بينما تعمل الأم في مدرسة حكومية. يموت الأب بشكل مأساوي ويترك العائلة برعاية الأم التي تقوم بواجباتها على أكمل وجه. أزمة رائف هي البحث عن السلام الداخلي الذي لم يجده في حب سارة ولا في عطف أمه ولا في كتابة الرواية التي ظن أنها ستعينه على تجاوز المرحلة، لكنه وقف على جسر عبدون في المشهد الختامي ونثر أوراقها فتطايرت في الهواء حتى حطّت على الارض وسط دهشة الجميع، وكأنه يلقي عبئًا ثقيلًا أتعبه لسنوات طويلة. لماذا لم ينتحر رائف مع أنّه كان مؤهلًا للإقدام على هذه الخطوة برأيي، بعد أن عزل نفسه في غرفته لأكثر من سنتين؟ ربّما كان الجواب فيما قاله لشقيقته نداء ذات مرة: أنا لم أستسلم للعيش إلا من أجلكم، ما زلت حيًّا من أجل حياتكم وليس حياتي، آه يا أختي الغالية.. لو تعرفين مدى الشقاء الذي أنا فيه لقتلتني بيدك كي أستريح.

أزمة أودري والبحث في قضية اختفاء أو مقتل أبيها العالم محمد جبران في أمريكا. يترك الكاتب الباب مواربًا على الاحتمالات التي ساقها ولم يبتّ في أي منها. عالم فيروسات عرف أن أحد مراكز البحث في أمريكا يقوم بتطوير فايروس مميت لجنس البشر. وصلت إليه هذه المعلومة بالخطأ فدفع حياته ثمنًا لهذا الوصول الخاطئ. وقالوا أيضًا إنّه التحق بداعش في سورية وقالوا غير ذلك لكن يبقى الاحتمال الأول هو الأقرب إلى الصحيح. ظلّت أودري مشغولة بقضية اختفاء أبيها حتّى انقطعت أخبارها عن صديقتها سارة وعادت إلى أمريكا. المفارقة أنّ أودري تتعرف لاحقًا على بيدرو في أمريكا، وفي ليلة الدخلة يجدها عذراء فتبدأ بتبرير هذا الامر المستهجن قياسًا على ثقافة ذلك البلد. مرة أخرى ثقافات متباينة تنظر إلى الشيء عينه بزوايا مختلفة تمامًا، ولا يبقى أمامنا سوى التسامح وقبول الآخر حتى نتفادى التصادم الذي لن يفضي سوى للبغض والاقتتال. ليس مطلوبأ أن نحب الآخر لكن أن نقبل اختلافه ونحترمه.

وعند التطرق إلى الأزمات الأقل حدّة نصل إلى أزمة سلافة المرأة متواضعة الجمال وعقدة الأب الذي هجر العائلة وتزوج من أخرى. أزمة يوسف أبو مطر صديق نوح وعبثية النضال السياسي. سلاسل تثقل كاهل الشخصيّات وتضيّق عليها ولا تمنحها فرصة للعيش والانطلاق في الحياة كما يجب أن تكون، خاصة عندما ترى الاختلال في كل شيء حولها.

لو تأملنا حضور المرأة في الرواية مقارنة بحضور الرجل لوجدناها نقطة اشعاع وعنصر بناء وأمل وتحدّي. فلك هذه المرأة التي تضجّ بالحياة والأمل والفرح والحرية، وجد فيها نوح المأزوم ملاذه الأخير. ترك أباه وأمّه والمدينة التي نشأ فيها وضرب في بلاد الله الواسعة باحثًا عن وطن. تزوجها في بيروت وعاد إلى عمان ليجد أمّه قد ماتت. أصبح يدير مطبعة أبيه التي تحوّلت بعد حين إلى دار نشر محترمة.

سلافة التي صارعت الظروف الصعبة التي حاصرتها من كل اتجاه، قاومت ووقفت على قدميها لتعلن انتصارها المدوّي على الحياة بالجد والاجتهاد والصبر، بينما كانت شخصية أبيها سلبيّة ومنهزمة؛ هجر العائلة عند أول فرصة وترك أطفاله ليجوعوا وترك زوجته في دوّامة لا تنتهي تسأل نفسها السؤال عينه آلاف المرات: لماذا فعل ما فعل؟ حتى عندما عرض نوح عليها الزواج، رفضت سلافة وقالت: لأنني أحبك لا أريد أن تصبح شيئًا آخر في حياتي. وهذا نوع من التضحية وإيثار الآخرين على النفس.

سارة التي وقفت إلى جانب حبيبها رائف ولم تتخلّ عنه رغم معرفتها باضطرابه النفسي. قدمت كل شيء حتى تحافظ عليه، قدمت جسدها دون زواج وقدمت وقتها وروحها وأعصابها، لكنّه لم يقدر كل هذا. ربما بسبب وضعه النفسي، وربما لأن الرجل كائن أناني بامتياز؛ موهوب بالأخذ وفاشل جدًا بالعطاء. وربّما كانت فطرة المرأة العطاء وفطرة الرجل الأخذ.. ربما..

وصال أم رائف ونداء أخته وأم أودري كلها نماذج تدور في فلك العائلة ومستعدة لفعل أي شيء لحماية الابن أو الأخ أو الابنة. تحاول ترميم ما أتى عليه الزمن دون انتظار أي مقابل. حتى الشخصيات النسوية الثانوية مثل المرأة الإيطالية التي التقاها نوح في رحلته أو الروائية التي تسعى لنشر أول رواية لها تمتّعتا بشخصية واضحة ورأي بالحياة ولم تكونا من النماذج العشوائية المتخبطة. لم يشذّ عن هذا النهج سوى شخصية أم عادل وهي شخصية هامشية جاءت فقط لتجذّر صورة الأب المتجبّر. ما أريد أن أخلص إليه هنا هو أن (جسر عبدون) رواية المرأة بامتياز، تحاول بكل ما أُتيتْ من قوة أن تعيد التوازن إلى هذا الكون المتأرجح على خيط دقيق. المرأة وكما جاء في عنوان الورقة هي حكاية هذا العالم من شهرازاد التي فكّت عقدة شهريار الملك وصولًا إلى فلك وسارة وسلافة، والقافلة ما زالت تتوالى حتّى هذه اللحظة.

سلاسة السرد كانت أمرًا لافتًا وكأنّ اللغة مادة شفّافة تندغم في الحدث والوصف والحوار دون أن يشعر بها القارئ، الأمر الذي ينعكس إيجابًا على سرعة الجريان والتدفق وخاصة أنّها رواية طويلة نوعًا ما. لغة سردية رصينة فيها لمسات رقيقة وفاتنة، واستخدام ذكي لكلمات وأفعال متنحية، وفيها تجديد للعبارة الروائيّة من خلال خلط العامية، أو ما يُظن أنّه من العامية، بالفصحى فيبدو الحوار قريبا من اللغة اليومية لكنّه لا يبتعد كثيرًا عن معاجم اللغة العربية في الوقت عينه. الوصف أيضًا جاء في مواقف كثيرة مثيرًا للإعجاب وثري لغة ومعرفة، وقد لا يتسع المقام هنا للتمثيل على هذا الكلام وأترك المجال للقارئ لاكتشاف هذا الأمر بنفسه. لن يبتعد كثيرًا حتى يصل إلى عبارة مثل: قال مفزعًا طائر الصمت الذي نفض جناحيه بسرعة وطار.

النواحي المعرفية أصبحت من سمات السرد الحديث أو الرواية الحديثة وجاءت الرواية زاخرة بالمعرفة على هذا الصعيد سواء تاريخيًّا أو جغرافيًّا أو اجتماعيًّا أو ثقافيًّا، ولا يفوتني هنا ذكر ما ورد عن نملة السمسوم في الخليج من استنشاق رائحة احتراقها كبديل للهيروين. ولا أنسى هنا أيضًا التأكيد على أن العبارات التّأمّليّة ظلت تتراقص أمام القارئ كلما أفلت من طرافة الحدث ليتوقف قليلًا حتى يستوعب ما قرأ ويتدبره.

لم تغفل الرواية التعرض لموضوع النشر في الوطن العربي على أساس أن أحد الشخصيات الرئيسة صاحب دار نشر وهو نوح العكاوي. ورد تحت الفصل المعنون بـ (الرواية الأخيرة): سلافة تعرف أنّ الكتّاب مصابون بلعنة النشر، وأنّهم مستعدون لبيع ملابسهم نظير رؤيتهم لكتبهم معروضة في كشك كتب، أو في أحد المعارض. ما تعرفه هذه السيدة أو ما تعلّمته أنّ الكاتب العربي غائب دائمًا حتى وإن حضر، وأنّ هناك قطيعة مفزعة بينه وبين المواطن، وفي هذه القطيعة فرصة كبيرة للناشرين كي يثروا. اللعنة التي تصيب الكتّاب في أحلامهم يتقن الناشرون استغلالها، فيتقاضون كلفة الطباعة منهم ويجنون من البيع مهما كان ضئيلًا ما يجعلهم مرتاحين. القضية الأخرى التي أشارت إليها الرواية أن جودة العمل ليس دائمًا الفيصل في موضوع النشر. سلافة القارئة المحنّكة ظلّت تبحث عن ثيمة ما في الرواية التي قدّمتها السيدة المترفة حتى تعلّل قبولها رغم اقتناعها أن العمل لا يرقى إلى مستوى الأعمال التي تقبلها الدار، أخيرًا تجد هذه الثيمة التي تمنح الرواية قيمة ما برأيها رغم سذاجة الطرح، وهنا تبرز قضية أخرى وهي التطبيل والتزمير للأعمال الهابطة وتقويل النص ما لا يقول مما يؤدي إلى تردّي ذائقة القارئ بشكل عام. المفارقة هنا أنّ نوح رفض نشر رواية رائف الساقي (الانحدار) وهي عمل مكتمل ومتماسك مما يؤكد حالة التخبط في النشر، وربما تحوّل الأمر إلى مسألة شخصيّة بالنسبة لنوح وظنّ أنه المقصود بسرديّة الرواية.

ظهر في الرواية أيضًا موضوع صراع الثقافات من خلال شخصية العالم محمد جبران الذي خاف على ابنته من الثقافة الأمريكية وفضل أن تبقى قريبة من البيئة التي نشأ هو فيها، لذلك أعادها إلى الأردن لتعيش مع عمّتها عندما بلغت؛ بحجّة أنها ستحوز بهذا على ثقافتين مما يؤهلها لسوق العمل لاحقًا عندما تنهي دراستها الجامعيّة.

في الختام أقول أن جسر عبدون رواية غنيّة وشاسعة، ومن الصعب الإحاطة بالنواحي الجمالية والأسلوبيّة واللغوية والفكريّة والفلسفيّة التي وردت في قراءة واحدة، وإنّما قصدتُ تقديم إضاءات على بعض ما شدّني فيها، وأترك للقارئ كشف رمزية حديقة الموتى، وتحسّس جمالية الأسلوب من التقديم والإرجاء وخلخلة خط الزمن، ورمزيّة عزلة رائف وغيرها الكثير..

  • روائي وناقد أردني

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *