راياتٌ بيضاءُ في سماءِ المدينةِ

( ثقافات )

رايات بيضاء في سماء المدينة –  قصة قصيرة

 * الدكتور موسى رَحُوم عبَّاس

الرِّياض

( 1 )

      في مدينتي النَّائيةِ عن البحرِ والمطاراتِ يعشقونَ الرِّياضةَ، ويروون ظمأهم رُبَّما للانتماء والتعبير عن ذلك، فيرفعون أعلام الأندية التي يشجعونها، ويحتفظون بقمصانها، وبخاصة ذات الأرقام المُخَصَّصة للَّاعبين المُفَضَّلين لديهم، هي طريقتنا في تحدِّي الصَّحراء، وطردنا من جنَّة الحضارة، فحيِّنا مثلا تغلبُ عليه أعلامُ ريال مدريد وبرشلونة، بينما الحيُّ المقابل لنا خلف الأوتوستراد تغلبُ عليه أعلامُ يوفنتوس وبايرن ميونخ، والحقيقة وللإنصاف أنَّ الحكومة تتغاضى عن رفع كلِّ هذه الرَّايات، وتغضُّ البَصَرَ عن أصحابها، مع بعض التَّعليقات عن علاقة بعض اللاعبين بالعدو الصَّهيوني، وزياراتهم المتكررة، وبالرَّغم من كلِّ ذلك، تجد أبناءَ الكثير من المسؤولين يرفعون رايات نواديهم. توقفت سيارة لاندروفر صَّغيرة أمام بوابة بيتنا، ترجَّل منها شابٌّ ثلاثيني لم يستطعْ أن يكون أنيقا رغم حرصه الواضح، سألني:

– هذا بيتك؟

– نعم، أخي ، خيرا إن شاء الله؟

– ما هذا الذي ترفعه فوق السَّطح؟

– هذا علم ريال مدريد، وضعه أبنائي، هل من مشكلة؟

أمسكَ بيدي مبتعدا بي عن مدخل المنزل، وأشار بيده إلى هوائي التِّلفزيون قائلا: هذا هو الأمر، لماذا تجعله متجها إلى الشَّرق؟ حاولتُ الردَّ، وأن لا شيء في ذلك، لكنه حسم الأمر فهو في عَجَلةٍ من أمره على ما يبدو، وهدَّدَ بأنَّه في المرَّة القادمة لن يتسامحَ معي!

كيف أخبره أنَّنا نُحِبُّ الفنَّ العراقي، وقلوبنا تذوب حُزنا وولَهًا له، نعشقُ داخل حسن وزهور حسين وناظم الغزالي وسعدون جابر وياس خضر ورضا الخياط …   وفي كلِّ مرَّة كُنَّا ندَّعي أنَّ العاصفةَ هي من غيَّرت اتجاهَ الهوائيِّ، وفي السَّهرة يطوف علينا العراقُ بمقاماته وأبوذياته وإيقاعاته، وبخاصَّة عندما يكون البثُّ صافيًا، ولا شيء غير هذا.

( 2 )

 نعم، هذا هو المقاسُ المطلوب، والكانْفِس من النَّوع الجيِّد، وحتى الألوان هي الأصلية والأجود في السُّوق. وضعتُ كلَّ هذه المواد في حقيبة كبيرة، وانطلقتُ إليها. كانت تنتظرني في المدخل، قادتني عبر الممرِّ الضَّيق إلى صالة الاستقبال حيث الكثير من الزهور الغريبة والمتسلِّقات الخضراء. كُنْتُ متوترًا قليلا، رُبَّما كنتُ أتوقعُ غير هذا: لباسها المحتشم، ثقافتها العالية، معرفتها الدَّقيقة بتاريخ الفنِّ، والبُورتريه بالذَّات. كلُّ ذلك أشعرني أنِّي في ورطة! كيف لي أن أرسمَ لها بُورتريه يعجبها؟

ضبطتني وأنا مندهشٌ بالصُّور التي تغطِّي الجدارَ المُقابل لي، ومن دون مقدِّمات، قالت، “هذا زوجي الذي استشهد بعد سقوط طائرته في الأجواء اللبنانية في أثناء صدِّه للطائرات الإسرائيلية، وهذا أخي المعتقل … يمكنك أن تبدأ بالعمل الآن.” شعرتُ بالرَّاحة، وانطلقتُ لترتيب المواد واللَّوحة. سألتها من غير وعي عن الرَّاية البيضاء ذات الدَّائرة الحمراء الصَّغيرة التي وجدتها بجانب المكتب. لا أعرفُ ناديًا له مثل هذه الرَّاية! ابتسمتْ بخُبْثٍ وقالتْ، “لقد أخبروني أنَّك مثقفٌ. خذلتني، أيها الفنَّان!” التزمتُ الصَّمت. تابعتْ حديثَها، “كانت العربُ قديمًا تُلْزِمُ العَاهِرة أن ترفعَ راية بيضاء على خِبائها، تمييزا لها عن غيرها.” حاولتُ الاعتراضَ، استمرَّتْ في بوحها، “وهؤلاء الملثَّمون والآخرون ذوو السِّحنات الغريبة وغيرهم وغيرهم، وكلُّ تلك الدِّماء التي جرتْ بين الإخوة، هل أبقت لهم شرفا؟ لقد أعددتُ لهم هذه الرَّاية التي تليق بمكاتبهم التي تكاثرت كالفطر في شوارعنا.” أكملتُ اللوحةَ بأصابعَ مُرتجفةٍ، وفي طريق العودةِ إلى بيتي، خيِّل إليَّ أنني أرى الرَّاياتِ البيضاءِ تخفق في سماءِ المدينة.

 

  • أديب وأكاديمي سوري

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *