سرديات ” زِرّ وسط القميص ” لـِ صالح حمدوني

(ثقافات)

سرديات ” زِرّ وسط القميص ” لـِ صالح حمدوني


محمد العمري – شاعر أردني

 

لا أزرق في هذا المدى لأُعطيكَ بحراً .. العين بصيرة لكن يدي أقصر من أن تطال السماء وتَحيك من سديمها عباءة أو مراثي . أنت أيضا لا نهر في يديك ليخضرّ الندى ، ولم تترك نبيذاً على الطاولة حصّة للندامى . حالي هنا كالكيميائي إذ يأخذ قطرةً من البحر للدلالة على الماء كلّه . إذ لا يمكنني على أقصى تقدير دراسة زرّ الوسط هذا ، استدارته ، ثقوبه المعدّة لخيط طويل من الذكريات ، لونه الذي يتجانس مع كل طيف ، حيث الإحاطة بالقميص تبدو مهمّة عسيرة وغاية في الثقل ، فما بالك بالحشوة كلها.
منذ ” تعالَ .. ولا تأتِ ”  يتراشق السرد حجارته ، وروده ، وحيناً قنابله المحرّمة فينتعل هذيانه وصراخه الناشز في وجه الحياة . هكذا يتدحرج الكلام بين امرأة تلوّح بشالها في طرف المخيم ، وفنجان قهوة في مقهى النوفرة في دمشق ، ثم فجأة ينهمر الثلج خلف قضبان السجن في ” باب الهوى ” . لا صباح إذن بغير فيروز والقهوة وهي تركض كالسراب ، وهو يرحل ولا يعود.  في لحظة ما يدور الكلام عادياً ، مؤرقاً وموجعاً . كلام من النوع الذي يتبادله عاشقان في لحظة وداع ، أو كخطاب فوضويّ عن الحياة بين صديقين عن بعد . لغة محكيّة تفيض رقّة وبربرية ، وفي ذروتها تمتد يد لتكسر زجاج نافذة تطل على الشارع ، وتأخذ باللغة من قرنيها وتجرها إلى أفق المعنى وفخامة التركيب ، فينساب نهر من القصائد والحواديت .

أعرف عدسة هذا الحمدوني قبل أن أرهف السمع إلى قلمه . كامناً في كل زاوية يتصيّد مشهداً فوتوغرافياً : قفل صَدِء على باب في المخيم ، وردة يتيمة في جبال عجلون ، طفل يظهر لون ملابسه الداخلية عبر ثقوب بنطاله ، ولهذا لا يعدو غريباً أن يمتد التصوير والتفاصيل الدقيقة للمشهد إلى سردياته . كقارئ يمكنك أن تتلمس الزاوية التي وقف فيها ليوثّق المعنى.  دعني أضرب مثلا من نصّ “باب الهوى” ، فرغم التوشيحات العامة لحياة السجن ، يومياته التي تغرق في الرتابة والانكسار ،  يأخذك السرد لتشكيل مخيال فاتن حول طبيعتها . صورة مفتوحة على الجدار بأكمله ، تفيض عن إطارها وتتدحرج خارج القضبان . ومن الأنجح لفهم هذا البعد التصويري أن يُقدم القارىء على خدش أناقته ، بارتكاب جريمة تضعه خلف القضبان ، ولو لمرة واحدة على الأقل ، وهذه نصيحة مجانية.
أذكر هنا “الحياة عبر ثقوب الخزان” و “القط الذي علّمني الطيران ” لهاشم غرايبة ، لكن من الغبن المقاربة بينهما ، فتفاصيل الروائي غير تلك التي يضعها السارد ، فلا سبيل هنا للمصافحة بين هذا وذاك . أعني أننا لسنا بصدد سرد روائي أو قصصي ، وإنما هو همّ مفتوح على الذات والآخر .

ولكن مهلاً  !! ، ماذا عنها؟ تلك التي تأخذ بناصية الكلام من أوّله ، المرأة التي تنسلّ في كل نصّ دون أن يلحظها أحد  ” حتى أنين طاولتك الصغيرة  .. حتى غربة ركنها القصيّ ” ، وهو هو ” زاحفا مثل نعناع وحشي ” من تل إربد إلى قاسيون .

كثيرات في سرد الحمدوني وكلهن واحدة .. مِنْ تلك التي ” جنّن سمانا ” بزرّ قميصها إلى دمشق ، الأنثى التي تقطر فرحاً وذكريات ، إلى امرأة تَدْعَك المخيم بكامل فتنتها..  ولا أخفي سراً فثمة امرأة من حنين وذكريات تطلّ من بين السطور ، تلك التي يحاولها الكلام دون تكلّف أو صنعة.
أصدقّك تماماً أيها الحمدوني ” الجرائد من صفحاتها الأولى تكذب ” .. ” وطني يخدعني”  ، كما أن ” عرّافات المخيم كُنّ يفضحن الحلم ” ” وقُصّيب الغرفة سرق رائحة القهوة وأغاني الفدائيين ” .

أتفق مع صالح كثيراً في تلك التعريفات التي عرّج عليها في فضاء السرد ، وأنا مثله تماماً ” يراودني إحساس بأن كل شيء مبرمج “، ” القهوة بألوان العرس ، البرد شكل الحزن ، الذكريات حبل مشنقة ، المطر غائب مفعم بالرقص ، الرمل وشوشة الماء وتردد عاشق ، العقل مدفن بارد ، والخطيئة أن تطلب المغفرة “.  هكذا قطعة قطعة ، كمن يحاول أن يقول كل شيء دفعة واحدة ، منذ فنحان القهوة الصباحي حتى الله ، لكأن الأرض بين يديه نُعاس ينهره الصحو .
ألم أقُل أنّ هناك قصيدة تؤدي إليك ، ألم نتفق على أن زاوية الرؤية هي ما يمنح المشهد فكرته وينثر تفاحه فوق الماء ، وناديتَ إذ ” ناديت .. وكان الله يقترب ” .

 ” أحبك يا شغف الروح وشهوتها .. اصعد مراكبي يا تاج دمشق .. يا راعي الغزالات والروح..”  كأني به يصعد برج الغزالات ويُصبّحهن بالخير طابقاً طابقاً ، فجأة جذبته واحدة من رجيله وقبّلته … أعدم عمري إن لم يكونا عاشقين . تقول سيدة تعبر الأربعين وهي تتكئ على سور الحكاية . ربما احتكاك نجمتين ليس إلا .. شيئ مثل حفيف الغابة ، أو اختلاف السنابل على سيرة القمح  .

بعيداً عن فكرة نصّ على نصّ ، تلك التي رقصنا حولها قليلا ، فما الخط السريّ الذي يربط سرديّات الحمدوني ببعضها؟ كيف يمكنني كقارىء أن أصل بين فكرتين بخط مستقيم ؟ . قد يبدو لوهلة أن مجمل هذا السرد يتناوب سيرة ذاتية ، شيئاً مثل دفتر اليوميات ، إذ يمكن أن نلحظ تفاصيل اليوم ، وأحياناً تفاصيل الحالة . لكني أميل للقول بأنه وجع متلاحق وانكسار إثر قنبلة موقوتة ، كحزن داخلي يطلّ على الحياة بخطى واثقة . غربة الذات تلك التي تضيق وتتّسع ، تألف الآخر وتتآلف مع المكان .. تتفلّت من زمنها ثم تعود لتلهث خلفه … وحكاية وطن وربما لَعْنَته . يندلق سؤال مفخّخ هنا ، هل يمكن أن يكون لهذه السرديات نمط أو خطّ روائي ؟ أحسب أني قد ألمحت لمثل هذا في مقاربة سابقة ، وربما يمكن القـول هنا كإشارة إلى أنّ سرديات الحمدوني وإن كانت تمتلك تكنيكا روائياً ولغة تقارب لغة الراوي ، لكن محاولة الإيقاع بها في شبك الحكائين موبوءة بالفشل.  فاللغة إيحائية متـنمرة تطرح نفسها كحامل للحدث العادي والطارىء . لغة يمكنها أن تقود النص إلى  حيث تريد دون أن يشعر بها أحد ، كأنما هي حديث عفوي دون إعداد مسبق  .

على هذا النول يمكننا الغزْل بخيوط السرد هذه ، مرة كلحظة تجلّ وجداني مُغرق في الذات مطلّ على الآخر ومرّة في خبايا الأمكنة ، وتارة في تراشق ماتع للحوار بين أمنيتين.. لا بأس إذن ، فمحاولة دراسة ” زر وسط القميص ” لن تكون ناضجة بما يكفي ، فقد أخذتنا لما هو أبعد من محيطها ، فثمّة ياقة وأكمام وأزرار أخرى يكاد زر الوسط يضبطها جميعاً ، لتشمل نسقا باذخاً وحالة متفردة كصوت أدبي لا يشبه غيره ولا يتقاطع معه.. وعليه فلديّ اعتراف بأن مجموعة صالح حمدوني “زر وسط القميص ” تحتاج دراسة مستفيضة وفاحصة على يد متخصص، وليس قارئا ضئيلا كحالي ، أكثر قدرة على الغوص في خلال النص وتشعباته . هكذا انقطع زر وسط القميص وترك العروة مفتوحة عن آخرها.أعلى الندم

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *