أهمية النقد في كتاب “على قيد الضحكة الأبدية – محمود عيسى موسى روائيا”

(ثقافات)

                                                                                                                  أهمية النقد في كتاب صالح حمدوني

“على قيد الضحكة الأبدية – محمود عيسى موسى روائيا”

*رائد الحواري

هذه المرة الأولى التي أقرأ فيها كتابا نقديا بهذا التشكيل والتنوع ، فهناك ما يقارب خمسون مداخلة نقدية تتحدث عن أعمال “محمود عيسى موسى” الروائية : “حنتش بنتش ، أسطورة ليلو وحتن ، مكاتيب النارنج ، بيضة العقرب ، الشمبر ، حبيبتي السلحفاة ” منها ما جاء متقارب في الطرح ومنها المختلف ، وهذا يعود إلى تباين المدارس والمناهج والرؤى عند النقاد واختلاف مشاربهم المعرفية والنقدية ، وأيضا نجدها متباينة في الحجم ، منها ما تجاوز الخمس عشرة صفحة ، ومنها ما جاء في بضع صفحات .

ورغم أن الكتاب كبير ـ يقترب من الخمسمائة صفحة – إلا أن تناوله سهل وممتع، وذلك بسبب أن الكتاب لم يكتب بشكل أكاديمي (ناشف) ، وهذا منحه حرية أدبية ما كانت لتكون في الدراسات النقدية المُحكمة ، فالمداخلات هي انطباع (حر) ، لم تلتزم بالقيود الصارمة التي تستوجب الأخذ بها في المنهج النقدي .

يظهر في الكتاب الجهد الكبير الذي بذله الكاتب صالح حمدوني لإنجازه باحثاً عن القراءات النقدية ومحرراً لفصوله ، حيث تمتدّ المساحة الزمنية التي تناولها الباحث أزيد من خمس وعشرين سنة ، هي زمن تجربة الروائي .

وإذا ما توقفنا عند المداخلات سنجد أن بعضها غاص في العمق ، ومنها ما جاء سريعا خاطفا لكنه أشار إلى المكامن الأساسية في العمل الروائي ، فهناك اجماع على العلاقة الحميمية بين السارد والمكان . يقول الشاعر المرحوم عبد الله رضوان في مداخلته عن رواية “حنتش ينتش” : “…تماهى الصوفي مع المكان ليندغما معا في إيقاع مشترك ، ولتظل دمشق موئلا وملاذا حتى في سكرها ودوخانها” ص53 ، ويؤكد “منصور وهيب العمري” على مكانة المكان في “حنتش بنتش” مقتبسا هذا المقطع من الرواية : ” كنا نمضي إلى القرية الجالسة على تلتها نرقب منذ خيط الصباح وحتى الخيط التالي السهول الشمالية لإربد وهي تموج كلما هبت ريح من الغرب وكلما خفت حركة الريح تعود إربد لتلتزم بسكونها سكون العراء وتلتزم بلطافة تربتها الحمراء البنية … إنها أرضك يا أرابيلا ، هيا مدّي ذراعك الأيمن كي نسمع خفق السهول ، وهات ذراعك اليسرى لتضم راحة يدك خصلة من الخصول السابلة على الوجه.. أولادك الجدد من زوجك الكنعاني ينتشون فيك ، فكوني أمهم الرؤوم ، ها هم يستيقظون بعدما سلبهم النوم على ركبتيك أو تحت إبطك” ص101، أجزم أن مثل هذا الاقتباس لم يأت إلا بعد أن تمعن الناقد فيه ، فاختاره لما فيه من حياة ترتقي لتكون متماثله مع الإنسان .

وأيضا نجد توافق على دور اللغة المحكية في اعطاء الرواية صبغة خاصة تميزها عن أعمال أخرين ، حتى أن الشاعر “عمر شبانة” فكّك الاسم الشعبي لبطل الرواية “الساهي” بطريقة استثنائية : “البطل الأساسي ، بل الوحيد في الرواية…يحيل إلى المثل الشعبي ياما تحت السواهي دواهي ، وفي هذا الاختيار ما فيه من الدلالات التي تجعلنا نتوقع الكثير من الدواهي التي ينطوي عليها هذا الساهي” ص72، فرغم أن مداخلة الشاعر جاءت مقتضبة ، خمس صفحات ، إلا أنه الوحيد الذي تحدث عن رمزية “الساهي” وعلاقته بالمثل الشعبي ، وهذا يفتح آفاقا أوسع أمام المتلقي ليأخذ الرواية إلى أبعاد آخرى ، تتجاوز ما تظهره على السطح .

أما رواية “أسطورة ليلو وحتن” فهي الرواية الأقل حظا من المداخلات ، أربع مداخلات فقط ، وبعدد ثلاثين صفحة ، وقد توافق النقاد على رمزية الرواية ، تقول الشاعرة “منيرة القهوجي” : “كشفت الرواية زيف إدعاء المحتل بحقّه في الأرض الفلسطينية ، وكيف كانت على مر العصور أرضا عربية ، جزءا من ذلك الجسد العربي… ليلو هي الأرض العربية وحتن هو الإنسان العربي الفلسطيني” ص113، وأكد المرحوم “نمر حجاب” على هذه الرمزية بقوله : “ولعل محمود عيسى في روايته هذه ينحو منحى دراميا وانفجاريا بحثا عن الهوية الوطنية بشكل ترميزي، متخذا الأسطورة للتعبير عن هذا الترميز” ص119.

وما جاء عن رواية “مكاتيب الناريج” فهناك شبه اجماع على أن شكل الرواية يعدّ استثنائيا لما فيه من (إشكالية)، يقول “عبد الرحيم مراشدة” : “إن هذا العمل الذي يحمل عنوانا له “مكاتيب الناريج” موزع على لوحات لا تسميات لها ، وإنما هي مرقمة ، ثم أن غالبية هذه اللوحات تشي بشكل الرسالة أو جزء من رسالة… إن القول بأن هذا العمل رواية يبقى مشوبا بالحذر” ص152و153، ويقول صالح حمدوني عن الرواية في مداخلته : “….فتتحول المكاتيب إلى مونولوجات درامية تضيء من شفافية النص، وتلفت الانتباه باستمرار إلى الكاتب أو الراوي ـ وراء النص ـ مانحة إياه سلطته اللذيذة على القارئ” ص178و179.

أما رواية “بيضة العقرب ، السيرة السرطانية” فقد أخذت أكبر عدد من المداخلات ، لإثني عشر ناقدا ، وبما يزيد عن المائة صفحة ، فرغم أنها تتحدث عن تجربة السارد الشخصية وهو يتعالج من مرض السرطان ، إلا أنه حمّلها بعدا إنسانيا ، قوميا ، وطنيا . يقول “سليمان الأزرعي” : “المحور الأساسي الذي يشتغل عليه محمود عيسى موسى هو سرطان مزدوج ، سرطان احتل جسده وحمل معه تبعات العلاج الفادحة والعينية ، وسرطان احتل روحه وروح شعبه وهو المتمثل في السرطان الصهيوني الذي احتل فلسطين وشرد أهلها” ص236، وقد أجمع النقاد على أن كتابة هذه الرواية جاءت لتؤكد على أن فعل الكتابة هو فعل حياة ، وأن الكاتب استخدم الكتابة كعلاج لمرضه بالسرطان . يقول “يحيى عبابنة” في مداخلته : “وكان هاشم عرابية أول من طلب إليه الكتابة وسيلة لمقاومة و ردع المرض” ص247، وهذا ما قالته أيضا “فاطمة القرعان” في مداخلتها : “…فإن محمود عيسى موسى كان موقنا أن الكتابة شكل من أشكال الحياة والمقاومة والصمود في وجه أخطر الأمراض ، فشرع في تدوين سيرته المرضية” ص286.

أما رواية “الشمبر” وهي سيرة غيرية ، تتحدث عن “..أزدور أو أسد دورـ وهو أسد المدينة أو الشاعر أسد محمد قاسم ، أحد قادة الحزب الشيوعي الأردني، الذي يرصد الكاتب سيرته الروائية الغيرية” ص299، هذا ما كتبه “نزيه أبو نضال” في مداخلته ، ونوه الشاعر “مهدي نصير” إلى هذا الأمر بقوله : “برزت في الرواية شخصيات إربدية رافقت أسد محمد قاسم كشخصية المهندس ناجح وحمدان والدكتور إبراهيم والشمبر وشخصيات أخرى .

كانت شخصية أزدور شخصية طاغية الحضور سيطرت على مناخات وأجواء وسرد رواية الشمبر كاملة” ص345، وهذا ما جعل هذه الرواية ورواية “اسطورة ليلو وحتن” تبتعد عن شخصية الكاتب “محمود عيسى موسى” فالروايات الأخرى نجده حاضرا فيها وحتى أنه يذكر اسمه كاملا “محمود عيسى موسى” لكن في هاتين الروايتين تناول شخصيات أخرى ، لكنه ينتمي إليها ويعشقها ، وإلا ما كان ليكتب عنها .

أما الرواية الأحدث “حبيبتي السلحفاة” فقد أخذت مساحة نقدية جيدة ، وقد أشار العديد من النقّاد إلى أن هناك ما يميز الرواية وهو : “الجرأة في مواجهة الخوف ، الحلم الذي يكون عقل الطفل ، والواقع الذي يفيض بثقافة الخوف ، السلحفاة هنا بصدفتها وقشرتها الكلسية القاسية تمثل بالنسبة لي كقارئ ومقروء محيط الخوف” ص356، هذا ما قاله “وليد حسني” في مداخلته، وهذا الفهم نجده قريب مما قاله “ناجح الخطيب” عن الرواية : “… وهنا يصبح الاحتماء والصبر مؤنثا ، ففي صفحة 11 “خبأتني السلاحف بين دروعها وصندوقها ، حمتني من ساطورة القابيلي” حتى في فصل “نبي الله”” ص362، إذن فكرة الدروع أخذت حقها من البحث، إضافة إلى النساء اللواتي كن أحد أركان الرواية الرئيسية .

في خاتمة الكتاب هناك مجموعة من الشهادات واللقاءات التي جمعها وأوردها الباحث صالح حمدوني ، وقد كشف “محمود عيسى موسى” الهدف من وراء أعماله الروائية قالا : “…وكنت أبحث في هذه الأعمال عن تفاصيل شعبي الفلسطيني كما كنت أجد تفاصيل حياة الشعوب الأخرى في أعمالهم الأبداعية بشكل حثيث” ص408، اللافت في هذا القول استخدام الكاتب “شعبي الفلسطيني” فهو يؤكد على انتمائه للناس والمكان معا ، وأيضا نجده يحترم ويتأثر بالشعوب الأخرى ، بمعنى أنه وطني وأيضا أممي/إنساني.

فالهم الفلسطيني كان ماثلا أمام ناظيره عندما أقدم على إنجاز أعماله الأدبية : ” كما ذكرت لك ، خامرني هاجس الخوف على تفاصيل هذا الشعب ، فتعاملت معها كما لو أنها (درة) يجب علي أن أسجلها ولا أنس كبيرة ولا صغيرة تتعلق بهؤلاء الناس ، لذلك جاءت أسماء النباتات وأسماء الناس والأمكنة ، والشواهد التاريخية وحتى الألعاب والعادات وما إلى ذلك” ص410.

أما عن طريقة توظيف ما هو (عادي/شعبي) في الرواية فيقول : “لذلك ألحّت علي قضية أساسية مضافة إلى اللغة وإلى اللهجة المحكية ألا وهي تسجيل وتوثيق هذا التاريخ داخل النص الروائي حتى لا يضيع كما ضاعت البلاد متسلحا بالحذر الشديد أن لا أقع في مطب التوثيقية القاسية ، وأن لا أتحول في نصي الروائي إلى باحث فلكوري مهمته الأساسية أن يسجل كل ما هو شعبي بعجره وبجره” ص417.

ويقدمنا أكثر من مفهوم/مهمة/دور/غاية الكتابة بقوله : ” الدافع الأساس متعة الكتابة وسحرها ونشوتها ، الكتابة تسكرني وتبلغ بي مصافا عاليا ، هذا ما حصل معي أثناء كتابة السيرة السرطانية ، سكرها كان ينسيني ألام السرطان وفحش الكيميائي في الخلايا” ص444.

وكما أوضح طريقة تعامله مع المكان قائلا : “…فكان أن اعتمدت على الجغرافيا الحقيقية لأرض فلسطين بلاد الشام وعلى نحت أسماء أبطال الأسطورة نحتا لا يتعلق بشخص واقعي بعينه ، وإنما بشخص هو بمثابة الرمز لهذا الإنسان الذي عاش ردحا طويلا من الزمن على هذه الأرض، واقتلع منها فجأة وعنوة” ص418.

ويضف في موضع آخر : ” المكان الأصلي مغتصب ، المكان غير المغتصب يعني الاستقرار والراحة والأمان ، أنت تولد في الأمكنة تحبو ، تكبر ، تترعرع فيها ، تدخل فيها وتدخل فيك ، تصبح جزءا من خلاياك ونسيجك وبنائك الوجداني والاجتماعي والجمعي” ص447.

هناك مجموعة من الأدباء والنقاد تناولوا ما يخص أعمال “محمود عيسى موسى” ودوره التجديد في بناء الرواية العربية ، وفي خاتمة الكتاب يلخّص الكاتب ” صالح حمدوني” رؤيته لما جاء في كتاب “على قيد الضحكة الأبدية” ، مبينا أهمية تعدد النقاد ، ودروهم في كشف خفايا النص الأدبي ، وتبيان ما فيه من جمالية .

وفي الختام ، أقول أن هذا الكتاب يمكن أن يكون فاتحة يبنى عليها، لتكون هناك دراسات أدبية أخرى متعلقة بتجربة كاتب بعينة ، لأن التعدّد والتنوع في المداخلات والرؤى يخدم الكاتب والنص معا ، من هنا نشكرا الكاتب “صالح حمدوني” على هذا الإنجاز وهذه التجربة ، ولما بذله من مجهود خارق ، وما كان لهذا الكتاب أن يكون حيا دون مجهوده ودوره .

يذكر أن الكتاب من منشورات وزارة الثقافية الفلسطينية ، الطبعة الأولى 2021.

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *