وَصْفةٌ أخرى للفشل

(ثقافات)

وَصْفةٌ أخرى للفشل

قصةٌ قصيرةٌ

الأديب السُّوري موسى رحُوم عبَّاس

  كان الاتصالُ سريعًا، ومُقتضبًا، جملة واحدة، وحسب!

–  تعال حالا، أودُّ الحديث إليك.

– هل حصل لك مكروهٌ؟ طمنِّي عنك!

 كان صوتُ إغلاقِ السَّماعةِ أسرعَ من كلماتي، لم يستغرقِ الأمرُ أكثر من دقيقتين، وكنَّا نجلسُ متقابلينِ في غرفة المكتبة لجاري فايزعاشق الكتاب، هكذا كنا نسمِّيه، لم يحتمل فايزالحسين سخافتي وإهداري لوقته في الأسئلة، وفجَّر القنبلة التي يبدو أنه أزالَ مسمارَ أمانِها منذ مُدَّة ليست باليسيرة، قائلا بهدوء: أنا قرَّرتُ الانتحارَ!! ومدَّ ورقةً طويلةً كتبَ فيها ما استطاع جمعه من العبارات الأخيرة لمنتحرين كتابا وفنانين وشعراء، قرأتُ فيها:

– لم تخترْ ساعة ولادتك، لكنك تستطيع اختيار ساعة موتك!

– الانتحار شجاعة، وليس هروبا من الحياة!

– كن شجاعا، واقذف هذه الحياة بحذائك.

– الحياة عبثٌ، ولعبةٌ سَمجة، لِمَ تتمسك بها؟!

– الحياة لا تُحْتَمَلُ، سامحوني.

قائمة طويلة تضم داليدا، وفرجينيا ولف، ومارلين مونرو، وماياكوفسكي، وتيسير السبول، خليل حاوي … وغيرهم الكثير، يبدو أنه بذل جهدا كبيرا في البحث والتقصي عن حياة هؤلاء!

انعقد لساني لحظات، صديقي وجاري يفكِّرُ بالانتحار، وقد اختارني دون الآخرين لهذا الموقف الصَّعب، لماذا يجعلني شاهدا على جريمة؟ ما الذي يمكنني فعله في هذا الموقفِ المُحْرِجِ؟ ألا يكفيني ما أنا فيه؟ ربما كان هذا هو السَّبب الذي جعل خطابي له ” إيمانيا” و”ساخرا” وذكَّرتُهُ بأنَّ هذه العبارات لشعراءَ وصفهم الله بأنَّهم في كل وادٍ يهيمون، ولا يتبعهم إلا الغاوون، ومعظمهم كتب لكَ ولأمثالكَ هذه الكلمات الجوفاء، ثم انصرف؛ ليعبَّ من ملذَّات الحياة ما استطاع إليه سبيلا!

يجبُ على المرء أن يقلعَ شوكَه بيديه! هكذا كان تقول جدَّتي! سأحضر قليلا من السُّمِّ الزِّراعي من الصيدلية الزراعية في آخر الشَّارع، أخلط بعضه بالعصير، أو الطَّعام، عليَّ أن أنهيَ هذه الحياةَ البائسةَ، فشلٌ في اجتياز الجامعة، اعتقالٌ لسنتين لأجل لا شيء، أوهامُ قلب العالم، وصنعُ المدينة الفاضلة، قصيدة شعر تافهة تأخذك إلى ما وراء الشَّمس! لكنْ مهلًا، السُّمَّ يوقف الوظائف الحيوية للجسم ببطءٍ، الكبد، الكُليتان، الدورة الدمويَّة، … تَوقُّفُ الكُليْةِ يعني أنَّكَ ستغرقُ ببولكَ حرفيًا!! بل ربَّما كتبتِ الصُّحف مقالات وتحليلات، وعنونت: ” الشاعرُ الذي غَرِقَ ببولِهِ

كنتُ أرصدُ خطواتِ فايز عاشق الكتاب سريعةً وقصيرةً ذات إيقاعٍ متواترٍ على شُرْفة شُقَّته المقابلة لشرفتي، أطفأتُ المصابيحَ تمامًا؛ كيلا يشعرَ بمراقبتي له، كان ينظرُ كثيرا إلى الأسفل، كأنَّهُ يقيسُ المسافةَ من موضع قدميه إلى الرَّصيف، مسافة طويلة، ربَّما تصوَّر جمجمته، وهي تُسْحَقُ على أسفلت الطَّريق، وربما عاش بعدها مشلولا، من سيدفعُ به الكرسيَّ المُدَوْلَبَ، لا أحد له، لم يُنجِبْ خلال زواجه القصير، فزوجته خلعته مع أول اعتقال، لا شيء يضمن موته السَّريع! لا شيء مضمونا حتى الموت في هذه البلاد! ربما قالت ذلك حركةُ شفتيه، وهو ينفثُ دخانَ سيجارته بعصبية!

صباحا وأنا أتهيأ للخروج للعمل، وقبل أن أديرَ مفتاح السَّيارة لمحتُهُ، يدلفُ إلى العمارة يحمل كيسا مُتَّسِخًا ببقع زيت لا تخفى عليَّ، تجاهلني واستمرَّ مندفعا للطوابق العليا كعاصفة، كان الأخْمَصُ الخشبيُّ للروسية لامعا لا يُغطِّيه الكيسُ المثقوبُ، ربَّما شاركني هذا المنظر عددٌ من الموظفين القاطنين للشقق المجاورة، وهم يهمُّون بالخروج لأعمالهم، اصطنعوا التَّجاهلَ، مع أنَّ عددا منهم تفقَّد هاتفه، أو خُيِّل لي ذلك! غاب عن النظر، وصوتُ اصطفاقِ الأبواب لا يغيبُ عن أسماعنا، لم أتأخرْ هذه المرة  في العودة للبيت كبقية الأيام ، بل هنالك من سبقني من الجيران قبل انتهاء الموعد المعتاد في الأيام العادية،  بينما كانت السيارات المظللة تسدُّ منافِذَ الحيِّ، والرجالُ ببزَّاتهم السَّوداء وأقنعتهم التي تخفي وجوههم، تجعل منهم مخلوقاتٍ مرعبةً، حاولنا الدُّخول إلى منازلنا، جاءت إجاباتُهُمْ حاسمةً، وغير قابلة للنقاش

– ابتعدوا من هنا، يمنع الخروج والدُّخول، أنتم تواجهون الخطر الشَّديد، هذه منطقة نيران، احذروا الرَّصاص، ابتعدوا، ابتعدوا

وانطلق مكبِّر الصَّوت في السَّيارة الكبيرة المُموَّهة ذات العجلات الضَّخمة، لا فائدة من المقاومة، ألْقِ سلاحك، واخرجْ رافعا يديك، فرقة مكافحة الإرهاب تطوِّقُ البناءَ،  لم يطلِ الأمرُ حتى نزل الرُّجلان الضَّخمان يتأبطان ذراعي فايز، وهو عارٍ تماما، أردت أن أقولَ لهم بأنَّه مُجرَّد شاعرٍ، وأنَّه أرادَ أن يخرجَ من عبثِ حياةٍ لم تمنحه الكثيرَ، لم يُرِدِ الغرقَ ببوله، لم يضمن ميتة لائقة من شرفة منزله، يكره المرتفعات، كما يكره الكراسيَّ المُدولبة، أردتُ ….. أردتُ ….. لكنَّ السَّياراتِ كانتْ تنهبُ الطَّريقَ نهبًا إلى وِجْهَةٍ لا أعرفها، وأنا كنتُ أقتربُ من بوَّابة عمارة، لا أعرفها، وأبحثُ عن طريقٍ لا أعرفها، لبلاد يصعب فيها حتى الموت بهدوء! أو يتحوَّل لوصفةٍ أخرى للفشل!

SWEEDEN

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *