كينيا بلغة أخرى

*ناموالي سيربيل / ترجمة: أحمد شافعي –

في الثلاثين من ديسمبر سنة 1970، اعتقل الكاتب النيجيري جوجي وا تيونجو Ngugi wa Thiong›o. إذ اقتحمت في جنح الليل سيارة لاندروفرز ضخمة وسيارات شرطة صاخبة فناء بيته في ليمورو بكينيا، وهي تفيض جميعا برجال مسلَّحين بمسدسات وبنادق ورشاشات. وفيما مضى الضباط يفتشون المكتبة سألهم جوجي إن كان رهن الاعتقال. فقال له الضباط لا، وإن المطلوب منه فقط أن يرافقهم إلى مركز الشرطة حيث ستوكل إليه مهمة تصنيف الكتب والمنشورات التي كان الضباط منهمكين في أخذها من أرففه، وهي كتب لماركس ولينين وما إلى ذلك. صادروا كذلك خمسا وعشرين نسخة من مسرحية كتبها جوجي بلغة جيكووايو بالاشتراك مع جوجي وا ميريي بعنوان «سأتزوج حينما أريد».
كان الكاتبان وأهل القرية المعروفة بـ كاميرييثو قد عرضوا المسرحية على مسرح مفتوح أقاموه، واستمر عرضهم لها خمسة شهور محققا شعبية كبيرة ومجتذبا أعدادا غفيرة من أماكن بعيدة. ثم حدث في السادس عشر من نوفمبر سنة 1977 أن منعت وزارة الإسكان والخدمات الاجتماعية عرض المسرحية عمليا بأن سحبت ترخيص أي تجمع عام في مركز كاميرييثو الأهلي للتعليم والثقافة. ولهذا السبب- فيما افترض جوجي- تسلَّم بمجرد وصوله إلى مركز الشرطة أمر اعتقال موقعا من نائب رئيس كينيا في ذلك الوقت دانيال آراب موي. وفي الساعات الأولى من صباح الحادي والثلاثين من ديسمبر سنة 1977، اقتيد جوجي إلى سجن كاميتي شديد التأمين في نيروبي ليقضي هناك قرابة عام بدون محاكمة.
فصَّل جوجي تجاربه في السجن في كتابه «المعتقل: يوميات كاتب في السجن». هناك فقد اسمه، وأصبح المعتقل ك 6.77 ـ وعاش في الزنزانة رقم 16 مع حفنة من المساجين السياسيين الآخرين. فكان يسمح لهم أحيانا بقضاء ساعة واحدة فقط يرون فيها ضوء الشمس في مساحة خاوية يثرثرون فيها أو يلعبون الشطرنج ويقرأون الطالع في صفحات القرآن أو مسارات اليمام الغامضة. يقول جوجي إنهم كانوا في الغالب يتحركون في «دوائر عبثية شاردة، يذهبون إلى أي مكان وإلى لا مكان … كانت الساحة تستعمل من قبل للمدانين المضطربين عقليا إلى أن رُقِّيت لتستعمل قفصا للمضطربين سياسيا». كانت الكتابة متنفسا لكثير من المساجين. يقول جوجي إنه طالما كان يرى في المخطوطات المكتوبة على ورق المراحيض فكرة «رومنتيكية وغير حقيقية». لكن إذا كان الهدف من خشونة ورق المراحيض في كاميتي هو العقاب فـ«ما كان ضارًّا للجسم كان نافعا للكتابة». هكذا كتب جوجي على ورق المراحيض الملاحظات التي تألَّف منها «المعتقل». وكتب كذلك رواية كلاسيكية هي «الشيطان على الصليب» التي نشرت بنجوين طبعة جديدة منها.
ولدت «الشيطان على الصليب» في لحظة تقاطع من حياة جوجي ومن حياة البلد الذي أحبه إلى حد النقد. في عام 1952، عندما بدأ تمرد ماو ماو، خرج أعضاء «جيش كينيا جيكووايو للحرية والأرض» على الحكم البريطاني، وقاموا في بعض الأحيان بأعمال عنف متطرفة، فأعلن البريطانيون حالة الطوارئ. ولما بلغ جوجي الرابعة عشرة كان النظام الاستعماري الحاكم قد استولى على المدارس الوطنية في كينيا. وصارت الإنجليزية لغة التعليم- بعدما كانت بالفعل لغة واسعة الانتشار- لتفعيل الخضوع للاستعمار واعتناق المسيحية. كان معنى هذا أن يتعرَّف الكينيون الصغار على كلاسيكيات الأدب الإنجليزي من قبيل مسرحيات شكسبير، لكنه كان يعني أيضا أن يتعرضوا لنقيض ذلك من قبيل الأعمال الضعيفة العنصرية للكتاب الاستعماريين من أمثال إلسبيث هكسلي.
في كتاب مقالاته الشهير «تحرير العقل من الاستعمار» (1986) يحكي جوجي حكايات دالة عن تلقينه الإمبريالية اللغوية في طفولته. فيحكي أن رفض الحديث بالإنجليزية أو العجز عنه كان يقابَل بعقاب بدني ونفسي: بضربات من العصا على المؤخرة وبتعليق صفيحة حول العنق مكتوب عليها أنا غبي أو أنا حمار. فكلما كان تلميذ يتكلم بلغته الأم، كان يحصل على الزر، فإذا سمع غيره يرتكب مثل ذنبه يسلمه الزر، وفي نهاية اليوم الدراسي يعلن كل مذنب اسم من أعطاه الزر، وينزل العقاب على جميع المذنبين. وبهذه الطريقة ينغرس العار الثقافي في النفس، ويصبح في الوقت نفسه وسيلة تنظيم ذاتي.
نشأ جوجي يتكلم لغة الجيكووايو في البيت. فكان من خلالها لقاؤه الأول مع القصص والألغاز والأمثال وما يطلِق عليه «موسيقى اللغة». كان ابنا لمزارع وأخا لمعارض سياسي. قتل أخوه الذي كان عضوا في حركة ماو ماو بطلق ناري أثناء حالة الطوارئ، وأمه عوقبت بالحبس الانفرادي لثلاثة شهور. هاتان الحقيقتان- أي نشأته الطبقية وعائلته السياسية- كانتا مأخذين عليه، لكن جوجي استطاع بالرغم من ذلك أن يحظى بالالتحاق بكلية ماكيريري الجامعية في كمبالا بأوغندا سنة 1959. فحضر فيها سنة 1962 «مؤتمر الأفارقة الكتّاب باللغة الإنجليزية» وهو اجتماع تاريخي حضره وول سوينكا وتشينوا أتشيبي وإيسكيا مفاهليلي. لم يكن جوجي- أو جيمس جوجي حسبما كان يعرف وقتها ـ قد نشر بعد، لكنه كان قد كتب روايتيه الأوليين «لا تبك يا بني» و«النهر البيني». أثارت نقاشات المؤتمر جوجي، وكان أول موضوع في برنامج المؤتمر هو «ما الأدب الأفريقي؟». وقد أدى هذا السؤال الزومبي- الذي لا يزال يطرح، ولا يحدث مطلقا أن يموت كل الموت- بصورة طبيعية إلى نقاش في اللغة. لماذا كان أغلب ما يعرف بالأدب الإفريقي مكتوبا بلغات أوروبية؟
استولت هذه الأسئلة على جوجي، لكنه واصل كتابة الروايات ونشرها بالإنجليزية فكتب «حبة قمح» (1967)، واستمرّ في تدريس اللغة الإنجليزية أستاذا مساعدا ثم رئيسا لقسم اللغة والأدب الإنجليزي في نيروبي. وبعد عشر سنوات طلبت منه عجوز تعيش في قرية كاميرييثو القريبة من الضاحية التي كان يعيش فيها أن يساعدها في إصلاح المركز الثقافي بالقرية. وعند ذلك فقط بدأ جوجي يكتب بلغة الجيكووايو التي لا يتكلم بها إلا 22 في المئة فقط من الكينيين ولا يقرؤها إلا أقل من ذلك بكثير. والمسرحية التي كانت شرارة اعتقاله كانت أيضا صحوة للغته الأم. سجِّلت مبادرة جوجي المسرحية في كاميرييثو كمشروع تنمية ذاتية في إدارة التنمية المجتمعية بوزارة الإسكان والخدمات الاجتماعية. بدا أن قالب المسرحية- التي تضمنت أغنية بلغة الجيكووايو ورقصة وبعض العناصر الفولكلورية- وتنفيذها على مسرح مقام بالجهود الذاتية ملائمين لهدف الحكومة ورغبتها في دعم ثقافة كينيا وتاريخها. لكن صلب المسرحية- أي نقدها الماركسي اللاذع لتلك الحكومة التي كان جوجي يصفها بنظام الحكم «الاستعماري الجديد» وينتقد قمعها الرأسمالي- اعتبر مثيرا للفوضى عند اعتقال الكاتب. وبينما هو في السجن بسبب كتابته مسرحية بلغته الأم، قرَّر جوجي رواية أن يكتب بلغته الأم.
***
يصف جوجي «الشيطان على الصليب» بأنها «رحلتان كبيرتان على أرض واحدة»، حيث تسافر وارينجا بطلة الرواية «في سيارة أجرة ماتاتو matatũ من العاصمة نيروبي إلى موقع ريفي حدودي خيالي اسمه إلموروج. ثم ترحل وارينجا مرة أخرى في سيارة من نيروبي إلى إلموروج إلى ناكورو. تفصل بين الرحلتين فجوة مدتها سنتان». الفكرة الأساسية هي أن وارينجا وبقية ركاب سيارة الأجرة- وهم سائق وامرأة ريفية وعامل ومحاضر ورجل أعمال- متجهون جميعا إلى فعالية واحدة في مرتفعات إلموروج الذهبية وهي عبارة عن «مسابقة في السرقة والسطو على الطريقة الحديثة» تقام برعاية مزعومة من الشيطان. هناك رجال أعمال وحشيون يلقون خطبا يعرضون فيها ما لديهم من مهارات في الاستغلال مقترحين مبادرات وحيلا رأسمالية لامتصاص الدماء. وتأتي الخطبة الأبشع متاخمة للخيال العلمي، إذ تقترح إقامة مصنع يعمل على تصنيع قطع غيار بشرية للأثرياء، عساهم بذلك يحققون الخلود. يقتحم طلبة جامعيون وعمال نقابيون المسابقة احتجاجا على إقامتها، ويحدث شغب واعتقالات تعقبها محاكمات جائرة.
«الشيطان على الصليب» رواية شديدة الهجينية يستعصي تماما التنبؤ بانعطافاتها. تتوغل في الماضي وفي المستقبل، وتعبر سنين في فقرة، وتتمهل في رحلة سيارة الماتاتو على مدار كذا وخمسين صفحة. بل إننا في مرحلة ما نقرأ فيها وصفا جافا شديد المباشرة لعمل المحرك. لكن الرواية في أغلبها حيوية هوائية:
«بدا وكأن سيارة السائق مواورا مواورا مواورا من طراز تي فورد، المسجلة برقم م م م 333 هي أول سيارة تصنع على وجه الأرض. كان المحرك يئن ويصرخ كأنما تطحن بداخله مئات البلطات المعوجة دونما توقف. أما جسم السيارة فكان يهتز اهتزاز قصبة تعصف بها الريح. وتتمايل السيارة بمن فيها كأنها بطة ترتقي جبلا. في الصباح، قبل تشغيلها، كانت الماتاتو للناظر فرجة رائعة، فالمحرك يدمدم، ثم يسعل كأن شظية معدنية انحشرت في حلقه، ثم يحتد صوته كأنه مصاب بالربو».
وبرغم أن كتابة جوجي متعمقة في الواقع المادي، فالتشبيهات الوفيرة- شديدة البراعة والذكاء- في مثل هذه الفقرة تضفي نفَسا سرياليا في «الشيطان على الصليب». فأحد رجال الأعمال في عرين السارقين بالإكراه له فم يشبه المنقار، وآخر له عينان واسعتان بحجم مصباحين كهربائيين أحمرين. وصوت شيطاني يحدث وارينجا داعيا إياها إلى «توصيلة في سيارة تتحرك على الأسفلت في سلاسة وجمال شاب ينزلق على جسم امرأة معطَّر» لتزداد هذه الاستعارة وضوحا حين تؤكد سلاسة انزلاقات موازية أخرى في الرواية- أعني الواقع والفنتازيا.
حدث تغير مهم في طريقة تفكير جوجي وهو يكتب «الشيطان على الصليب» بتركيز جديد على جمهوره: «كنت أعرف الذين أكتب عنهم، لكن من الذين كنت أكتب لهم؟» اختار الموضوع الأكثر اتصالا بالجمهور الكيني الذي كان يرجو الوصول إليه، وذلك هو الواقع التاريخي للاستعمار الجديد». وكان يرى أن هذا «النوع الجديد من القراء»- أي القراء الذي يقبلون على قراءة «الشيطان على الصليب» وهم في حانات أو في سيارات أجرة ماتاتو، وفي استراحة الغداء في مصانع أو بعد عشاء الأسرة، هذا النوع من القراء الذي قد يفرض طبعة ثانية أو ثالثة من كتاب- كان يفترض أن تكون لدى هؤلاء القراء من أبناء الطبقات الدنيا المدينية والريفية ألفة بالتقاليد الشفهية. وتشمل هذه التقاليد الاستطرادات والأمثال والألغاز والحكايات الخرافية الغريبة التي تجعل الرواية توصيلة هجينية جامحة.
رأى جوجي أن من شأن هذا النوع من القراء أن يفهم أيضا أن «واقع الاستعمار الجديد في كينيا أغرب من الخيال». فإلى هذا الحد إذن يكون التشوه الشكلي في «الشيطان على الصليب» انعكاسا مقصودا لتشوه وعبثية ووحشية نظام الحكم الاستعماري الجديد الذي أراد جوجي أن يسخر منه. تذكرنا الرواية برائعة ميخائيل بولجاكوف البديعة التي تعرضت للرقابة «المعلم ومارجريتا» التي يشير إليها جوجي كواحدة من الأعمال التي تأثر بها. شأن تلك الرواية الروسية، تتلاعب «الشيطان على الصليب» بالنص المقدس، إبرازا لبنى السلطة والعنف. كما يتناول جوجي خيوطا من فولكلور الجيكووايو توجه نقدا فوريا للرأسمالية. فالماريمو آكلة البشر على سبيل المثال غيلان ثنائية الأفواه طويلة الشعور تعيش على عرق الرجال. بهذا المعنى، لا يكون الأمر أن جوجي رأى تمرير رسالته السياسية عبر قالب عبثي، بل إن رؤاه السياسية هي التي فرضت عليه قالبه.
وليس في هذا ما يدهش كثيرا. فليس جوجي بشيء ما لم يكن ماركسيا، ومظاهر الماركسية متغلغلة في عمله. وأوضح تجليات هذا دأبه أن يفصل العالم إلى ثنائيات، ويعرض جدليات بين الطرح والطرح المضاد. في «الشيطان على الصليب» ثمة اثنان من كل شيء، من الأكياس والظلال والمسارات والقدور والأنصاف والقلوب والطرق والوسائل. تقابل الرواية بين الرجل والمرأة، وبين الحب والكراهية، وبين الخير والشر، وبين الحياة والموت، وبين المديرين والمدارين، وبين المنتجين والطفيليين. وحين يصف جاتويريا أغنيته فإن يقول إن «هناك موسيقى وهناك الموسيقى، هناك أغنية وهناك الأغنية». بصورة طبيعية، تستغرق الأغنية سنتين إلى أن تكتمل وتتألف من مئتي نوتة موسيقية. والثنائية حاضرة بصورة غير إرادية في أعمال جوجي لا في أدبه وحده، فهي في مقالاته أيضا حيث اللغة ذات «طبيعة ثنائية»، فهناك «التراث الإمبريالي» في مقابل «تراث المقاومة»، والفولكلور يصوِّر «نضالنا المزدوج» ضد الطبيعة وغيرنا من الحيوانات، و»تراثان متعارضان ديالكتيكيا في تاريخ كينيا وثقافتها وجمالياتها».
رؤية جوجي للعالم بوصفه ثنائيات متضادة لا تضيِّق الرواية، بل تدفع حركتها، أو حتى جموحها. ولعلي أقول إن الحركة الحتمية للديالكتيك ـ أي الطاقة الناجمة عن التقابل والثنائية ـ هي سر عدم اقتصار الرواية على ما فيها من ماركسية مستقرة. فالفن في «الشيطان على الصليب» لا يتعالى على السياسة، بل يتحرك بدفع منها.
***
أكثر القرارت السياسية والفنية حسما مما اتخذه جوجي هو الذي اتخذه قبل الاستقرار في الزنزانة رقم 16 من سجن كاميتي فائق التأمين لكتابة «الشيطان على الصليب» هو قرار الكتابة بلغة الجيكووايو. بدا القرار للبعض جاهلا إن لم يكن سيزيفيا. ففي استعراض لـ»الشيطان على الصليب» نشر في لندن رفيو أوف بوكس سنة 1982، كتبت فكتوريا بريتين أنه «سيكون مأساويا أن يكون رد الكاتب على التحزب السياسي في مجتمعه هو أن يوجه طاقاته إلى الداخل فلا يكتب إلا بلغة الجيكووايو لجمهور من المزارعين ويرفض مخاطبة العالم الخارجي». وحينما أشيع أن جوجي مرشح لنوبل 2010، نشرت نيويورك تايمز مقالا لأداوبي تريشيا نواوباني تتساءل عن استمرار جوجي في الالتزام بالكتابة بلغة الجيكووايو: «إنني أرتعش إذ أتخيل كم من الكتاب الأفارقة سوف يتأثرون بالجائزة فيحاكونه». وفي كتابه «تحرير العقل من الاستعمار» يفسر جوجي منطق اختياره الذي أثار الجدل وكان له من التبعات ما كان، فيقول إن اللغة بالنسبة له وسيلة تواصل وحامل ثقافة. فاللغة من ناحية تعكس الواقع، والأدب يمثل «مرآة» للعالم. ومن ناحية أخرى، تخلق اللغة الواقع و»يخلق التواصل الثقافة». ومن هنا فقد كانت الكتابة بلغة الجيكووايو تأملا للواقع ـ واقعه وواقع قرائه ـ وخلقا للواقع، وإبداعا لأدب أفريقي حقيقي بدلا من النصوص الأفروأوربية التي كانت تشكل متن الأدب آنذاك.
يعترف جوجي أن كتابة رواية بلغة الجيكووايو كانت نضالا عظيما. كانت هناك أيضا مسألة اعتقاله في كاميتي، بطبيعة الحال، حيث لم يكن لديه من ورق إلا ورق المرحاض ولعبة «الكتابة والإخفاء». لكن «كانت هناك مشكلة أخرى لا علاقة لها بحقيقة أن الغرفة التي تخص المرء وحده لم تكن في حالته غير الزنزانة رقم 16. الكلمات على سبيل المثال. الجُمل. الفقرات». يستشهد جوجي بقول تي إس إليوت عن مراوغة الكلمات وكيف أنها «تنشرخ … وتنكسر … وتنزلق … وتنساب … وتهلك». احتار جوجي في أسئلة أساسية: زمن الجملة، وزمن السرد، والمكان، والتهجئة، وتنويعات النبرات. يقول «نعم، تنزلق الكلمات وتنفلت أمام عيني. لا تبقى في مكانها. لا تبقى ساكنة». واجهته كذلك مشكلة دائمة تتعلق بـ»العثور على ’اللغة القصصية, الملائمة، باعتبار أن القص نفسه شكل لغوي». وهناك لحظة تتوقف فيها القلوب فعليا في «المعتقل» إذ يجري تفتيش زنزانة جوجي وتصادر مسودته التي تعب عليها. لكن ضابطا كبيرا يرجع إليه بعد ثلاثة أسابيع محزنة قائلا «إنني لا أجد فيها مشكلة، فأنت تكتب بـ جيكووايو شديدة الصعوبة».
ربما كل ما في الأمر أن الضابط لم يكن يجيد الجيكووايو. لكن أنى لمثلي أن يعرف وأنا لم أقرأ الرواية إلا بالإنجليزية. من مفارقات قرار جوجي أن يكتب بالجيكووايو مفارقة تتعلق بحتمية ترجمتها الإنجليزية. وليست هذه مجرد ضرورة من ضروريات عالم النشر ذي المركزية الأنجلوفونية التي غالبا ما يحيد عنها جوجي، بل إنها قائمة أيضا على قرار مبدئي: «كنت قد خططت لإنهاء نسخة الجيكووايو من الرواية بحلول نهاية سنة 1987. لأبدأ ـ بالتناغم مع تفكيري الجديد في لغات كينيا القومية ـ في نسخة بالسواحيلية سنة 1979 … وفي عام 1980 أبدأ المحاولة في نسخة إنجليزية. كانت الإنجليزية لغة أجنبية، لكنها لغة مهمة في تاريخ كينيا». وحين نعلم أن الصفحات الأصلية التي كتبت من «الشيطان على الصليب» قبل اعتقاله كانت قد كتبت بالإنجليزية، وأنه كتب الرواية بلغة صعبة من الجيكووايو، وأنه ترجمها بنفسه إلى الإنجليزية، نرى مدى تعقيد هذا القرار الذي قد يبدو في البداية قرارا بسيطا. ما ينطوي عليه هذا القرار جماليا وسياسيا وشخصيا يجعله متعدد الطبقات شأن قرار صمويل بيكيت أن يكتب بالفرنسية أو قرار زورا نيل Zora Neale الكتابة باللهجة الأفروأمريكية. ويتبيَّن أن قرار جوجي الكتابة بالجيكووايو قرار سياسي، ليس فقط لكونه رجوعا إلى الجذور الأفريقية، بل بوصفه علامة بارزة في الترجمة العالمية. حينما نقرأ «الشيطان على الصليب» بالإنجليزية، نجد إبرازا لبعض الكلمات هي الكلمات التي تظهر في النص الأصلي بالإنجليزية والفرنسية واللاتينية والسواحيلية. تذكّرنا رواية جوجي أنه ما من لغة نقية، وليس ذلك فقط في ما يتعلق باللغة الأم.

***
كتب جوجي حديثا ما قد يكون أكثر قصة مترجمة في التاريخ، وهي قصة «الثورة القائمة: أو لماذا يسير البشر منتصبي القامة» The Upright Revolution: Or Why Humans Walk Upright لجريدة جالادا Jalada الأدبية الإلكترونية التي تصدرها الجمعية الكينية للكتاب الشباب الأفارقة. يمكنكم قراءة القصة بأكثر من ثلاثين لغة، ويجري حاليا التكليف بمزيد من الترجمات. هي خرافة لطيفة رشيقة عن منافسة بين الأذرع والسيقان. ويسهل تفسيرها بأنها استعارة عن الحاجة إلى تعاون اشتراكي في سياسات الجسد، مصداقا لفكرة ـ يعرضها جوجي في «تحرير العقل من الاستعمار» ـ أن «يعمل كل حسب طاقته وفق رؤية جماعية، تحقيقا لأكبر قدر ممكن من المساواة الديمقراطية». تظهر تفاصيل لطيفة حينما يتحول زخم القصة عن هذه الرؤية الكلية، فحينما تحاول الأيدي السير على الأرض، وتنفصل أصابع الإبهام عن بقية الأصابع: «وبدلا من أن تصبح الأيدي ـ بغير الإبهام المنفصل أقل كفاءة … إذا قدرتها على الإمساك تقوى. ما هذا؟ لقد تحول النقص إلى قوة خلق!».
يعرف جوجي تماما قدرة الكلمات على صياغة واقع، وقدرتها على أن تكون ذات آثار خالقة، أو قاتلة. لقد كانت قدرة المرء على الكلام بإنجليزية جلالة الملكة هي المحدد لوضعه في الامتحانات الكينية ومن ثم لفرصه لاحقا في العمل. وقد حدث مرة أن أوشك جوجي على الوفاة بأزمة ربو في السنغال لأنه لم يكن يعرف من الفرنسية ما يكفية ليطلب المساعدة. وأمر الاعتقال الذي صدر في حقه كان مكتوبا برطانة قانونية غامضة، وقد أمر بحبسه سنة بدون محاكمة، واعتبر أخيرا «فعلا سياديا» منعه من استعادة منصبه الجامعي عند إطلاق سراحه. وأثناء منفاه في المملكة المتحدة ـ وذلك أيضا من مفارقات قراره الكتابة بلغة الجيكووايو ـ حدث أن نشر روايته ماتيجاري (1987)، فأصدرت الحكومة الكينية أمرا باعتقاله. أي باعتقال ماتيجاري. فلما تبيَّن أن ماتيجاري شخصية خيالية، منعت الرواية من التداول عشر سنين. لقد أوجد جوجي بلغته شخصا، أوجد سياسيا هاربا، أوجد إنسانا في شكل كتاب.

هذه المقالة نسخة محررة من مقدمة طبعة كلاسيكيات بنجوين الصادرة حديثا من «الشيطان على الصليب».
________
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *