مذكرات طالب يرموكي

مذكرات طالب يرموكي

  • *حسين محمود حشكي

المشهد  الأول

 لحظة الوصول

        انطلق الباص متوجهاً نحو الشمال ، في طريق محاط بالأشجار من الجانبين بمسرب واحد يجعل المسافة تبدو بعيدة وهي في حقيقتها ليست كذلك ،،

انه يومه الأول في الجامعة التي  لن تكون أكبر من مدرسته التي تخرج منها إلا قليلاً كما رسمت له مخيلته ، وكلما مر على مبنى كبير في الطريق ظن أنه الجامعة ويخيب ظنه عندما يستمر الباص بالمسير ،،

وصل الى مبنى الجامعة وعند إحدى بواباتها التي سمعهم يقولون إنها بوابة الاقتصاد نزل هناك ومشى حيث يسير الطلاب الذين نزلوا  من الباص  متوجهين نحو البوابة ودخل ،،

أصابته رهبة المكان حين وجد نفسه يسير في شوارع وأرصفة ومبانٍ  وأشجار وميادين لايكاد البصر يجمعها في نظرة واحدة ،

إذن هذه المساحة المترامية الأطراف  هي الجامعة .

         انتابته حيرة شديدة من أين يبدأ ؟  وأين ينتهي ؟ ، وهذا المكان الذي يضج بالقادمين من كل مكان زرافاتٍ ووحداناً ، طلاباً وطالبات ، والكل يسير باتجاه كأنما يعلم إلى أين يذهب  يحمل بين يديه  كتباً ضخمة بعناوين كتبت باللغة الانجليزية  ،

إلا أنت أيها المسكين تسير زائغ البصر تتلفت يميناً وشمالاً حائراً لاتعلم مبتدأك من خبرك  ؟  فقد تاهت بك الدروب واظلمت رغم شمس أيلول  الدافئة  ،،

انتابته رغبة جارفة  للعودة من حيث  أتى ،  لكن شيئاً من كبريائه جعله يستمر بالتقدم محاولاً ان يبقى متماسكاً .

      – كطفلٍ أضاع أمه وسط الزحام ثم رآها من بعيد –  لمح أحد أصدقاء المدرسة يسير وحيداً لايقل عنه حيرة واضطراباً  ،

أسرع  نحوه وسلم عليه بحرارة كأنه يفتقده وهو بالكاد يذكره، فكل مايعرفه عنه هو اسمه ،  فهو لم يكن من الأصدقاء ، ولم يكن ليسلم عليه في غير هذا الموقف ،،،

استقبله زميل المدرسة بحفاوة وفرحة لمعت في عينيه ، فقد كان  كل منهم  يحتاج للآخر كي يدعمه ، وتذكر قول امرؤ القيس

( أجارتنا إنا غريبان هاهنا

        وكل غريب للغريب نسيب )

وبخطىً حائرة متلعثمة حاول كل منهما أن يخفي ارتباكه ويظهر  أمام الآخر بمظهر القوي المتمكن توجها نحو قسم القبول والتسجيل .

ومن هناك ابتدأ بنسج خيوط رحلته مع المكان الذي سيستوطن ذاكرته ردحاً طويلاً من الزمن وسيحفر  على جدران القلب والذاكرة  قصة سيحكيها لأبنائه يوماً ما ،،

  *     المشهد الثاني

القبول والتسجيل – طلاسم

وصل مبنى القبول والتسجيل . صالة تعج بالطلاب والطالبات يقفون بصفوف أعادت له الذاكرة القريبة لطابور الصباح المدرسي بصوت معلم الرياضة الجهوري ( وح  ، اتنين ،   تلات ، بع ، اسفااااال خفض  )

في صالة القبول والتسجيل الكل يحمل بيديه أوراقاً يتنقل بها من مكان لآخر  ثم يتخذ مكانه بصف طويل أمام إحدى الشبابيك التي كتب عليها التخصص ،، لم يكن  يعلم شيئاً عن التسجيل والإرشاد والمواد ، ومصطلحات يتداولها الطلبة والطالبات  تتناثر على مسامعه هنا وهناك وهو  لايكاد يفهم لها معنى ، فهذا يريد أن يضيف مادة ، وتلك تريد أن تسحبها ، وهذا المساق له متطلب سابق وذاك المساق متطلب كلية ومتطلب جامعه وووو ،

والساعات المعتمدة،  التي يسمع بها ولايدري عنها ، وجريدة المواد التي تشبه دليل الهاتف الاصفر وتحمل أرقاما لا يعيها ، فهذا مساق ١٠١ وهذه ١١١ ومحاضرة مدتها ساعة ومحاضرة مدتها ساعة ونصف ..

وللحظة فكر أن يسأل أحدهم : أين يصفّ طلاب السنة الأولى ؟!  لكنه عدل عن السؤال حين وجد أن لكل شباك تخصص ،،،

(ثن وثل وربع ) كلمات حاول عبثاً أن يجد لها تفسيراً لكنه أخفق ، هل سيجرؤ على السؤال عن معانيها ،، لابد من ذلك ،،

وسرعان ماأصابته نوبة من الضحك حين أجابه أحدهم وهو يكتم ضحكة أراد أن يطلقها في وجهه،  ولكن بقية من إنسانية بداخله جعلته ينسحب من أمامه مسرعاً ويقهقه بعيداً …

( واااااااه يالعقلي الصغير كيف لي أن أستوعب كل هذا الكم من الطلاسم ؟ !

 وأين أنا من كل هذا  ؟

اللهم فرج الهمّ عني واربط على قلبي، واحلل عقدة من صبري  كي أفقه قولهم ،،

رأى من بعيد شباكاً كتب عليه ( الطلاب المستجدون) ،

إنه أنا ، نعم أنا  الطالب المستجد الذي سأحمل عما قريب لقب ( سنفور ) كماعلمت لاحقاً ،، توجه نحوه كظمآن رأى ماء بعد أن أنهكه العطش ، اصطدم في طريقه بطلاب اثناء اندفاعه ولم يكلف خاطره بالاعتذار لهم ،

 ولو سألوه في تلك اللحظة أي سنفور أنت  ؟ سيكون جوابه على الفور  ( سنفور حيران )…

* المشهد الثالث

     الهوية الجامعية – سنفور حيران

توجه إلى الشباك  وقدم أوراقه للموظف الذي بدأ بعمل الاجراءات ، وهنا بدأت انفاسه تهدأ شيئاً فشيئاً فقد أحس حينها أنه أمسك بطرف الخيط ويمكنه الآن أن يبدأ،،

طلب منه الموظف أن  يتوجه لدفع الرسوم  لاستكمال اجراءات التسجيل ،

رسوم الساعات والاستدراكي وتأمين المكتبة وهو  بالكاد يفهم ماذا يقصدون ، لكنه ينفذ مايطلبون دون نقاش أو اعتراض ، يحدوه الأمل أنه يوماً ما سيقدم المشورة للقادمين الجدد ، وسوف يسقط عن كتفه  لقب ( السنفور ) لينخرط مع السائرين الذين يعلمون إلى أين يتجهون ،،

فاصبر فماصبرك الا بالله ، ومابعد الصبر الا الفرج ،،

         استكمل إجراءات التسجيل ودفع الرسوم ثم توجه لشؤون الطلبة حسب توجيهات موظف التسجيل للحصول على بطاقته الجامعية ، وماإن أمسك بالهوية بيديه حتى راح يتفرس فيها كل خمس دقائق كي يقرأ تفاصيلها،  ويود لو علقها على صدره كي يراها الجميع فقد كُتِب فيها تخصصه ورقمه الجامعي الذي لن ينساه مادام النَفَس يسري بصدره ،  حتى إذا سأله أبناءه عن رقمه الجامعي  سيسرده  لهم ( كرجة مي) ، تماماً كما يحفظ رقم أول هاتف وضع في منزل العائلة  بعد سنوات من تقديم الطلب لتركيبه ،،

سيسير في الشارع راجياً من الله  أن يجد سبباً لإظهار هويته الجامعية في أية مناسبة ، حتى وإن كانت صورته فيها كالمطلوب للإنتربول – لابأس بذلك . سيحتفظ بها ضمن مقتنياته الثمينة فهي  الرابط بين حاضره  وماضيه ،  وهي التي تُذكِّره أنه لم يزل غضاً  وأنه ليس  من الشباب بمعدماً ، حتى وإن سمع أبناءه يقولون لأصحابهم : ( بشوف الحج إذا وافق بنطلع ،،،

وأكيد  الحجه رح تعمل إلنا منسف يعجبكم  ،،)

*المشهد الرابع

طالب سنة اولى – البداية

( اخرج من معطفه الجريدة) ، وعلبة السجائر ، وبكل اهتمام راح يتفرس فيها ، إنها جريدة المواد التي سيسجل منها مواده للفصول القادمة ، لقد أصبحت الرموز  أقل غموضاً ، وصار بمقدوره أن يقرأ محتوياتها ويستوعب مافيها ،

لكنه قبل ذلك عليه أن يخضع لاختبار اللغة الانجليزية كي يتم تحديد مستواه ليلتحق ببرنامج ( الاستدراكي ) فيكون قادراً على دراسة المواد التي لن تكون إلا باللغة الانجليزية ، ،

( الاستدراكي ) إنه الوسم الذي مهما حاول أن يظهر نفسه أنه قديم متمرس في الجامعة سيفتضح  أمره لأنه برنامج خاص بالسنافر ،،،

لكنه يتغير ، كما يتخلل الماء بين الأصابع  -بسلاسة وهدووء .

   بدأ يحمل الكتب الضخمة ذات العناوين الانجليزية ويتوجه صوب قاعة المحاضرات في   ( English village  ) كما يطلقون عليها ، يفطر في مطعمها ، يتجه نحو القاعة في الموعد المحدد لبداية المحاضرة ، يستمع ويسجل الملاحظات ،،

يبدو الأمر أبسط مما توهمت ،

الأقدام أصبحت أكثر رشاقة ،  والجبين أرخى عقدته ،

والالتفات يميناً وشمالاً صار أقل ، بدأت عيناه  تألفان المكان أكثر ، وصارت قادرة  على رؤية الجمال من حوله ، وعلت الابتسامة الملامح ،،

صار المكان أكثر  ألفة ، والوجوه أشد إشراقاً  ،،

وكلما أوغل أكثر في شوارعها وميادينها ومبانيها تزداد علاقته بالشجر والحجر والمقاعد والأرصفة ،

نقش على الحجر قصة ، وحفر على الشجر  ذكرى ، وفرش على المقاعد أسراره ، وغنى فيروز مع المطر حين يغسل الطرقات ،

صارت تطالعه وجوه يعرفها ، يعرفها بحق ، ،

قلّ الازدحام في عقله الصغير ، وأضحت الدنيا أوسع ، قلما يسير وحيداً فقد صار  لديه صحبة  ،، بدأت رموز (الطلاسم)  تتفكك شيئاً فشيئاً ،

وجوه لم يكن يوماً يظن أنه سوف يقابلها صارت من المعارف ،

بعضاً من زملاء المدرسة السابقين ،،

شخصيات  متنوعة بعضها يرتاح القلب  لمجرد الجلوس معهم ، فينزلون الى المعدة كالبرد والسلام   ،

وآخرون قد يحتاج فيها  قليلاً من مساعدات الهضم كي يتقبلهم ،

وفئة لن يكون قادراً على هضمهم ولو شرب معهم  مذيبات الحديد ، فسوف يخرجون من معدته كما دخلوا ،،

 إنها الجامعة التي تجمع الجميع ، ولكلٍ مساحته التي يبني فيها أحلامه  ، ولك أن تختار منها ماتشاء ،

هكذا يصنع الإنسان ،،

*المشهد الخامس

– دقات قلب

تتعلق عيناه بها أينما حلت وارتحلت ، تسحره ابتسامتها ، مشيتها الرشيقة كطائر نورس  ،  وروحها الممتلئة بالحياة ،،

ليس من الصعب معرفة تحركاتها فجدول المحاضرات ثابت لايتغير ، وتشاركه في محاضرة منها ،  ينتظر المحاضرة بفارغ الصبر ، قد يغيب عن بعض محاضراته ،  لكن هذه المحاضرة بالذات يحرص أن يصل اليها باكراً علّ سبباً  للقاء يكون ، أو إلقاء تحية ولو من بعيد ،

لم يكن ليملك الجرأة  لبدء حوار معها  ، وينتظر رحمة تنزل من السماء تجعله يتبادل معها الحديث ولو عن وصف الجو  وتغيراته ، – ذلك الحديث الذي يبدأه كل من أراد أن يفتح حواراً مع الجالس بجواره في باص ، أو صالة انتظار –

كيف السبيل إلى حماكِ وليس بالأمر حيلة؟

العين ترقبها ، أنّى ذهبت في أي طريق  ، وكلمات الشاعر ترن في داخله

( من بريق الوجد في عينيك

أشعلت حنيني

وعلى دربك أنى رحت

أرسلت عيوني )

وفي لحظة استثنائية قبل الدخول الى القاعة في إحدى المحاضرات حيث عدد الطلاب قليل ، والوقت مازال مبكراً ،  لايدري كيف حلّت عليه الصاعقة حين وجدها أمامه تسأله عن المحاضرة السابقة  ، أصابه الارتباك،  لكنه تماسك وراح يطيل الشرح ،  ويستخدم كل ماوهبه الله من قدرة على الإضحاك ، ويزداد ثقة وهو يرى ابتسامتها ،  ومبادلتها الضحكة بالضحكة ، والتعليق بالتعليق ، والنكتة بالنكتة .

ومن هنا  ابتدأت الحكاية .

( أتذكرين حينما ابتل معطفك  برذاذ المطر ..

أوَ حقاً تذكرين حين كنا نداعب قطراته بأطراف أصابعنا ونضحك … فيغيب عنا لحظةً وقد أصابه الغضب ، ليعود إلينا محملاً بحبات البَرَد تداعب وجناتنا بقسوة ، ونظل نضحك لانعبأ بها ،،

وماهي الا لحظة وينهمر الثلج فوق رؤوسنا،،،

تتداخل ألوان الطيف وتنصهر بلون واحد ،،،

بياض تكتسي به شوارع المدينه،

يصيبنا الوجوم للحظة وتضيع منا ملامح الطريق …

إلى أين نمضي وكل الدروب بلون واحد؟!

كيف نعود والذهاب أضحى مثل الرجوع ؟!

مالفرق بين الذهاب وبين الرجوع ؟

كل الطرق توصلنا الى حيث نحن مادمنا سويا ..

*المشهد الأخير

     نهاية الأسبوع  – نهاية الحكاية

      يعود (سنفور حيران ) إلى بيته في نهاية الأسبوع الأول في الجامعة يحمل في جعبته الكثير  من القصص التي سيحكيها عن الجامعة ونظامها لإخوانه وأخواته الذين يصغرونه سناً ، وسيسألهم عن مدارسهم  إن كانت مازالت تسير بنفس النظام؟

 وهل الطابور الصباحي مازال قائماً ؟  وهل الصفوف مازالت تحتفظ بالمقاعد المزدوجة ؟

ثم يبدي استهجانه من حالهم بعد أن تغير الحال به،  فقد صار  له في كل قاعة بالجامعة مقعداً مستقلاً ب( تكاية)  جانبية يكتب عليها محاضراته باللغة الانجليزية  في قاعة المحاضرات حيث لم يعد هناك صف دراسي أو طابور  صباحي ،  والمعلمون أصبحوا ( دكاترة  ) من أبناء البلد وخليط من كل أنحاء العالم  فهذا أمريكي وآخر كندي وبولندي وتركي ومن شرق آسيا ، لايتحدثون الا اللغة الانجليزية ،

والحصة صارت ( محاضرة ) بعضها باللغة العربية وأخرى باللغة الانجليزية ،،

ولاشيء هناك اسمه مقصف بل كافتريات ومطاعم في كل مكان  من صيفية وداخلية تختار منها مايتوافق مع مزاجك  ، ويمكنك أن تدخن أينما تشاء ووقتما تشاء،  وتنتقل في الحصص  ( أقصد المحاضرات ) بين المباني والقاعات،،،

سيحدثهم كثيراً من التفاصيل  كيف توضحت لديه الرؤية وعرف أخيراً  الى أين يتجه مع الطلبة الذين يحملون الكتب بأيديهم ، بينما تضمها الصبايا على صدورهن كأمٍ تحضن طفلها  ،،

       يتابع حديثه  دونما انقطاع ، عن الأشخاص الذين قابلهم ، وكيف يجتمعون في أماكن محددة ، يشربون القهوة يرقبون المغادرين والقادمين  ،

معرض لطيف يضم أصناف البشر ينسابون بهدوء متوجهين نحو أهدافهم  ،

يحلمون بالغد الأجمل ،

يسجلون في مفكرة العقل والذاكرة كل الأحداث التي يعيشونها لأنها التي  ستكون ( هُم )يوماً من الأيام ،، .

      سيشتاقون دوماً  إليها ،

      سيحنون لكل مافيها ،

      سيرجون الزمن لو عاد بهم  يوماً كي يجلسوا  على رصيفهم  العتيق يجترون ذكرى  من عبروا الدروب وغابوا ،،،

        فمنهم من ارتحل غريباً في بلاد سكبت قسوتها في قلوب الغائبين فأدمنوا الاغتراب ولم  يعودوا بعد ، وكلما مرت الليالي عليهم زادتهم بعداً واغتراباً حتى استوطنوا الرحيل ،،،،

            ومنهم من رحل عندما لم يجد مايأخذه حين كانت المصلحة خيطاً يربطه بما يطلق عليها بسذاجة الأطفال (صداقة )

          ومنهم من رحل تلبيةً لرغبة الأقدار التي تخطفته حين كان لا يزال يبني فوق السحاب حلماً لم يكتمل ،،

        (كل دروب الرحيل موجعة وإن تعددت أسبابها . )

    يفتح عينيه ،  فيجد أخوانه وأخواته  الصغار قد كبروا فغابوا ، وهو يجلس وحيداً يحدث نفسه ، بشعره الابيض ، ونظاراته السميكة ، وعيون يملؤها الحنين ،،، وبين أصابعه هوية جامعية ،،،

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

تعليق واحد

  1. أعجبتني بقوة ..تذكرت بعضا من طلاسيمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *