فـمٌ .. بِربطةِ عُنُق

قصة قصيرة

 

فـمٌ .. بِربطةِ عُنُق

 

حسن حصاري / المغرب

 

 داهمني بغتة شرودٌ غريب بسبب ما بذلته من جُهد تفكير صباح ذلك اليوم، وأنا جالسٌ رفقة صديقي محمد مساء بأحد المقاهي المتواجدة بشاطئ المدينة. أطلقتُ العنان لنظري لكي يسرح بعيدا إلى ما وراء أفق البحر أمامي. وكأني أجلسُ وحيدا أتأمل ما بدواخلي، كسرَ صوتُ صديقي هدوء احساسي بخلوةٍ عابرة وهو يخاطبني بمرح قائلا: انظر إلى هذا البحر، هل كنت ستجده في مكان غير هذا .. ؟

أومأت له تأكيدا بإشارة من رأسي، نظرت إليه بتفاؤل، تعبيرا عن امتناني له.

 كنت على وشك من أن أُلحقَ للعمل بإحدى الجماعات القروية، بمنطقة قد تكون جد نائية، بصفتي موظفا حديث العهد بالتخرج، وهذا ما كانت تشعرني به وبإمعان، تعابير نظرات ملتبسة، لموظف بإدارة اقليم، عهد إليه باستقبال الموظفين الجُدد بأسلوب مختلف، أحسست باتسامِه بنبرة من العجرفة.

 سألني وهو يتطلع بين الحين والآخر، إلى وثائق يمسكها بين يديه، عن وجهة قدومي، بطريقة لا مبالية، وكأنه لا يهمه أمر ولوجي مكتبه.

 أجبته فورا: من الدار البيضاء سيدي ..

ثم أضفت: أنا موظف مُجاز في الأدب العربي، ولا زلت أتابع دراستي العليا بالسلك الثالث بجامعة محمد الخامس بالرباط.

كنت أقصد بإخباره سريعا بهذه المعلومة، وأنا أقف أمامه بارتباك، استجداء عطفه لكي يراعي صفتي تلك، في أمر تعييني. التعيين على الأقل، بمنطقة قروية على مقربة من المسالك الطرقية والمواصلات، تسهل عليَّ عملية التنقل كلما تطلب مني الأمر ذلك.

هكذا توهمت بسذاجة، بأني سأحظى بتقدير الاستفادة من تعيين يراعي وضعيتي كموظف جديد لا زال يتابع دراسته الجامعية. لكن الموظف، والذي كان يتهيأ لي وهو مُتربع بِزهو في مقعده الوثير، بقامته القصيرة الضخمة، بوجهه الدائري الممتلئ، شاربه الكث الأسود، بذلته الزرقاء، ربطة عنقه البنفسجية، وأنا الوافد الجديد الى الإدارة بغير سابق تجربة، أنه رجل سلطة كبير، يثير بشكله الأنيق المهابة، مما جعلني أقف أمامه كتلميذ أخرس، يحترس من أن يصدر عنه ما يغضب معاليه، حتى أني ظللت واقفا أمامه لمدة ليست بالقصيرة، لم يدعوني فيها حتى إلى الجلوس. مما جعل ظني يترجم بسوء فهم، أن طريقته التي بدت جافة معي، ربما هو أسلوب خاص به لترويضي منذ البداية على الإذعان والطاعة ..

أدركت حينها وأنا أقف أمام هذا الكائن الإداري الغريب عليَّ، بأنه ينبغي أن أسلم أمري لله، فلا مفر من ابتلاء جديد ينتظرني بجماعة قروية نائية، قد أتلعثم حتى في نطق اسمها. جماعة قروية، تراءت لي في لحظة قلق، منزوية بعمق في المجال القروي الممتد على مساحات شاسعة، حيث لا مسالك طرقية، لا مواصلات، ولا شروط عيش مقبول تلائمني نسبيا، أنا الذي فتحت عيني بمدينة كبيرة جدا، تتوفر على كل شيء، ولا تفتقد أي شيء. ها أنا أجد نفسي أخيرا، مرتبكا بإحساسي من اختيار وظيفي لم أقدر جيدا تبعاته، وأنا الذي استسغت بصعوبة وحيرة، متابعة تكويني الإداري الذي حاولت الانقطاع عنه، لعدم اقتناعي بحسن اختيار طريق مستقبلي المتمثل، في أن أصبح فقط، أستاذا للغة العربية. حيث أجدني اليوم، ناقضا للعهد مع نفسي. وها أنا منذ هذه اللحظة، سأصبح وافدا جديدا على الوظيفة العمومية بتكوين اداري، لم يكن يشغل بالي ولا تفكيري اطلاقا، لبُعده عن مجال تكويني الأدبي، الذي قضيت في تحصيله أغلب سنوات دراستي.  تذكرت حينها بأسى، مصير العديد من متدربي فوجي المتخرج حديثا، والذين طوحت بهم أقدار قرارات التعيين بمناطق عمل نائية، لم يتصوروا يوما، بأنها أمكنة جغرافية، لها وجود حقيقي بخريطة البلاد، حتى أن بعضا من أسمائها تثير الدهشة أو الضحك لغرابتها.

رفع الموظف رأسه نحوي بخفة، قطبَ ما بين حاجبيه، حدقَّ بي مَليا، عدَّل ربطة عنقه، وفتح فمه ذو الشفتين الداكنتين من دخان السجائر قائلا:

 –  مَا كايَنْ غِير ” العْرُوبٍية “، أما  ” المْدِينة ” ماكاينْ وَالو..

 قالها بطريقة يشوبها بعضا من تهكم، وهو ينظر إليَّ بنظرات مُبهمة توحي لي بواجب الاستسلام وقبول ما سوف يجود به عليَّ من تعيين، وفق ما يراه يليق بمُلتحق جديد بالوظيفة. نظرات ماكرة، أحسست يومها بأنها دقت آخر مسمار نعش نهاية حلم طالب جامعي متفائل، بأن يكون أستاذا وأديبا. أدركت أيضا، وأنا غارق في إحساس تأنيب الضمير، بأني لم أكن صلبا وعنيدا من أجل تحقيقه، تخليت عنه في أول فرصة عمل صادفتها بشروط لا تناسبني، مُبررا هذا الإعراض عنه، بقسوة الواقع المادي عليَّ. اغرورقت عيناي بالأسى والحزن. ويا للمفارقة الغريبة .. هل كان عليَّ حقا أن أحس بالندم، وأنا المقبل على العمل لبناء أسرتي الصغيرة؟

 لم يترك لي الموظف مجالا للحديث، ولا للتفوه بكلمة، ولا لأخذ وجهة نظري فيما سيقرره بشأن مقر التعيين. كان يتكلم معي بأسلوبٍ مُقل وبارد. فما كان باستطاعتي وأنا الحديث العهد بالعمل بدواليب الإدارة، وما تمارسه عليك من رهبة في بداية المشوار، أن أعترض على ما يقوله، سوى ابتلاع خيبتي بصمت.

 انسحبت فورا من مكتبه منزعجا حتى دون السلام عليه. توجهت مباشرة إلى مكتب صديقي محمد والذي كان بدوره مسؤولا بنفس الإدارة، حيث توثقت صداقتي به حين قضينا معا فترة التكوين لمدة سنتين. استقبلني ببشاشته المعهودة. أخبرته فورا بما أبلغني به الموظف في شأن تعييني النهائي، نظر إلي صديقي نظرة اطمئنان، أشعرني بنظرته تلك، بأنه سيعمل على مساعدتي قدر الإمكان.

في المقهى الشاطئية تلك، حيث كنا جالسين، استجمعت أنفاسي من جديد، أعدت لأكثر من مرة قراءة مذكرة تعييني التي أمدني بها صديقي للعمل بنفس المدينة الشاطئية، نظرت بتركيز عميق إلى البحر الأزرق، أدهشني انسياب أمواجه الصغيرة إلى الشاطئ الرملي في إيقاع هادئ .. هادئ حد الصمت ..

تساءلت بقلق:

كم سيظل موج بحر هذه المدينة الشاطئية ساكنا؟ كم سيظل ..؟

وهل أستطيع حقا انقاد نفسي من الغرق فيه حين تشتد عواصفه ..؟

.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

تعليق واحد

  1. أعجبتني…موفق يا رب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *