مهنّا الدرَّة: صورة من بعيد

هاني حوراني

 

أواخر تشرين الثاني 2018، أقيم في المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة في منطقة اللويبدة في عمّان معرض استعادي[1] لأعمال الفنان الأردني مهنّا الدرة، الذي رحل عنّا مطلع العام الحالي؛ معرض

حضرته شخصيات من خلفيات وأعمار مختلفة، تنوّعت بين جهات رسمية، وتلاميذ مخضرمين للدرّة باتوا زملاءه، وشباب وشابات تتلمذوا على يده، سواء من خريجي كلية الفنون الجميلة في الجامعة الأردنية، أو ممن مروا على مرسمه، يتسابقون على التقاط الصور التذكارية معه.

للوصول إلى المعرض، احتجت إلى الطواف بالمتحف عدّة مرّات بحثًا عن مكان أركن سيارتي فيه، إذ شهدت اللويبدة يومها بسبب المعرض والإقبال عليه أزمة سير، ربما غير مسبوقة.

كنّا جميعًا هناك للاحتفاء بمهنّا الدرّة، الذي كان وقتها قد بلغ الثمانين من عمره، في كامل لياقته، لم تغادر الابتسامة وجهه. وكان مفعمًا بالسعادة والحيوية، كما لو أنه استعاد شبابه خصيصًا لتلك الليلة التي لم يشهد في مسيرته الطويلة، نظيرًا لها.

مع مهنا الدرة في سن مبكرة

ذكرني هذا الاحتفاء المتأخر بالدرّة، بشريط ذكريات طويل، ولكن متقطّع، من علاقتي به، والتي بدأت منذ شبابي المبكر.

في مطلع الستينيات، أسّس والدي مع شركاء مطعمًا في شارع الملك حسين في وسط البلد، ولأن أحد الشركاء من أصول تونسية، فقد اختير للمطعم اسم القيروان، وأُثّث على الطراز المغربي، ليرسم الدرّة عدة جداريات كبيرة في المطعم من وحي الأجواء الأندلسية. وقد نفذها على ألواح من الخشب المضغوط (MDF)، بألوان الأكريليك، وبأسلوبه المميز بضربات الفرشاة القوية والحرة. وقد عكست تلك اللوحات الأجواء الشرقية الصاخبة بالألوان التي تمثل هوية المطعم. ولا زلت، إلى الآن، أذكر كيف كان مهنّا يؤسس للوحاته بطبقة أولى من الألوان الدافئة المجرّدة، قبل أن يضع خطوطه الرئيسية باللون الأزرق، ثم يعود ليكسو المساحات المختلفة بطبقات من المعاجين اللونية السميكة، والتي باتت من السمات المميزة لأعماله.

جانب من المعرض الاستعادي لأعمال مهنا الدرة، تصوير هاني حوارني. وصورة تجمع الدرة بالكاتب.

رغم أنني لم أحظ بفرصة تلقي دروس في الرسم على يديه، إلّا أنني شاركت في ورشة رسم أشرف عليها ونفذت في مقر «ندوة الرسم والنحت الأردنية». وهي جمعية للفنانين التشكيليين تأسست في أوائل الستينيات. في تلك الورشة رسمت فردة حذاء قديمة ملقاة على سطح كرسي من القش، وقد لفت نظر مهنا أن فردة الحذاء القديم على حافة سطح الكرسي توحي باحتمال وقوعها في أي لحظة، مما يولد في المشاهد نوعًا من الترقب والقلق لوضعيتها غير المستقرة، ولست أدري لليوم إن كان مهنا الدرة بملاحظته تلك ينتقد العمل أم يمتدحه.

وفي أواسط الستينيات، كنت أجد الشجاعة في نفسي، كشاب أقام أول معارضه الشخصية عام 1964، قبل أن يتخرج من الثانوية العامة، وكعضو في «ندوة الرسم والنحت الأردنية»، لزيارة مهنا الدرة في مكتبه بوزارة الإعلام، لأجده -غالبًا- محاطًا بثلة من أصدقائه. وفي إحدى الزيارات للمرسم اكتشفت أن الدرّة سيخلي المرسم لأنه سيغادر الأردن في مهمة دبلوماسية، فوجدتها فرصة سانحة واستأجرت الاستديو ذاته، الذي كان قبوًا من ثلاث غرف مطلة على حديقة خلفية حافلة بالأشجار المثمرة، ولا سيما الليمون والكرز، يقع في شارع قريب من الدوار الثالث في جبل عمان.

مهنا الدرة: سيرة فنية

ولد مهنا الدرة في عمان، في 18 آذار 1938، لأسرة من أصول لبنانية، ولم يكن حينها قد مر على نشأة الدولة الأردنية سوى 17 عامًا. ومثل العديد من المثقفين والكفاءات العربية ذات التكوين العلمي والمهني المتقدم، حلّ سعيد الدرة، والد مهنا، في الأردن ليعمل في سلك التعليم، حيث تنقل ما بين المدن الأردنية معلّمًا أو مديرًا للمدارس الحكومية، ثم مفتشًا في وزارة المعارف.

ونشأ مهنا، مثل بقية إخوته، في بيئة عائلية واجتماعية منفتحة. ورغم أن الأسرة لم تعرف بثرائها، إلا أنها تمتعت، بفضل الخلفية المهنية لوالد مهنا، بدخل جيد، وبمكانة اجتماعية مميّزة، باعتبارها جزءًا من «النخبة المتعلمة» التي تتشاطر أسلوب الحياة والاهتمامات مع العمانيين ذوي الأصول المشرقية.

تشي أحاديث مهنّا عن طفولته بتأثره بأجواء وسط عمان القديمة، وتحديدًا بمجرى النهر (السيل) الذي كان يشق المدينة، حيث شيّد العمانيون الأوائل بيوتهم الطينية على ضفافه.

ومثلما ترك وسط المدينة القديمة بصماته على ذاكرة العديد من العمانيين القدماء، مثل عبد الرحمن منيف في كتابه الشهير «سيرة مدينة» ومنيف الرزاز في «رسائل إلى أولادي»، وعبد الرحمن شقير في مذكراته «من قاسيون إلى ربة عمون»، فإن مهنا الدرة سوف يستعيد بعض الملامح العمّانية المبكرة في سيرته الذاتية المقتضبة، كما في أعماله المبكرة.

من أعمال مهنا الدرة المبكرة.

الكرك وعمان في ذاكرة مهنا الدرة

مطلع الأربعينيات، عاشت الأسرة في الكرك لأن الوالد كان قد عيّن مديرًا للمدرسة الحكومية هناك، وفي سيرته الذاتية الصادرة بالإنجليزية عن دار (Traversa Libris) عام 1998،[2] يروي مهنّا تذكّره لصور مبكرة عن حديقة مدرسة الكرك، والحكايات المحلية التي تروى غالبًا للأطفال عن قلعة الكرك، حيث يختفي الناس الذين دخلوا إلى غرفها المظلمة التي يقطنها الجن والغيلان ولا يعودون أبدًا!

لكن الفقرات الأوسع من ذكريات طفولته كانت عن وسط عمان، وعن السيل الذي يقطع المدينة، يقول مهنا إن عمان كانت مكانًا هادئًا، لا تتجاوز في حجمها حجم قرية. ويروى كيف أن مياه السيل كانت تفيض مرّة على الأقل في السنة، لتصل إلى مستوى الجسر الحجري القديم المقام على السيل، وتختزن ذاكرته عن ذلك الفيضان الدراماتيكي صورًا بصرية لقبعات رأس وقطع أثاث عائمة على سطح الماء، ثم ينتقل مهنا في سيرته إلى الحديث عن معاناته اليومية في الذهاب إلى المدرسة مارًا بالمدرج الروماني، وكيف كان عليه، وهو يسير بمحاذاة السيل، أن يقطعه في أحد المراحل ليصل إلى المدرسة، ولا بد أنها المدرسة العسبلية، أقدم مدارس عمان، والتي كانت قائمة إلى جوار المدرج الروماني. يقول مهنا إن قطع السيل من فوق صف الحجارة التي تصله بالضفة الأخرى كان يحتاج إلى مهارة خاصة، إذ كان عليه أن يقرر على أي من الحجارة ذات الأشكال غير المنتظمة يجب أن يدوس، فإذا وقع في خطأ واحد سقط في الماء وتبلل بنطاله، وفي هذه الحالة كان عليه أن يعود إلى البيت، وأن يعاقب على تأخره أو أن يتبع المسير إلى المدرسة ببنطاله المبلل.

ومع ذلك، كان السيل المتقلب صديقًا لمهنا، وحسب قوله «فقد لعب دورًا مركزيًا في مقتبل حياته». حيث ظل يتذكر تحولات ذلك السيل وأمواجه الرقيقة التي تتراقص مثل صفائح الفضة، والانعكاسات المتضاربة التي يحدثها تغير الضوء. أمّا في الليل فيتذكر الدرة كيف كانت تنعكس أضواء نوافذ البيوت الطينية الصغيرة الرابضة على ضفتيه على سطح المياه.

وفي مقطع آخر من روايته لسيرته، يتحدث مهنا عن خيبة أمله بما حلّ بعمان القديمة، أو وسط البلد، من تغيرات دراماتيكية أطاحت بكل الصور الرومانسية التي كانت يحتفظ بها عن المدينة. ويقول إنه رغم كون سيل عمان الصغير لم يكن قد جف بعد، إلا أن شارعًا من الأسفلت السميك كان قد غطى ما تبقى من السيل، وحُوّلت نحوه أنظمة التصريف الصحي للمدينة، وأمّا البيوت الصغيرة اللطيفة التي كانت صورها تنعكس على مجرى السيل، فقد جُرّفت بلا رحمة، وراحت معها مشاهد الحقول الخضراء التي كانت تميز المدينة، لتحل محلها غابة من المكعبات البيضاء، ومبانٍ مزدحمة تعلوها خزانات المياه المعدنية، وفي أعلى المباني كانت قضبان حديدية تغطي الأسطح على أمل أن يتم بناء طوابق جديدة فوقها.

في كتابه، ينتقد مهنا الدرة الحداثة المعمارية التي حولت عمان، مثل غيرها من العواصم العربية، إلى غابة من الإسمنت، وينتقد الذوق السائد في الأبنية الحديثة، حيث تعلوها رموز أخرى للحداثة: اللاقطات (الأنتينات) المعدنية المنتشرة على مدّ النظر، والتي يأخذ بعضها شكل برج إيفل الفرنسي، باعتباره التصميم الأشهر لأنتينات عمان حينذاك.

الدروس الأولى في الرسم

يروي مهنا كيف كان مغرمًا برسم الوجوه والأشخاص، وأن والده قد اصطحبه وله من العمر تسع سنوات إلى استوديو جورج ألييف، الذي كان ضابطًا روسيًا في الجيش القيصري وفنانًا تقليديًا، يشبه إحدى شخصيات الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، بلحيته الرمادية وشاربيه المقوسين للأعلى. ومن هذا الفنان، يقول مهنا، إنه تعرّف لأول مرة على أساسيات الرسم المائي والتخطيط، «لقد كانت أولى كشوفي في المعرفة الفنية، وقد أحسست بعدها أنني جاهز لمواجهة العالم». وفيما بعد سوف يرسم مهنا صورةً شخصيةً لجورج ألييف، تقديرًا واحترامًا لهذا الفنان.

أمّا أولى المؤثرات في تكوين مهنا الفنّي فهي أعمال الفنان الكبير رامبرنت. وقد تعرّف عليه من خلال فنّان هولندي عمل في عمان في الخمسينيات هو وليم هالوين (William Hallowin). يقول مهنا: «لسنوات عديدة لاحقة كان لهذا اللقاء [بأعمال رامبرنت] تأثير ضخم على طريقتي في النظر إلى الأشياء، وأصبحت مغرمًا بالقوة الآسرة للضوء».

مهنا: جائزة أولى في الرسم

مطلع الخمسينيات، أسس كمال عودة معهد النهضة العلمي، وعنه انبثقت أول هيئة أهلية لرعاية الفنون، وهي «ندوة الفن الأردنية»، التي نشطت في إقامة المعارض الجماعية وتنظيم المسابقات الفنية. وقد حصل مهنا الدرة، وعمره حينها 15 عامًا، على الجائزة الأولى لفن الرسم للأحداث.[3]

وفي العام التالي، 1954، حصل الدرّة على بعثة من وزارة المعارف للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة في إيطاليا. وبعد بعض التردد، بين القبول بالتحاق ابنه بأكاديمية الفنون في روما، وبين اختيار تخصص أكثر جدية وقبولًا في المجتمع، اختار الوالد، سعيد الدرّة، بعد استشارة أصدقاء، احترام رغبة ابنه الموهوب بدل دراسة تخصصات لا يحبها وقد لا يفلح فيها.[4] وبالفعل، اصطحب الأب ابنه إلى بيروت، ومن هناك طار مهنّا إلى روما، حيث التحق بأكاديمية الفنون الجميلة، ليتخرّج بعد أربع سنوات (1958) ويعود إلى عمان.

عند وصوله إلى إيطاليا، التحق الدرّة بداية بدورة في اللغة الإيطالية في جامعة خاصة بالأجانب في بيروجيا، تمهيدًا لدراسته في أكاديمية روما للفنون الجميلة. هذه الفترة كانت لحظة احتكاكه الأولى بأعمال فناني العصور الوسطى وعصر النهضة الإيطالي، وبالإرث المعماري الإيطالي، وقد ظلّت تلازمه صور تلك الفترة والمعارف التي تراكمت لديه، سواء من خلال سيره اليومي في الشوارع، أو من خلال زيارته للمتاحف والكنائس الحافلة بأعمال فناني عصر النهضة. والملفت أن انطباعاته عن الأكاديمية، بعد التحاقه بها، كانت دون توقعاته، وهكذا حوّل اهتمامه نحو دراسة أساتذة عصر النهضة على الطبيعة، وهنا يتوقف مهنا بشكل خاص عند لوحة كارافيجيو الضخمة عن صلب القديس بيتر، والتي كانت تبعد عن أكاديمية الفنون عدة أمتار. فقد كانت هذه اللوحة «بمثابة هبة من السماء لي»، يقول مهنا، ويتابع: «ولذلك كانت المحطة اليومية للتأمل فيها كلما أخذت طريقي للدراسة».

في سيرته الذاتية، يقول الدرّة: «إن العيش في روما يعطيك الشعور بأنك تمشي على صفحات التاريخ»، ويردّ هذا الشعور إلى «الطاقة المنبعثة من جماليات عمارة المدينة»، والتي تنعش الروح وتشكل تجربة بصرية كبيرة في آن واحد، ولعل هذه الكلمات تفسر بصورة غير مباشرة، عودته المتكررة الى روما، تارة دبلوماسيًا أردنيًا وتارة سفيرًا لجامعة الدول العربية.

شهادة بأول جائزة ينالها مهنا الدرة في سن 15 عامًا. وصورة في روما تعود إلى أواسط الخمسينيات، والأغلب أنها لزملاء مهنا الدرة (وسط) في أكاديمية الفنون الجميلة بروما، يُعرف منهم الفنان السوري لؤي كيالي (يمين).

مهنا الدرة معلمًا

في أواخر عام 1959، كان مهنا قد عاد لعمان، وكان على خريج الفنون الجميلة أن يجد لنفسه عملًا. وفي شباط 1960، عُيّن مهنا سعيد الدرة معلمًا من الدرجة السابعة في ملاك وزارة التربية والتعليم، مع التوصية بإعطائه راتب السنة الثالثة، اعتبارًا من تاريخ مباشرته العمل في مدرسة ضرار بن الأزور للبنين.

وبحسب سيرته الذاتية، فقد عمل في تلك المدرسة سبعة أشهر فقط. أتاحت له هذه التجربة «مراقبة تعبير وجوه الأولاد البسيطة، عفويتهم والصدق الطبيعي لديهم، وهو ما شكل تجربة نادرة لي». لكنه يردف: «لقد شعرت باليأس، وأني غير قادر على أن أخبرهم ماذا عليهم أن يفعلوا أو ما لا يفعلوه». وبينما غبطهم على ما يملكون من مزايا، فإنه لم يمنع نفسه من التساؤل عن مصير هذه المواهب الإبداعية العفوية، التي يخشى عليها من التخريب على يد النظام المدرسي.

بعد هذه التجربة القصيرة، انتقل مهنّا لتدريس الفنون في معهد معلمي عمان لمدة عامين، لكن الملفت أن الدرّة لم يقل الكثير في سيرته عن هذه التجربة.

يقول مهنّا إن إقامته في عمان، بعد عودته من إيطاليا، كانت ستكون قاتمة ومملّة لولا تعرّفه إلى الفنان الإيطالي، المقيم في عمّان، أرماندو برون (Armando Pron)، والذي كان موسيقيًا، ورسّامًا علّم نفسه بنفسه، وكان معروفًا برسومه عن المناظر الطبيعة والطبيعة الصامتة، حيث تتميز رسوماته بقوة الضوء فيها. ورغم اختلاف أسلوبيهما في الرسم، فقد جمعتهما الصداقة والمناقشات المستفيضة في قضايا الفن التشكيلي وعلاقته القوية بالموسيقى.[5]

من عمان إلى روما وبالعكس

لم تطل إقامة الدرّة في عمان، إذ كان قد نجح في الحصول على وظيفة ملحق إعلامي في السفارة الأردنية في روما، وقد استمر عمله هناك لمدة ثلاث سنوات، حتى عام 1964، لينقل فجأة للعمل في مطار عمّان في منطقة ماركا، وبعدها بأشهر، تدخل الشريف عبد الحميد شرف[6] لإعادته إلى وظيفته السابقة، ملحقًا إعلاميًا في روما.

لا يتحدث مهنا عن وظيفته الرسمية كملحق إعلامي في السفارة الأردنية في روما، لكنه يشير إلى أن تركيزه خلال السنوات الثلاث التي قضاها في روما كان على لوحات البورتريه التي كان ينجزها هناك، وبدرجة أقلّ على تجاربه التجريدية. ومع عودته إلى عمان حلّ مهنا في الاستوديو الذي كان يشغله أرماندو برون، كما ورث تلاميذه، بعد أن قرر الأخير مغادرة الأردن نهائيًا.

كانت عودة مهنا إلى عمان بعد ثلاث سنوات مرهقة من العمل في العاصمة الإيطالية، بمثابة استراحة له، حيث أعطته عمان الكثير من السلام الذي كان بحاجة إليه، حسب تعبيره.

بغرابة، لا تتطرق سيرة مهنّا إلى السنوات التي قضاها في عمّان، قبل أن يعود إلى روما للمرّة الثالثة مستشارًا ثقافيًا للسفارة الأردنية هناك.

في عمّان، عمل الدرّة موظفًا في دائرة الثقافة والفنون التابعة لوزارة الإعلام، اعتبارًا من عام 1964، وأسس خلال ذلك قسمًا للفنون الجميلة ضمن تلك الدائرة. وقد تزامنت وظيفته هذه مع شغل الشريف عبد الحميد شرف لأول منصب وزاري، حيث عُيّن وزيرًا للإعلام في عام 1965. وخلال تلك السنوات كان مكتب مهنا الدرة في وزارة الإعلام أشبه بمنتدى أو ديوان فني، يلتقي فيه بصورة يومية أصدقاءه والمنشغلون بالشأن الثقافي والفني.

بعد عودته إلى روما بين عامي 1969 و1970 تشارك مهنا الدرّة والفنان العراقي الراحل خالد الرحال استوديو الرسم ذاته، إذ كانا زميلين منذ أيام الدراسة الأكاديمية، كما يشير الدرّة إلى تجاربهما مع التقنيات الفنية الغريبة على الوسائط المختلفة.

في تلك الفترة، كان مهنا، قد أصبح معروفًا خارج الأردن من خلال المعارض الشخصية القليلة التي أقامها في السنوات السابقة، ومنها معرضان في روما وفلورنسا. ويشير تعريف سريع لمساره الفني أنه أقام أيضًا معرضًا في الاتحاد السوفياتي، لكن دون تحديد تاريخه أو مكانه بالضبط.

من أعمال مهنا الدرة «الواقعية التعبيرية».

أمّا على الصعيد المحلي؛ فقد توّج مهنا الدرة باعتباره فنان الأردن التشكيلي الأبرز، وقد مثّل أيقونة فنية للنخبة الرسمية، وخاصة جرّاء سلسلة لوحات البورتريه، والتي رسمها لوجوه رجال من البادية الأردنية، تلك الوجوه التي لوحتها أشعة الشمس، إضافة إلى وجوه رجال ونساء من الريف بثياب تقليدية. ورغم أن مهنا الدرة لم يكن معجبًا بفكرة أن يكون جزءًا من «الفلكلور الأردني»، أو أن يعامل فنه، كما لو كان مجرد «وثيقة اجتماعية» عن الواقع الأردني، إلّا أنه، في واقع الأمر، ملأ الفراغ الذي تعاني منه عملية تكريس الهوية الأردنية في المجال البصري، وهي المهمة التي ميزت السنوات المتأخرة من الخمسينيات وعقد الستينيات من القرن المنصرم، حين كانت الدولة الأردنية تجاهد لإثبات نفسها في مواجهة المد القومي العروبي؛ الناصري والبعثي، عن طريق بناء هوية وطنية جامعة، وسردية ثقافية وفنية خاصة بها.

في سيرته الذاتية المختصرة التي كتبها لنفسه، يحاجج مهنا الدرة ضد التصنيفات الرسمية والإعلامية التي أطلقت عليه، وبينما يوافق على مقولة أن «عمل الفنان يعكس بيئته الخاصة»، إلا أنه يرفض تنميطه، كما لو أن فنه مجرد تفسير أو شرح لمحيطه المباشر. ويتحدث أكثر عن افتتانه بوجوه رجال البادية، وكأن اهتمامه بتصويرهم في سلسلة طويلة من اللوحات، ما هو إلا انعكاس لرغبة ذاتية، وليس استجابة واعية، أو غير واعية، لحاجته للاعتراف به ممثلًا للفن التشكيلي الأردني بالمعنى الرسمي.

تأسيس معهد الفنون

في مطلع السبعينيات يعود مهنا الدرة إلى عمان لينغمس في أهم عمل مؤسسي قام به في مسيرته الطويلة، فقد قام بتأسيس أول معهد للفنون الجميلة في الأردن، وكان تابعًا لدائرة الثقافة والفنون التي تحولت بدورها إلى وزارة مستقلة للثقافة والشباب في عام 1977. يروي مازن عصفور، الأستاذ في كلية الفنون في الجامعة الأردنية، في أكثر من شهادة[7] مكتوبة، الطريقة التي عمل بها مهنا الدرة لتأسيس المعهد من العدم، وبإمكانيات محدودة. وبطبيعة الحال فقد تولى مهنا إدارة هذا المعهد، الذي خرَّج العديد من الفنانين المكرسين والمعروفين، مثل نبيل شحادة وعمر حمدان وجلال عريقات، إضافة إلى مازن عصفور. كما ساعد المعهد، تحت إدارة مهنا الدرة في إيفادهم ببعثات دراسية أكاديمية إلى إيطاليا وبريطانيا، ولم يتردد في رعاية أمورهم إبان دراستهم حتى بعد مغادرته الأردن. وقد أعيدت تسمية المعهد تكريمًا للدرة، فصار اسمه: مركز مهنا الدرة لتدريب الفنون.

وفي شهادته، يروي مازن عصفور قصة إنشاء المعهد بصورة مثيرة للغاية، حيث تكشف روايته عن صورة غير مألوفة لمهنا الدرة: «أي صورته كفنان ميداني»، قريب من تلاميذه، في مواجهة الصورة النمطية عنه باعتباره فنان النخبة.

في عام 1975، عُيّن مهنا الدرة مديرًا عامًا لدائرة الثقافة والفنون. وفي عام 1977 حظِى الدرة بجائزة الدولة التقديرية لإنجازاته في تطوير الثقافة، كما تلقى في العام التالي، 1978، الميدالية الذهبية لوزارة الثقافة والتراث الإيطالي، وفي العام نفسه حلّ استاذًا زائرًا على منتدى سانت بورغ للدراسات الأمريكية.

عقدان خارج الأردن

واعتبارًا من مطلع ثمانينيات القرن الماضي وحتى مطلع الألفية سيغيب مهنا الدرة عن الأردن، ليشغل مناصب دبلوماسية عدة في جامعة الدول العربية. ففي العام 1980 عُيّن مديرًا للشؤون الثقافية في جامعة الدول العربية في القاهرة، ثم شغل منصب سفير الجامعة العربية في روما لمدة ثماني سنوات من 1981 وحتى 1988، وانتقل، بعدها، إلى تونس مديرًا لدى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وفي عام 1989 حلّ في القاهرة ليشغل ذات الموقع السابق. وكانت خاتمة مطاف عمله في السلك الدبلوماسي، سفيرًا لدى جامعة الدول العربية في موسكو، بين العامين 1990 و2001.

يقول مهنا الدرة عن مسيرته الطويلة خارج الأردن: «لطالما اعتبرت نفسي سائحًا مدفوع الأجر، لا يستمتع فقط بزيارة بلدان جديدة، وإنما يعيش فيها بشكل مكثف ويكتسب خبرات ثقافية وإنسانية جديدة من خلال هذا الاتصال المباشر». وحول خدمته الطويلة في الحكومة يقول: «لم يكن على أن أعتمد على بيع اللوحات كمصدر رزق لي، وكنت سعيدًا جدًا بأن أختار نمطي الخاص الذي يعجبني»، لكن في الوقت نفسه يقول الصحفي براين سكانيل، والذي أجرى آخر مقابلة مع مهنّا الدرّة، وكانت في عام 2011: «كانت هناك أجزاء مهمة من حياته الدبلوماسية حيث شعر أنه يلعب دور المهرج، (..) حيث كان خياره الوحيد هو تجاهل عالم من الأكاذيب ولعب الدور الذي أعطي له».

أمّا العقدان الأخيران في حياته، فقد قضاهما متفرغًا في الاستوديو الخاص به، وفي إعطاء محاضرات في تاريخ الفن في مؤسسة خالد شومان، دارة الفنون (2002)، ثم مدرّسًا ومحاضرًا في كلية الفنون والتصميم في الجامعة الأردنية، منذ عام 2003 ولسنوات عديدة لاحقة، هذا وقد ترأس الدرة رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين لمرة واحدة، وذلك في العام 2005.

قراءات في تجربة مهنا الدرة

في مقال له، من العام 1990، عن المصادر والمرجعيات التي تأثر بها الدرة، يقول برونو مونتورا (Bruno Mantura)، القيّم على المتحف الوطني للفن الحديث في روما، إن تجربة الدرة قد تشكّلت من خلال بحر من المرجعيات والمصادر الثقافية، التي تغلب عليها المصادر الإيطالية، ويضيف أن إقامته الطويلة في روما قد حددت مسيرته كرسام، حيث تشكل في ظل المناخ الثقافي السائد حينذاك، ورسمت معالم شخصيته الفنية من خلال بحثه المكثف وتجاربه الحرّة.[8]

وبينما لم يتأثر الدرّة بمعلمه الأول في أكاديمية الفنون، فيروكيو فيرازي (Feruuccio Ferrazii)، فإن تأثّره المبكّر برامبرنت ظهر جليًا في رسمه للأشخاص ورسم الوجوه، حيث أضفى عليها إحساسًا فنيًا حديثًا، وهي المعالجات التي كانت قريبة بشكل ما من تجارب الفنان الإيطالي أفرو (Afro) في أواسط الخمسينيات، والتي تعكس ميلًا قويًا نحو التعبيرية.

إن موقف مهنا الدرة السلبي من إقامة معارض شخصية لأعماله، خاصة على الصعيد المحلي والعربي، يفسر لنا محدودية معرفة الجمهور، بل وحتى معرفة الأوساط التشكيلية العربية بأعماله.

ويرصد مانتورا انخراط الفنان الشاب مهنا الدرة في حقل واسع من التجارب الفنية، حيث انتهى إلى اختيار مسارات محددة، كانت حسب تعبيره مسارات إلزامية. وبينما تراجعت أهمية رسم الشخوص في أعماله، فقد حل مكانها خطاب جديد يتعامل مع الكتلة والحجم والكثافة. لقد ظهر هذا أولًا في رسمه للمشاهد الطبيعية، مقتربًا من «المدرسة الطبيعية»، ومن أعمال ميرلوتي (Merlotti) التي كانت مصدر راحة كبيرة للدرّة.

هذا ويجد مانتورا صلة قوية بين تحولات الدرّة التدريجية نحو التجريد، ولا سيما من خلال استخدامه المواد الكثيفة وضربات الفرشاة القوية، وبين فنانين إيطاليين آخرين مثل مانديللي (Mandelli) وسانتوماسو (Santomaso) وبيرويللي (Birolli). وحتى عندما يشير مانتورا إلى تخلي الدرّة في بعض أعماله عن اللونين المفضلين له، وهما الأحمر والأزرق، ويتبنى بدلًا عنهما الأخضر والبيج، فإنه يربط هذا الاستثناء ببعض أعمال توركاتو (Turcato) في نهاية الخمسينيات.

يتفق الناقد الفني أسعد عرابي[9] مع ما ذهب إليه مانتورا حول وجود بذور إيطالية، وبالأحرى روميّة في أعمال مهنا الدرة. يقول عرابي إن «مدرسة روما تمثل بالنسبة إلى الدرة وطنه التشكيلي، رغم ارتباطه المعيشي والثقافي بعمان».

أمّا عن العلاقة بين مهنا الدرّة والتجريد الإيطالي، فيرى عرابي أن الدرّة كان «شريكًا مبادرًا في تيارها التجريدي وليس متأثرًا أكاديميًا حياديًا». ويربط تجريد الدرة «بالتجريد الغنائي» في مدرسة روما [إبّان الحرب العالمية الثانية]، وبجماعة المستقبليين» الذين شكلوا أبرز الحركات الحداثية في إيطاليا. وبعد أن يتتبع عرابي في شهادته التي حملت عنوان «أعمال مهنا الدرة في سياقها العربي والعالمي، وجوه من التجريد» تأثيرات مرجعية أخرى لأعمال مهنا الدرة، يرى عرابي أن تلك المصادر المتباعدة من التأثيرات الإيطالية والأوروبية والروسية، التي ظهرت في لوحات مهنا شكلت مولودًا توليفيًا جديدًا، وبالأحرى كينونة عضوية أشد تعقيدًا من مجرد الجمع بين هذه المرجعيات.

ويعطي عرابي أهمية كبيرة لمّا يسميه «المخزون الحدسي والانتماء الجغرافي»، حيث يرى أن اختيارات الدرة منذ بداياته كانت تمثل انعكاسًا لطبيعته الذوقية وحساسيته الفطرية المتوسطية المشرقية. ويضيف: «ترتبط هذه الذائقة بالبيئة الجغرافية المعاشة منذ الحبوات التخيلية الأولى، ابتداءً من خصائص الطقس وطبيعة إيقاع تواتر الفصول والأنواء، وانتهاءً بهوية الضوء المحلي ومشارفته لحرائق شموس البادية». هكذا يلحظ كيف تركت البيئة الطبيعية أو الحضرية، أثرها على أعمال الدرّة المبكرة، ثم كيف ظهرت عمائر عمان المائلة خلال أسفار غربته في روما، وكيف استمرت نكوصاته الذاكرية تفعل فعلها في الأعمال التي أنجزها في تونس ثم في موسكو. لكن عرابي يلاحظ خروج الدرة عن المألوف لدى مجايليه من الفنانين العرب الذين لجأوا إلى الحروفية لمنح لوحتهم هوية روحية أو ثقافية. إذ «لم يورط نفسه بالحرف والكتابة العربية».

وكان الدرّة قد قال في مقابلة أجراها: «هل يجب أن أرسم الخط العربي حتى يعرف الناس في أمريكا أني رسام عربي؟!»، ويعلق: «إنه لأمر خطير، ويمكن أن يكلف الفنان عفويته».

وينتهي عرابي إلى أن الدرة لم يكن ليرى حدودًا حاسمة ما بين شمال المتوسط وجنوبه، و«هو المسافر أبدًا، مثل بندول الساعة بين ضفتيه».

مكانة مهنا الدرة في الفن التشكيلي الأردني

ترك مهنا الدرة تأثيرًا قويًا على الحركة التشكيلية الأردنية، من خلال أعماله المبكرة المتحررة من التقاليد الكلاسيكية والواقعية العاطفية التي كانت تسم بدايات الحركة التشكيلية الأردنية. وقد فاجأ الدرة الوسط الفني بضربات فرشاته الحرة والجريئة على سطح لوحاته، والأهم من هذا كله بألوانه القوية والمضيئة وخامات مواده التي لم تكن مألوفة، وهي سمات تفارق ما اعتادت عليه العين في أعمال الفنانين الأردنيين المعاصرين له.

توزعت أعمال الدرة المبكرة ما بين رسم الوجوه والمشاهد المعمارية، مع غلبة واضحة للوحات الوجوه التي شملت أشخاصًا من البيئة المحلية، سواء أكانوا بدوًا أو جنودًا أو نساء بلباسهن التقليدي. لقد احتفى الدرّة بوجوه رجال البادية بتقاطيعها الحادة والملوحة بأشعة الشمس، دون أن يسقط في الاحتفائية الفولكلورية.

ومع إقامته المديدة خارج الأردن نحا أكثر فأكثر نحو التجريد والألوان الصريحة التي كانت تتوزع على مساحات اللوحة بإيقاعات أقرب ما تكون إلى المقطوعات الموسيقية. ورغم لجوئه في السنوات الأخيرة إلى استخدام الكولاج، لا سيما من القماش، وإلى الألوان الكثيفة، إلا أن هذا لم يؤثر على «أناقة» و«نظافة» ألوان لوحته. ومن ناحية أخرى، حلت في لوحات البورتريه التي ظلت ملازمة لأعماله التجريدية، وجوه المهرجين المغطاة بألوان المساحيق القوية، بدل الوجوه المحلية النمطية.

وقد أنتج في السنوات الأخيرة من حياته مجموعة من اللوحات المنفذة كليًا بأسلوب الكولاج، معتمدًا على الورق الملون وقصاصات من أعماله السابقة، وتضمنت موضوعات مختلفة، أبرزها الوجوه والشخوص.

تعددت خامات مهنا الدرة؛ فإلى جانب الألوان الزيتية والقماش، أدخل لأول مرة على الساحة التشكيلية الأردنية موادًا لم تكن مألوفة قبل ستينيات القرن الماضي، مثل ألوان الأكريليك، واستخدم ألواح الخشب المضغوط (MDF) محل القماش. هذا إلى جانب الأحبار والألوان المائية التي استخدمها في تنفيذ تخطيطاته الحرة.

ترك الدرّة بصماته الأسلوبية على عدد من الفنانين الأردنيين المجايلين له، ولا سيما على رفيق اللحام وتوفيق السيد. لكنّ إرثه الأكبر والأهم كان إدخال الحداثة الفنية إلى الحركة التشكيلية الأردنية، التي كانت أسيرة النزعات الأدبية والسردية، والتوظيف الساذج للفنّ في خدمة الموقف السياسي والمشاعر الوطنية.

أدخل مهنا الدرة الحداثة على شكل ومضمون الأعمال الفنية، فانطوت أعماله على جرأة أسلوبية في التعبير، من خلال خطوطه السريعة والقوية، وليدة اللحظة، على سطح القماش أو الجدار، واستخدامه موادًا تجعل من ملمس العمل الفني وتعدد طبقاته اللونية، جزءًا من جمالية العمل، عوضًا عن الملمس الناعم المميز للوحة الكلاسيكية، والتي كانت سيدة الموقف في المشهد التشكيلي الأردني المبكر. وفي زمن كانت العواطف الجياشة والحاجة إلى الرد على هزيمة العرب الكبرى في حرب 1948 هي سيدة الموقف في الأردن والمشرق العربي عمومًا، واجهَ الدرّة النزعة الإعلانية إلى تحويل اللوحة إلى ملصق سياسي، والنزعة الأدبية التي تجعل من اللوحة المرسومة نسخة عن قصيدة أو نص قصصي.

عمل تجريدي للفنان مهنا الدرة.

معارض مهنا الدرة وإرثه الفنيّ

في سيرته الذاتية الموجزة التي خطها عن نفسه، يقول الدرّة: «لم أكن حريصًا جدًا على إقامة المعارض، وأن ذلك (إن حدث) ففي الغالب بناء على إصرار الأصدقاء»، موضّحًا أنه لم يكن يرغب في التفكير في أي شيء غير الرسم. وربما هذا ما يفسّر قلّة عدد معارضه الشخصية، التي لا يوجد حتى الآن حصر دقيق لعددها أو أماكنها أو تواريخ إقامتها، سواء في الأردن أو حول العالم.

إن موقف مهنا الدرة السلبي من إقامة معارض شخصية لأعماله، خاصة على الصعيد المحلي والعربي، يفسر لنا محدودية معرفة الجمهور، بل وحتى معرفة الأوساط التشكيلية العربية بأعماله.

وتعود هذه المواقف السلبية من إقامة معارض شخصية لأعماله إلى نوع من «الفوقية الثقافية» تجاه جمهور المعارض، الذي كان الدرّة يعتقد أنه يفتقر إلى ثقافة بصرية تسمح له بقراءة الأعمال الفنية، ولذا كان الدرّة يشعر بالإحباط من التساؤلات التي يوجهها جمهور المشاهدين العاديين، وحتى المثقفين منهم، عن معنى أو مغزى هذه اللوحة أو تلك. وكان هذا النوع من الأسئلة يشعره بأنه في المكان الخطأ. ويرى أن أعماله تستحق جمهورًا أفضل ومكانًا للعرض أكثر لياقة، وحتى بيئة ثقافية وفنية لاستقبال أعماله وتقديرها.

وبحكم شخصيته المركبة، والتي تجمع ما بين العديد من المتناقضات، فإنه كان يعبّر عن أفكاره ومواقفه تلك بلغة دمثة مشفوعة بمشاعر شخصية تظهر تواضع ولطف صاحبها، لكنه يشعرك أحيانًا كما لو كان ضحية لمواضعات وصدف تاريخية وضعته في المكان الخطأ.

الدرة في مهجعه الأخير

تظهر مرارة مهنا الدرة بقوة أكبر في السنوات التي تلت تقاعده من آخر عمل له، كسفير للجامعة العربية في موسكو، حيث عاد إلى الأردن ومرِض، وفي تلك الفترة نجد أن مرارة شكواه من محيطه وبيئته تفوق في صراحتها وحدتها أي فترة سابقة.

هذه المرارة تتضح عند سماع قوله: «كونك الرسام الأكثر شهرة في الأردن يشبه كونك المطرب الأوبرالي الأكثر شهرة في وادي رم».

في آخر مقابلة منشورة له في مجلة (Trend design) في تموز 2011، والمشفوعة بصور له، في هيئة مهرج حزين، نصطدم بمزاج يجمع ما بين السخرية ورثاء الذات وروح الدعابة.

هذه الصور لمهنّا قد تكون من أفضل الصور المعبرة عن شخصيته، فهي تظهره رجلًا حزينًا، رغم أن وظيفته هي إسعاد الناس، أو جعل الحياة أكثر احتمالًا لهم من خلال أعماله الفنية التي لم يتوقف يومًا عن إنتاجها.

ويصف كاتب المقابلة أن مهنا، رغم ولادته في الأردن، إلا أنه أمضى حياته أشبه بالرحالة الذين يعيشون في بلدان ذات تاريخ فني عريق مثل إيطاليا ومصر وروسيا، ليصل في النهاية إلى القول: «قلة من الناس (بما فيهم مهنا نفسه) يعتبرون الدرة فنانًا أردنيًا بحتا”.

 

  • عن موقع حبر

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *