شوقي بن حسن
اعتقدتُ بأن فارقاً رهيباً يفصل مكتبات بيروت عن تونس، لم أجد سوى فوارق شكلية. كعادتها، تصنع بيروت مخيالها في ذهن زائرها، وتمدّه بصور على مقاس انتظاراته ثم تترك للواقع أن يُكذّبه.
إن المكتبة التي أتحدّث عنها، هي ذلك الفضاء الذي يعيش على التراكم؛ مكانٌ يتّسع لتاريخ. هذا التراكم الذي يمتدّ لعقود هو شريان الحياة بالنسبة لمكتبة. يبدو أن هذه الفصيلة من المكتبات أصبح من الممكن القول إنها مهدّدة بالانقراض. معيارنا “شارع الحمرا” كمركز للكتاب العربي.
أعرف مكتبات كثيرة في تونس اندثرت بسبب إفلاسها أو بيع مقرّاتها. طالما فسّرت ذلك بإهمال أصحابها (الورثة غالباً) وسياسات الدولة.
“مكتبة المعارف” في شارع الجزيرة صارت محلاً لبيع الأحذية، ومكتبة أخرى باتت طللاً في شارع قرطاج، وتعتزم البلدية تحويلها إلى سوق للسلع الصينية. مكتبات لن يحدثك عنها اليوم سوى مثقفين تجاوزوا الستين. هكذا، لم يبق في المدينة سوى مكتبات معدودة وبأسعار سياحية.
هذه الأسعار، هي قاسم مشترك مع ما تبقّى من مكتبات في الحمرا. في ذلك الشارع العريق، ستجد أثراً لالتهام الملاهي ومحلات بيع الملابس والمطاعم لعشرات المكتبات.
تسأل أهل بيروت عن مكتبة فيدلونك مثلاً على “أنطوان”، فإذا بشطرها مخصّص للمجلات والأدوات المدرسية، والنصف الثاني المتعلق بالكتب، لن تجد فيه سوى إصدارات حديثة متوفرة في أي عاصمة أخرى.
أسعفتني “مكتبة بيسان” بشيء من “الإشباع الورقي”، وهي التي فسّرتُ أن موقعها الجانبي من شارع الحمرا قد حماها من “الهجمة الرأسمالية” التي تخترق بيروت عامة. فما زالت تحتفظ برائحة المكتبة العريقة، من حيث الشكل ولباقة المشرفين عليها، فيتحدثون معك عن الكتب وذكرياتها، ويعرضون خدماتهم ويقدّمون الشاي والقهوة منذ أن يحدسوا أنك ستُمضي معهم وقتاً مطوّلاً.
في مكتبات أخرى، رغم شساعتها، لن تجد سوى فتاة جالسة أمام آلة لا تتحدّث معك سوى عند الدفع، أو مكتبات تُشرف عليها نساء لا يرتضين الإجابة عن سؤال بالعربية إلا بالفرنسية أو الإنجليزية؛ نساء يشبهن تماماً من تجدهنّ يُدرن معظم محلات الملابس أو الحلويات وحتى حين تطلب تاكسي بالهاتف.
في مكتبات الحمرا، كان قلبي يستحضر شيئاً من قصائد رثاء المدن الأندلسية، وتقفز في ذهني استشرافات لا أحبّ نبرتها التشاؤمية: تجريد هذا الوطن من مكتباته، كبداية لانقراض عشاق الكتب. أو أخمّن أن المكتبات قد تصير وجهة سياحية مثل الكيلمانجارو أو تاج محل أو الباندا.. نزورها لأننا لا نجد مثلها في بلادنا.
العربي الجديد