من على مقعد مهجور في عمان


*د. بلقيس الكركي

قال أدونيس في وصف عمان بعد زيارتها مرة إنها مدينة «محنطة»، وهب الكثير من الكتاب الأردنيين بعدها للدفاع عما وصفوه بـ»عبقرية المكان». ورغم احترامي عادة للمجاز، لا أعرف كيف يمكن لأي شيء أن يوصف بالـ»عبقرية» سوى ما رآه أو صنعه الإنسان.

أن تكون مثلي من عمان، ولادة ومعظمَ حياة، يعني أن تحس أبداً بنقص صحي من وجهة نظري. نقص لأنك لست من واحدة من تلك البلاد شعرية المعنى والأسماء. لستَ من بغداد أو البصرة أو النجف أو دمشق أو حلب أو بيروت أو القدس أو الناصرة أو عكا أو مكة أو صنعاء أو القاهرة أو قرطاج أو مراكش أو القيروان. لم يولد أي من والدي في عمان، كما هي حال معظم من هم في جيلي. أحسدهما، لأن «حيفا» و»الكرك» أقرب إلى الشعر كثيراً من عمان.
عمان: مدينة النقص الذي يستفزك لتكمله
على جبل القلعة في عمان، بعيداً عن الآثار التي لم أزرها في حياتي لعجز قديم عن التحرك كسائح في كل الأماكن، مقعد مهجور مطل على المدرج الروماني. جلست عليه كثيراً عبر السنوات، وكنت دوماً مشغولة بمن يملأ المقعد قربي أو يغيب، لذا لم أكتب، إلا الآن، عما أرى. في الليل، يُضاء المدرج بالأصفر وتراه ساحراً من على المقعد المهجور. وقد تفكر، أو لا تفكر، بروما، أو بيزنطة، أو سوريا الرومانية. هنا كانوا يملأون المدرج ويستمتعون بالعنف والدم والقتل. هنا كانت تقام مسرحيات وأفراح وجنازات. هنا كانت تُعبد آلهة جميلة الفكرة والقصة بحق. هنا، كل حجر يشهد على أنهم كانوا أقوياء. لماذا لم تفتـتْـنا روما وقتها وترسم الحدود ذاتها بيننا كما رسمها روميان آخران؟ لماذا كان لا بد لهما من ذلك الخط على الخريطة نحو الشمال من عمان، وآخر نحو الغرب؛ خطين ضيقا عليّ اسم المكان فما عاد «بلاد الشام»؟ في عهد الرومان، كنت لأكون سورية مسيحية من بنات غسان، من أصول يمنية بعيدة، وقد تتعرف على شاب آت من الجزيرة للشام في رحلة الصيف أو الشتاء، يحدثها عما فعل إساف ونائلة في الكعبة، وعن عكاظ وسجع الكهان، وعن حاجة الفقراء لدين رحيم كما دينها ينتصر بالعربية للضعفاء. قد يطيلان الحديث عن النابغة وبني ذبيان وتقلبه بين منذر وغسان، ويسألان عن امرئ القيس الذي بكى صاحبه لـمـا «رأى الدربَ دونهُ، وأيقنَ أنا لاحقان بقيصرا». هل كان حقاً أن آخر أبيات امرئ القيس قالها بعد أن رأى قبراً لامرأة من بنات ملوك الروم في سفح جبل اسمه «عَسيب»؟ كان الشاب ليقتبس من أجلها البيتين: أجارتَنا إن المزارَ قريبُ/ وإني مقيمٌ ما أقامَ عسيبُ … أجارتنا إنا غريبان ها هُنا/ وكل غريب للغريب نسيبُ»…
قد يقعان في الحب، ثم يفترقان لاختلاف في الفكرة أو الغاية أو المزاج. لم يكن ليتغير شيء كثير في المصائر إذن. فأنا قد عدت وحدي على المقعد المهجور، أنا واسمي، الذي يشق الشام مروراً بالحجاز ليستقر حيث كانت حمير وعدن ومأرب وسبأ التي حيرَت سليمان.
أضواء كثيرة خضراء تكسر حدة الأصفر حول المدرج. الأخضر هو اللون الموحد لمآذن المساجد. ما أجمل الفكرة: بهذا الكلام القليل منذ نداء «الحبشي» كسرنا كل هذه الأحجار. من نحن؟ لم نكن ربما لنطيق هذه الهوية لو لم يصبح الإسلام إمبراطورية. كيف أصبحنا مسلمين؟ أذكر أن من فتح عمان هو يزيد بن أبي سفيان. ليته كان خالداً بن الوليد، لكانت الرواية أجمل، فهو ما يزال يشغل الناس. في مارس/آذار الماضي نشرت مجلة Front Page الأمريكية مقالة عن خالد يصفه الكاتب فيها بسيف الله «الإرهابي»، «المنحرف»، «السادي»، بعد أن اكتشف الكاتب «العبقري» مؤخراً فقط قصة خالد وليلى بنت سنان زوجة مالك بن نويرة. لم تهمني يوماً صحة القصة بقدر شبه خالد بأخيل فيها، وليلى ببريسيس سبية أخيل الطروادية، وما كتبه الشاعر الروماني أوفيد فيها. «أريد حباً وحشياً، ليحطم نومي الخفيف الكسول»، هذا ما كتبه أوفيد في قصيدة أخرى بقيت في بالي إلى أن أصبحت واقعاً شَهده المقعد المهجور. المهم، أن ليلى بنت سنان لم تكن (كما لم تكن ليلى الأخرى) في عمان، التي فتحها يزيد، أخو معاوية، وعم يزيد، الذي قتل الحسين، فكانت كربلاء. وصديقي الشيعي العراقي يعرف أكثر مني بكثير زوايا وخفايا عمان.
«من أين أنت؟» يسألني رجل الشرطة السياحية قرب المقعد المهجور، ولم تكن المرة الأولى أبداً. «من هنا»، فرد: «لا أحد أصلاً من هنا». معه حق: أجمل ما في عمان ألا أحد فيها منها. هي منذ قرن وأكثر موطن اللاجئين. بدأ ببنائها حديثاً الشركس الهاربون من طغيان روسيا القيصرية، واستوطن فيها لاجئون فلسطينيون هاربون من النكبة والنكسة أو قبلهما بكثير، وشيشان وأكراد وأرمن وسوريون وحجازيون، وأردنيون من محافظات أخرى يبغون في العاصمة الجديدة علماً وعملاً أفضل، و»عمال وطن» مصريون، وحديثاً أكثر عراقيون ثم سوريون. ما أقبح معظم الظروف التي دفعتهم للمجيء إلى هذه المدينة المحنطة، التي صُنفت مؤخرا كواحدة من أقبح مدن العالم، وما أجمل أنهم هنا، ينفضون الغبار عنها، ويعزونها؛ فعمان ما تزال مدينة لاجئة تبحث لنفسها عن وطن.
أهل عمان لا يحبون بعضهم كثيراً، ولا يحبون المدينة. ربما لهذا يعني اسمها الروماني «الحب الأخوي»، فليس من عادة الإخوة التفاهم والحب، وليس من عادتهم عشق بيت العائلة. كلهم يشعر بالغربة، وكل غريب فيها للغريب «نسيبُ» (بالمعنى العامي، حقيقة ومجازاً)، وليس من عادة النسَباء حب بعضهم كثيراً أيضاً. روابط أهل عمان ببعضهم تتجاوز مفهوم المواطنة في المدن الكوزموبوليتانية إلى استعارة أعقد وأقل سياسية، كما أنها رغم كل التنوع في الأصول واللكنات والطبقات والاتجاهات المشابه لتنوع الأشقاء حسب قاعدة «البطن بستان»، ليست عمان مدينة كوزموبوليتانية لأن هذه الأخيرة يذهب إليها الناس عادة بحثاً عن الحياة لا هرباً من الموت. 
أعود إلى المقعد المهجور. لا شيء عظيماً ربماً في شكل عمان قدر المدرج. يعزيني الجاحظ الذي كتب في الحيوان «والكتبُ بذلك أولى من بنيان الحجارة وحيطان المدر..» الفارق أن الرومان كانوا يبنون مسرحاً في «فيلادلفيا» فيه رائحة الثقافة على الأقل، بينما السلطة في «الأردن» تريد مسخ وجه المدينة ليصبح لدينا «بوليفار» يزيد الهوة في وسط عمان بين شرقيها وغربيها. لا أدري ما فكرتهم عن معنى الحضارة. ما أعرفه أن الحجازيين القدامى حررونا من روما وبنوا حضارة عظيمة (وليذهب المدرج إلى الجحيم)، ولاحقاً من الأتراك أصحاب الإنجازات أيضاً، ولا بأس أبداً، من حيث المبدأ، أن يحكم عمان من هو ليس منها، كالحجازيين الجدد، فلا أحد أصلاً من عمان. 
البأس هو في خيانة تلك الروح الحجازية القديمة، بالتحالف الأعمى مع روما الجديدة سياسياً، ونسخ أسخف مظاهر حداثتها اقتصادياً واجتماعياً، ناسين الأفكار والإنسان، لكي ندعي أننا نلحق بركب الحضارة، مؤجلين أزمات الخبز والعلم والحرية والعدالة إلى إشعار آخر. لا أدري ماذا سيرى هؤلاء لو جلسوا مكاني على المقعد المهجور (الذي أرجو ألا ينقله أمين عمان بعد هذا المقال إلى مكان آخر لأسباب «تنظيمية» كما فعل بسوق الجمعة). ماذا سترى السلطة أمام مدرج يفترض أنه يذكرها بعجزها؟ هل ترى ما أرى؟ ألم تسأل نفسها لماذا عاش في عمان الغربية أكبر شاعر عربي ولم يكتب عنها حرفاً، ولم يصفها يوما سوى بأنها «هادئة»؟ ألم تسأل نفسها بعد عماذا ستفعل ببيته، بينما الفرنسيون لم ينتظروا كثيرا قبل أن يسموا ميداناً باسمه لأنهم رأوا في ذلك إضافة لباريس؟ على أي حال هو من قال «أرى ما أريد»، و»أطل على ما أريد» («كشرفة بيت» أو كمقعد مهجور)، وصفق له جمهور عمان كثيراً حين سأل: «هل من نبي جديد لهذا الزمان الجديد؟» هو جديد قديم؛ إذ عادت الإمبراطوريات تتنازع على حصتها من كل مدننا الآن، كما تنازعت فارس وروما يوماً عمان.
عمان مدينة تائهة مذعورة سيئة المزاج وتشعر بالاختناق. وإن كان لا بد لها كي تتنفس من رأسمال واستثمار، فليفكر أحد في استعادة خط الحديد الحجازي الذي كان يمر بها ويوصلها بالمدن الممتدة بين دمشق والمدينة فتُكسَر وحشتُها. عمان بحاجة إلى قطار، لا بولفار، حقيقة ومجازاً. ليست بحاجة إلى مواد للتحنيط، بل إلى ما يبث فيها الحياة. عمان هي عبد الباسط في الصباح يليه صوت فيروز في كل مكان، وأحيانا يتداخل الصوتان في مطلع النهار وسط المدينة، وكل ذلك الجمال وتلك العبقريات بشرية لا مكانية ومن خارجها أصلاً، وبها فقط تُحتَمل الحياة مؤقتاً في هذه المدينة الوحيدة.
من على المقعد المهجور، تبدو عمان مرهقة مغبرة، مثلي تماماً، ومثل جاراتها في المحافظات، وكذلك الشاميات والعراقيات. لا بأس، فالصحراء «تنقص بالأغاني أو تزيد» حسب شاعر من غرب عمان. إذاعة الرشيد العراقية بدأت بثها في المدينة منذ عام بالضبط، وأصرت في الأشهر الأولى على تكرار أغنية سعدون جابر كل صباح «قل لي وش جابك علي.. وش ذكرك فينا…» شجنٌ من الشرق، وآخر من الشمال «»احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي»، يسدان نقص عمان فتصبح وطناً: جبلاً من الغيم الأزرق حسب فيروز، وبلداً ليته كان مطوقاً بدل السياج والحراس بحمام يطيرُ كلما نسمْ علينا الهوا.
___________
٭ القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *