انحراف ثقافي

( ثقافات )

*سعيد الشيخ

.يكتبون ما يشبههم، أو ما يشبه زمانهم الأغبر، وهم على قطيعة مبينة مع وظيفتهم التنويرية

ولّى ذلك الزمن الذي كانوا فيه نجوماً تأتلق، لتبدد ظلام خرائط الجمهوريات والممالك المنفلتة حديثاً من براثن الزمن الكولونيالي، التي تتلمس الطريق إلى الاستقلال والحرية، وحينها كانوا من صنو الأنبياء، حيث الأفكار من هداهم تتقولب مناهج ويقيناً للضالين أن يهتدوا على شكل الأوطان، دستوراً وأمناً لسيادة قيم الإنسان، يجترحها الوعي المبدع بذائقته الفنية، لإطلاق عجلة الإنتاج إلى رحاب الترقي، تحت شمس العالم المترامي، ولا يُسقطون .البوصلة الدالة أبدا إلى العدالة

٭٭٭

اليوم، يكتبون ما يشبههم أو ما يشبه زمانهم، مثقفو السوق، وحسب العرض والطلب. وما حولهم سوى الحطام والاستبداد، يخالفون وظيفتهم، حينما يرتضون أن يكونوا جزءاً من هذا الحطام، ومن هذا الخراب المنتشر، ويرتضون أن يتحولوا إلى مجرد مداميك الهاوية، وينفخون على الجمر لبثّ الاشتعال. إذا قلنا إنّ الأنظمة السائدة مصابة بالعجز، فإذا بهم سادة العجز. يجترّون كلماتهم المتفحمة من كثرة سواد القلب، الممتد إلى جدار العقل. يتصدع هذا الجدار، ومن تشققاته، يخرج الدخان الأسود، فإذا بالبلاد واقعة تحت ضباب كثيف، والسواد يملأ المعمورة كلها، والكلّ يتخبّط.

٭٭٭

مشهد الثقافة العربية الراهن لا يختلف عن مشهد أوطاننا المحترقة. الكلّ في الأتون، ولا ريادة ثاقبة تأخذ زمام المبادرة نحو طريق الخلاص، لأن الأرجوحة الفكرية أفرغت اليقين من لمعان الهداية. الشارع الذي من المفترض والبديهي أن يكون نبض كتاباتهم، وشاهد خطاهم، ينصبون معه القطيعة ويوصمونه بالغوغائية والتخلف، يجترون ما تقوله قوى الظلام والاستبداد. عينة واسعة من الفلاسفة والكتّاب إياهم، الذين يبذرون في الحياة العربية بذور الطائفية البغيضة. وهؤلاء هم أول من يقع في غواية المعاني وخطابات التضليل، التي هي نتاج عقولهم الدكناء. وينفخون في بوق الغوغائية سمفونياتهم الرديئة، إمعانا في عصر الانحطاط، وإصراراً عجيباً على المشاركة في إدارة الأزمة.

السؤال البديهي: كيف لا يختلف المشتغلون في الفكر من فلاسفة وكتّاب ومفكرين مع أسباب الأزمة؟ وبدل أن يخالفوا عناصر البلاء لشعوبهم، كيف ينصبون أفكار الفتنة كمصائد تنتظر ضحاياها؟ والكتابة لديهم تصبح في إطارها العام تخصيبا للحقد والكراهية..والسؤال الصارخ هنا: كيف للمثقف أن يكون داعية لسفك الدماء؟

٭٭٭

من الطبيعي أن يغتبط المفكر التنويري لسقوط الفكر الظلامي المضاد. ومن غير الطبيعي أن يغتبط هذا المفكر لفكرة الموت والنفي للآخر ككائن، حيث تبدو الثقافة، هنا، لا تسير في إطارها التثقيفي والاجتماعي، ولا بد أنّ انحرافاً خطيراً قد أصابها، وقد أصاب بالتحديد إنسانية النص وعطب الحواس. وفي أثناء هذا الوضع، وإلى المستقبل، إنْ لم يتمّ تدارك الخلل، فإنّ أي نتاج، هو نتاج مهزوز من إنسان مختل، شقي ويدعو إلى الشقاء.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *