دفاتر «ضياء العزاوي» الرسم بوصفه ممارسة تبجّل الحنين وتمثل قصائد الشعراء

  • سعد القصّاب

دفتر الرسم، نوع فني مارسه الفنان ضياء العزاوي (1939) منذ نهاية سبعينيات القرن المنصرم، وأنجز خلاله نماذج كثيرة. استلهم فيه مرجعاً جمالياً، فريداً، متمثلاً بالمخطوطة المصورة “المنمنمة” بما تنطوي عليه من خصائص جمالية للفن العربي- الإسلامي، بتشكيلها الزخرفي والتزويقي، وتضمينها للكتابة النسخية الدالة على بعد ثقافي، كما في أسلوب التأليف التصويري برؤيته المنظورية العربية ذات البعدين. ممارسة باتت أيضاً ” جزءاً لا يتجزأ من الممارسات الفنية المعاصرة”(1) للعديد من الفنانين العراقيين والعرب.
دفاتر الرسم، تعريفاً، ممارسة تشكيلية تتحقق وفق اجراء تصميمي وإخراجي يماثل شكل كتاب، يتألف من مجموعة صفحات متقابلة ومتعاقبة، ” codex “، أو وفق صيغة على شكل صفحات مطوية تتصل مع بعضها مشكلة صفحة شديدة الاستطالة، أو ربما وفق تصور اخراجي مختلف، لكنه لا يخلو من تضمين أحد هذين الشكلين في رؤيته التصميمية، وغالبا ما ينفذ بشكل يدوي من قبل الفنان.
تجربة ابتكاريه تنطوي على رؤية تصويرية وتشكيلية منظمة، عبر اختيار موضوعة لدفتر الرسم، ومحاولة تشكيلها بأفق جمالي وتمثلات فنية، توافق ذات الخبرة الأسلوبية للفنان، حيث تحتشد أحيانا بنصوص وعلامات شكلية وتكوينات تصورية متعددة، وطبيعة تأليف مختلفة تتعالق فيها الأشكال والمفردات الفنية، مع استحداث معالجة تجريبية عبر الاستفادة من وسائط مختلفة باستخدام اللصق (الكولاج) أحياناً، مواد مختلفة أحياناً أخرى، لتشكيل فضاء تصوري، وجمالي، ومشهدي يختبر خيالات حسيَة وتنظيم سطوح بصرية متنوعة.
ينجز هذا النوع الفني بنسخة واحدة فريدة مصنوعة يدوياً، وهو يختلف عن نوع آخر بما يسمى بكتاب الفنان BOOK ARTE) ) _ (Livre d artiste)، أي الكتاب الفني المصور ” الذي ظهر كمشروع بمبادرة من تجار الفن مثل أمبروز فولار ودانييل- هنري كاهنفييلر في نهاية القرن التاسع عشر في فرنسا، رداً على الكتاب المنتج بكثافة للعامة” (2).

ذاكرة البدايات والتأسيس

أكدت تجربة دفاتر الرسم فعلها التأسيسي من قبل الفنان العزاوي، وحققت أثرها الريادي في المشهد التشكيلي العراقي والعربي عبر هذا الفعل، والذي لم يشهد من قبل هكذا نوعا فنيا، خلا بعض رسوم كانت تلحق بالكتب كأجراء توضيحي، أو طباعي، وفني خاصة مع دواوين الشعر وكتب أدبية أخرى. ممارسة فنية ظهرت مع بداية أول منجز للفنان العزاوي في عام 1968 بتنفيذه لدفتر رسم لأول مرة وبنسخة واحدة، بعنوان ” مقتل الحسين “، الذي يمكن اعتباره تنويعاً فنياً آخر، يضاف لسلسلة لوحات أنجزت من قبله في العام ذاته. والتي اتخذت مقتل الإمام الحسين موضوعة لها، حيث جاءت حاشدة برمزية ميثولوجية دالة على عنوان الشهادة. هذه الرمزية التي شكلت خياراً تعبيرياً لا يخلو من تمثيلات ذات طابع تحريضي وأيديولوجي، خاصة بعد حرب حزيران ، يوليو عام 1967، والتي أثارت لدى الكثير من الفنانين العراقيين والعرب “أزمة هوية عميقة وأعادت توجيه الإنتاج الثقافي “(3) والفني.
اعتمد الفنان العزاوي في تنفيذه دفتره ذاك، على تأليف خطي ذي منحى اختزالي، لاكتفائه باستخدام مادة الحبر الصيني ولون أحادي هو الأزرق الفاتح، في تنظيم أشكاله ومفرداته المرسومة. والتي انطوت على تمثيل الحس الميثولوجي عبر صياغات تبسيطية في تأليف البنية الشكلية لصفحات الدفتر، والتأكيد على رموز بعينها لخلق مقاربة صورية دالة على موضوعتها، مثل الحصان،الرمح، البيرق، مع مفردات زخرفية شعبية، واستخدامه، كذلك، لمقاطع تصف واقعة ” الطف ” ضمن تصورات المأثور الشفاهي والكتابي عن الواقعة، متداخلة مع البناء التاليفي للاشكال المرسومة.
فيما ستكون أشكال الشخوص وهيئتها حاضرة بمنحى تبسيطي يشير إلى أوضاعها وهي في حالة صراع، أو غضب، أو تمثيلات تشير إلى الإحساس بالمأساة. دفتره هذا، جاء عبر تكويناته وصياغته التأليفية، بما يشبه سلسلة تخطيطات تتمثل موضوعة واحدة، تم تنفيذها بصورة متعاقبة، بشكل دفتر رسم.
تعززت هذه التجربة، أيضاً، عبر دفتر رسم تضمن نصاً كاملاً لقصيدة الشاعر العراقي يوسف الصائغ والمعنونة ” انتظريني عند تخوم البحر” في عام 1971. أنجز هذا الدفتر بنسخة واحدة، نسخ الفنان القصيدة بيده. وبطلب من الشاعر، طبع هذا الدفتر كاملا على هيئة كتاب مطبوع.
ان اختيار العزاوي لقصائد الشعر واهتمامه بتمثلها كمرجع جمالي في أعماله، قد جاء بأثر عاملين، أولا بدافع ذاتي، تجلى، وكما يذكر، بتأثير ” رعاية جبرا( جبرا إبراهيم جبرا) غير المباشرة بما أنشره ولمرات عديدة في مجلته ( العاملون في النفط) وعاملا في تطوير علاقتي ليس بالنص فقط بل أيضا بالأدباء العراقيين”(4)، والثاني ذو تصور موضوعي قائم على مغزى ثقافي وجمالي يتمثل في بحثه عن بعد ابداعي لتطوير عمله الفني، فهو منذ الستينات قد سعى ، كما يقول، إلى تحقيق” تكامل جمالي بين النص والرسم، تزاوج يرفض الجانب التفسيري بحيث يكون الرسم إقحاما لا معنى له. بل وبعكس ذلك يجسد هذا التكامل حضوراً فاعلاً يفجر النص ويأخذ به إلى حيث توأم الشكل الفني والعكس صحيح. ولكوني معنيّ بالبحث عن خصائص فنية ترتبط بالموروث والذاكرة الثقافية القومية والوطنية، كان لا بد أن يكون الشعر أحد روافد هذا البحث “(5).
ينجز العزاوي في عام 1983، دفترا آخر لقصيدة ” انتظريني عند تخوم البحر”، بمعالجة خطية، تكتفي بمزاوجة القصيدة وأشكال ومفردات تصويرية حاضرة في ذلك التاريخ. حيث يقدم الدفتر متن القصيدة كما يقدم الأشكال المرسومة، بمشهد بصري متكافئ، حين يجاور الجانب التصويري من مفردات وأشكال متن النص الشعري ويدل عليه. معززاً دلالة القصيدة و ايحائيتها، وحيث يتوالد فضاء صورياً تتوالد فيه الكلمات والأسطر مع الشكل المرسوم. ذلك ما يحقق ثنائية القراءة والمشاهدة، وفق طبيعة إخراجية حرة وغير مقيدة بالطبيعة التقليدية للشكل التصميمي للكتاب، حين يستقل النص غالباً عن الصورة الشارحة له. وهو الأمر الذي يمنح الدفتر وحدة شكلية وإخراجية متماثلة لكون الصفحات المتقابلة للدفتر هي بمثابة فضاء يؤالف مابين الكتابة وتصويرها.
لم تكن تجربة الدفاتر لدى الفنان العزاوي مكرسة تماما لاستلهام النص الشعري كمرج جمالي وحيد لها. ثمة موضوعات، مختلفة، أخرى تمثلها الفنان كالاستعانة بنصوص نثرية، أو اختيار موقف فني والنظر إليه كقضية أبداعية.

الثناء على “جواد سليم ”

في دفتره ” تحية الى جواد سليم” الذي أظهر خلاله اهتمامه بتجربة الفنان الراحل جواد سليم “1921 – 1961″ ومعاودة استحضارها، خاصة المتمثلة بسلسلة لوحات البغداديات. هذه التجربة التي شكلت في وقت سابق رافداً في تأطير الرؤية التشكيلية للفنان بل وإحدى مرجعياته الجمالية. لذا سيشكل موقف العزاوي تجاه تجربة الفنان الرائد موضوعاً يستعيد تناوله برؤية جديدة ومتواصلة، يذكر العزاوي من أن ” نمو الموضوع بمقدار ماهو كشف عن جانب منه، هو أيضاً عملية بناء جديدة للإشكال والمفردات الفنية “(6). والتي عاود تمثل هذا التأثير بانشغالات تشكيلية وتقنيات وتجارب متنوعة.
في عمله هذا، نجد العزاوي يغادر طبيعة التعاطي مع تجربة جواد بوصفها محرضة على تعيين توجه أسلوبي له، الى استعادتها بصفة تثمينية وتقديرية، لا تخلو من الإشادة بخصوصيتها وتأكيد منحاها التصويري. وعبر استيحاء رمزي لأشكال ومفردات حيناً، أو اعادة توصيف وتكرار شكلي لما أنجزه جواد من خلال رسوماته حيناً آخر، والتي حفلت بها لوحات ” البغداديات”، وضمن طبيعة تأليف توافقت خلالها صياغاته التصويرية مع الجانب الإخراجي لدفتر الرسم.
في المنحى الأول، نجد أن العزاوي يوظف البنية التصويرية في لوحات جواد، من خلال طبيعة تمثلية للرؤية العامة في هذه الاعمال، والتي منحتها توجهها وخصوصيتها الأسلوبية. سواء من خلال اعتماده على مفردات ورموز وبناء تكويني لمنجز “البغداديات” والتي كانت حافلة بحسها الفلكلوري وجماليات المورث الشعبي، والقائمة كذلك على الحس الاختزالي في تصوير الملمح الشكلي للشخوص وتبسيط الأشكال، ولكننا سنجدها قد تم تنفيذها بأسلوبية الفنان العزاوي ذاته.
نجد أن الفنان ضياء العزاوي، في هذا الدفتر، يستعيد عناصر فنية وملامح رؤية تشكيلية حكمت وميزت تجربة جواد، من خلال اعتماد الخطوط المنحنية واللينة، وكذلك التبسيط في ملامح الوجوه واختزالها، عدا الاستفادة من استعارات لمفردات تصويرية تتمثل بالحس الزخرفي الذي يطبع النموذج التكويني في لوحات “البغداديات”، وتأطير ذلك بأشكال ذات ملامح عربية وشرقية، وغلبة المساحات اللونية المتجاورة، والتي تمنح العمل صفة منظورية ثنائية البعد.
الى جانب هذا المنحى، نجد اهتماماً آخر من قبل العزاوي بتجربة ” بغداديات” جواد، تمثل باستعارة اشكال ووضعيات ومفردات منها، ومحاولة تعديلها، الإضافة عليها، أو اختيار مفردات تصويرية بعينها ومحاولة تأليفها بما يتوافق مع تجربة دفتر الرسم وموضوعته.
تستحضر مجموعة “البغداديات”، التي تم النظر إليها بكونها ” تراثا فلكلوريا بتسجيل فني، وقد أكسبت جواداً شخصية فنية محددة المعالم ، وميزت أسلوبه الفني “(7) ، وعبر تصويرها لحياة المجتمع البغدادي، وتمثيل فضاءات الوسط الشعبي والعادات الاجتماعية فيه، عبر مفردات تصويرية أحسن رصدها، من خلال البنية التصويرية والتكوينية، والمتمثلة بمرموزات ذات أثر فلكلوري وترسيمات زخرفية مع تكرار لإشكال الأقواس والأهلة وأنصاف الدوائر والأشكال ذات الخطوط المنحنية، والتأكيد على المهارة الخطية، مع حضور الفراغات في خلفية العمل الفني، واستعمال المساحات اللونية الصريحة، والكتابة بخطوط عفوية، حيث طور هذه الأشكال والمفردات كقيم جمالية وشكلية والتي جاءت عبر تمازج بين الموضوع المحلي وبين اهتمامه ببنية الفن العربي الإسلامي، حيث أضفى على” رسوم المخطوطات القديمة والخط العربي والزخارف الفولكلورية روحاً جديدة”(8).
جاء اهتمامه الشديد بتجربة الفنان جواد، من كون التراث بالنسبة للعزاوي أداة من أدوات البحث عن الهوية، وهو يذكر ” منذ بداياتي كنت شديد الميل الى ما قام به جواد سليم في أغناء لوحاته وتخطيطاته بعلاقات ورموز من الفنون العراقية القديمة”(9). من هنا كان اللقاء الذي انفتح على ذاكرة البدايات والولع بتعزيز هذه الخبرة التي باتت لازمة في الكثير من الخيارات الجمالية لهذا الفنان، الذي أوجد أشكال تعبيرية جديدة تتصل بالتقاليد الثقافية الحضارية، وهي في الوقت ذاته تنطوي على رؤية شديدة الحداثة في الفن العراقي. هذه التجربة التي كانت ” أكثر من صياغة فنية، إنها بصورة رئيسية طريقة رؤية “(10).
الشعر مرجعاً جمالياً
شكلت تجربة دفاتر الرسم كنوع تعبيري مختلف من الممارسة التشكيلية، دافعية للعزاوي على الانفتاح وتجريب واستثمار الشعر كمرجع جمالي في تعزيز تجربته الريادية هذه. وإبقاء هذه الممارسة قائمة على فعل التجديد والابتكار. والتي ستظهر بشكل لافت في بدايات العقد الثامن من القرن المنصرم ، وعند إنجازه عددا من دفاتر أخرى كان محورها قصائد لشعراء عراقيين وعرب.
مثل هذه الدفاتر تآلفت مع خبرة الفنان في طبيعة تلقي القصيدة وإعادة إنتاج قراءتها بصريا. حيث تواشج الرسوم مع مقاطع النصوص الشعرية، وعبر توافق تعبيري وجمالي ومعالجة نسخية يتوالى فيها اختيار النص برفقة أشكال والماحات خطية واستخدام تشكيلي خاص للحرف والكتابة، بصياغة أسلوبية تماثل ذات التجربة الإبداعية الخاصة في لوحات الرسام .
يعلل العزاوي طبيعة العلاقة مابين النص الشعري والأثر التصويري في هذه الممارسة الفنية بقوله “لأنها دفاتر أصلية وبنسخة واحدة، لم أجد نفسي ملزما بالتقيّد بالمادة التي تساعدني على تحقيقها، كما حصل مع تجارب سابقة … يتداخل النص ويتوزع ضمن علاقة متكاملة، أي أن الكلمة تأخذ مساراتها ضمن أشكال وعلاقات رمزية متداخلة “(11)
ينفذ العزاوي دفتر رسم، لقصائد مختارة للشاعر اللبناني يوسف الخال “1916 – 1987″، والذي سينسخ هذه القصائد مخصصاً لها صفحة كاملة، أو بعضا من مساحة الصفحة، فيما تحتل أجزاؤها المتبقية، رسوما تجاورها، ما يمنح للصفحات المتقابلة فيها بحضور النص الشعري ملازماً للرسم، مع استقلال كل منهما في الوقت ذاته، حيث الرسم يضاهي بحضوره النص المنسوخ، في قدرته على أحداث أثر تعبيري وجمالي لا يخلو من التنوع ولكن ضمن وحدة التجربة المنجزة في الدفتر. أي ثمة تعبير معلن عن حقيقة القراءة الموكلة للنص، والتي توازي كذلك حقيقة الرؤية المتحققة في الرسوم، يعبر العزاوي عن هذه العلاقة بكونها تشييد ” عوالم بصرية تنأى عن النص بمقدار ما تتبناه بوصفه نظاماً داخلياً للأفكار”(12).
نجد في عمله هذا من كون النص الشعري، والمنسوخ من قبل الفنان، يستقل كبنية كتابية مقروءة، فيما يجاورها تكوين تصويري، ينحى الى التجريد، عبر الاستفادة من مساحات لونية غير متعينة، ومتجاورة ، لا تمثل توصيفاً لمعنى النص الشعري المنتخب إلا في اقتراح مقاربة بصرية، تعبر عن عاطفية القصيدة وصورها الشعرية، من خلال حس لوني يطغي بدرجاته الصريحة على التكوين الفني، مانحاً إياها حساً بصرياً شديد النقاء، ينطوي على إيقاع بصري ولوني موحياً بأثر عاطفي خفي، إلا انه في الآن ذاته أثر غير متعين، إلا بكونه تكويناً تصويريا يفترض لوجوده الفني رؤية تعبيرية مستقلة، ومتحررة من جعلها ممارسة وصفية تابعة للنص. وهي الصفة والمهمة التي يلحقها العزاوي بهذه الممارسة التي أطلق عليه ” دفاتر شعرية مرئية”(13).
ثمة مقاربة تعبيرية مابين ما يوحي به البيت الشعري، بإشارته الى حس عاطفي أراد له أن يكون بمثابة تمثل للمعنى الذي تنطوي عليه أبيات الشعر المنتخبة. كما يستفاد الفنان من خلفية الورقة البيضاء، في تفاصيل مشهده التصويري، والذي يحاول أن يقترحه كلون أبيض، يضاهي نصاعة الألوان المستخدمة من قبل الفنان، والتي يغلب عليها الألوان الصريحة.
لاشك ان الفنان العزاوي يستخدم ذات العلاقات اللونية ، التي تفترض حساً تعبيرياً لا يخلوا من حضور مشرق، أو الإيحاء بما هو عاطفي وعبر كثافة للألوان ذات الطابع المتمم، الذي لا يعتمد التضاد بينها. وهو الأمر الذي يكرس مشهدية تصويرية تنطوي على قدر من الاحتفاء اللوني المبهج، القائم على تأليف شكلي حر ومتخيل، لا يسعى لتضمين موضوعة بعينها، وتعزيز دلالتها قدر الاهتمام بافتراض علاقة تصويرية قائمة على التجدد والإضافة والتعديل. حيث الاكتفاء بـتأليف لوني يتوزع بقدر من التلقائية في وسط صفحتين متقابلتين، وحيث تكون هذه التكوينات تجريدية الطابع تعتمد التبسيط وعفوية التنفيذ، منشغلة باضفاء رؤية تصويرية قائمة على التجريب الحر، غير المقيد بدلالة معينة للموضوع. بل تتمثل في كونها نتاج ممارسة تنوع فيها الأطار المرجعي، ما جعلها تتابع تمثله عبر تأليف تصويري متعدد ومتتابع. حيث يذكر الفنان العزاوي أن مسعاه في هذا الاتجاه ” تطوير النص المقروء الى علامات وأشكال بصرية تحتفظ بخصوصيتها المستقلة فأنا لا أميل الى شرح النص بصرياً بل أحاول ايجاد حالة موازية تسمح للمشاهد بتأملها دون أن يضع النص في المرتبة الثانية “(14).
لا شك أن المرجعية الجمالية في هذه الدفاتر، لا يتم حضورها بطريقة تمثيلية، بل سنجدها حاضرة بصيغتها العيانية كقصائد شعر، ومرافقة للمشهد التصويري فيه، وهي أيضاً تقاسمه دلالته التعبيرية وصياغته الـتأليفية. إن دفاتر الرسم ممارسة فنية تقترح مشاركة النص الشعري أو النثري مع الصياغة التصويرية، وهي هنا تحتفظ بخصوصيتها الجمالية القائمة على التصور من خلال قراءة النص وفعل التلقي البصري من خلال رسوماتها.
وعبر هذا الفعل التشاركي نجد أن الفنان العزاوي يسعى للوصول بذلك إلى عمل فني متكامل، وكما يذكر أنه يحاول أن يعبر ” عن المناخ الشعري بطريقة بصرية، رمزية مليئة بالإشارات … إن محاولة إيجاد عناصر بصرية بمفردات عامة ستكون مسطحة عمليا ، إذا لم نجد لها دعما ثقافيا عميقا يوفره ويحتويه النص الشعري إلزاما ، بالتالي أجد أن الشعر أقرب إلى الرسم في غير جانب، لا سيما القوة الإيحائية، والقصائد هي الركائز الأساسية”(15) وهذا ما تتمثله هذه الممارسة التشكيلية.
يعزو العزاوي استيحاءه لدفاتر الرسم واهتمامه به كنوع من الممارسة الفنية، يحضر فيها النص مع الرؤية التصويرية ويرتبط بها جراء اطلاعه للمرة ألأولى على المخطوطة العربية الإسلامية، يقول ” اطلعت على المخطوطات الإسلامية، لاسيما مخطوطة ” عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات” للقزويني .. من هنا استوحيت فكرة النسخة الوحيدة للكتاب الفني – الشعري الذي هو أشبه بمخطوطات ملونة وغير مرقمة ” (16)، ومؤلفة من نسخة واحدة . فالمخطوطة مجال فني تجتمع فيه الكتابة والممارسة التصويرية في تكامل تأليفي يتتابع عبر صفحات المخطوط ويتصور المادة المكتوبة بدلالات بصرية، وهي تمتلك بذلك منطقها ووصفها الفني الخاص بها.
إن الرؤية التجريبية لدفاتر الرسم، عززت لدى الفنان اهتماما خاصاً بحضور الأثر التصويري مرتبطاً بنص كتابي، وهو الأمر الذي كرس دافعية البحث عن ممارسة تشكيلية تحضر خلالها هذه التجربة على نحو أكثر خصوصية وعلى نحو شديد التنوع في ممارسته التشكيلية.

الهوامش
1 – الاتاسي، سونيا ميشار، دفاتر الفنانين العراقيين، مجلة بدايات، العدد7، شتاء 2014، شركة بدايات، بيروت، ص76
2 – نفسه
3 – نفسه
4 – العزاوي، ضياء، الفن التشكيلي متظافراً مع الادب العالمي في أعمالي، مجلة ألف، العدد، 34، 2014 ، الجامعة الامريكية، القاهرة، ص15
5 – العزاوي ضياء، لون يجمع البصر ، منشورات تاتش، لندن ، 2001، ص358
6 – المصدر نفسه ص282
7 – الصراف، عباس ،جواد سليم ، مديرية الثقافة الفنية، بغداد ، 1972، ص8
8 – أبراهيم جبرا، جبرا، جواد سليم ونصب الحرية، وزارة الاعلام، بغداد، 1974، ص63
9- العزاوي، ضياء، الفن التشكيلي متظافراً مع الادب العالمي في أعمالي، مصدر سابق، ص 16
10 – هوتينكر، أرنولد ، جواد سليم، الافكار والفنون، معهد غوته، فرانكفورت، 1965، ص137
11 – العزاوي، ضياء، الفن التشكيلي متضافرا مع الأدب العالمي في أعمالي،مصدر سابق، ص 14
12 – نفسه
نفس المصدر ، ص 14 13-
14 – العزاوي، ضياء، لون يجمع البصر، مصدر سابق، ص 318
نفس المصدر، ص17 15-
16 – نفس المصدر ، ص15

 

  • عن نزوى


سعد القصاب*

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *