محمود درويش وفضاءات الكارثة!

د. تيسير أبو عودة

يولد طفل فلسطيني اسمه محمود درويش عام 1941 في قرية البروة في مدينة الجليل، بمحاذاة ساحل عكا، ولكنه كان على موعد قديم مع الكارثة والشعر وكتابة الألم والأمل. يستيقط الطفل الذي لم يتجاوز السادسة من عمره عام 1948، ليكتشف عنوة (عام النكبة) أنه أصبح لاجئا أبديا، وأن قرية البروة قد محقت عن بكرة أبيها وصارت ملكا للكيبوتس القادمين من أوروبا الشرقية، وأدرك لاحقا أنه أصبح شاعرا يحدق في نفسه والشعر والعالم وفلسطين (الفردوس المفقودة) والنبوءة التي تفتش عن وحي الوجود والكارثة. يولد الشاعر في أرض غريبة، وتسرق منه الطفولة البكر، وتسرق منه تفاصيل البئر القديمة، وهديل الحمام فوق سطوح المنزل، والبئر القديمة، والحصان الذي تخلى عن مهنته القديمة)…..

معظم ما كتب عن محمود درويش حتى هذه اللحظة في سياقه العربي والعالمي هو اجترار لصورة محمود درويش الثابتة في عقل القومي والثوري والوطني والرمزي. أذكر أن ناصر الدين الأسد لا يعترف بمحمود درويش شاعرا. وكأن الشعر كان ينتظر اعترافه! هل كان يدرك ناصر الدين الأسد أن الشعر ” إنباء وتراكم من الحدوس المؤجلة على طريقة آرسطو، والمعري، والمتنبي، والنفري؟ هل كان يدرك أن الشعر ردم للبدهيات، وكشف وجودي وفلسفي للبرهان الخفي؟

ربما يكون محمود درويش من الشعراء العرب القلائل في القرن الواحد والعشرين الذين أنجزوا مشروعا شعريا يقاوم الزمن والتاريخ، بتعبير جوته، فكان شعره معادلا موضوعيا لنبض الشارع والجماهير، وبوصلة العربي المصاب بمرض الهوية والمنفى والاغتراب الوجودي واللغوي. خرج علينا درويش كالأبطال الملحميين، لا ولد له، ولا أب شعري مقدس، ولا عشيرة أدبية أو فكرية كما فعل الآخرون من تجار الآيدولوجية، فلا هو نسر يرضى بالقمم، ولا هو صقر يفتش عن فريسته في الماء العكر.

والمفارقة أن درويش لم يتأثر بالشعراء الآباء من فلسطين إلا بشكل محدود؛ لكنه تأثر بإليوت وشكسبير، وريتسوس وييتس واسخيليوس وهوميروس وجده المتنبي وسليم بركات.كلنا مصابون بمرض اللغة الشعرية وأطياف محمود درويش التي تسكننا وتعيد لنا سرد الحكاية، والتغريبة الفلسطينية، والمنفى المتدرج، والنوستالجيا المفخخة بالمكان، واللامكان، والهنا والهناك. كلنا نحتاج معجم محمود درويش اللغوي والفلسفي لا لنعبد صنم الشعر في صورته، بل لنحترم اللغة العربية والحضارة العربية والإنسانية في صورتها الطباقية، كما يفهمها الموسيقي العبقري: ثمة نوتات متنافرة كثيرة، يعيد الموسيقار والمؤلف الموسيقي موسقتها كي يخرج علينا بعمل موسيقي يحاكي هذا التنافر الداخلي، لكنه متناسق ومعمق ومتناقض في الوقت ذاته. هو تآلف الفلسطيني مع منفاه وغربته وعزلته الوجودية، لكنه تآلف متناقض بالضرورة تاريخيا وجماليا، لأن الشعر لدى محمود درويش اشتهاء بلاغي ونزعة فلسفية أصيلة تعيد للذات مكانها المتخيل في عالم متوحش، وتعيد للغة هيبتها في زمن جعل منها أضحوكة أمام السرديات الغربية والحداثة الأوروبية المركزية، فكان بهذا فعل مقاومة داخل النص وخارجه.

محمود درويش أعاد للمعجم الشعري صورته المتوترة والقلقة بتعبير المتنبي، فلم يرمي نفسه في أحضان الحداثة الشعرية، وينسى الآبار القديمة التي ينهل منها الشاعر الفيلسوف، والفيلسوف الشاعر، فظل حفيد زرقاء اليمامة، وهو يحدق في صورة المعري وبصيرة العمى في شعره، ثم تراه يطرق رأسه أمام عبقرية المتنبي نصا ورؤية، ويطرح التحية على صديقه سليم بركات، ليس احتفاء برومانسية المنفى والجنوب، بقدر ما هي “رمية نرد في بقعة من ظلام”. وبين محاكاته الشعرية التي تقاوم يقين الحداثة، وتعيد قراءة التراث الثابت بعين الرائي والعراب، ندرك أن مشروع درويش كان نموذجا حداثيا لا يمكن اختزاله في “وطني حقيبة” أو “وطني ليس حقيبة”، لأن المكان في شعره هو إعادة تخييل للزمكان، وإعادة كتابة للزمن الضائع في تاريخ الفلسطيني المحاصر بالحجاج والبرامكة وشبح كريستوفر كولومبس ونابليون.

أزعم أن محمود درويش قد قتل الكثير من الشعراء من مجايليه أمثال سميح القاسم وعزالدين مناصرة وطاهر رياض وغسان زقطان وغيرهم، بل لم نعثر على ناقد واحد عربي استطاع أن يقدم لنا عصارة تجربة محمود درويش الفلسفية والجمالية في سياقها الذاتي والكوني، فسقط النقاد في فخ الأكاديمية والاكليشيهات الجاهزة، وسقط الكثير من الشعراء في محاولات بائسة لملاحقة شبح درويش أو أطيافه التي لا يمكن مجاراتها، بل يمكن نقدها نقدا ابيستومولوجيا وبلاغيا يوازي عمق التجربة وأثرها الذي “لا يرى ولا يزول.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *