* رامي أبو شهاب
يمكن النظر إلى التدخلات العسكرية المباشرة التي وقعت في القرن الواحد العشرين بوصفها شكلاً من أشكال العودة إلى النمط الاستعماري المباشر، بهدف تحقيق نموذج أو علائق إمبريالية جديدة تقترب مما وصفه إدوارد سعيد في كتابه «الثقافة والإمبريالية» حين قال : «الإمبريالية لم تنتهِ لم تتحول فجأة إلى (ماضٍ) ما إن أطلقت عملية فكفكة الاستعمار، حركة تفكيك الإمبراطوريات التقليدية (الكلاسيكية)… فإن نهاية الحرب الباردة والاتحاد السوفييتي، غيرت بصورة قطعية خريطة العالم. إن انتصار الولايات المتحدة بوصفها آخر الدول العظمى، ليشعر بأن طقماً جديدا من خطوط القوة، وهي خطوط كانت قد أخذت بالاتضاح في الــ 1960 آت، والـ 1970 آت، سوف يشكل بنية العالم».
وبذلك فإن مفهوم الإمبريالية يأتي رغبة في التأكيد على الاستراتيجيات التي انتهجتها الكولونيالية الجديدة في سعيها إلى تحقيق نوع جديد من الهيمنة التي تنهض على محاولة السيطرة، التي تتجاوز الأثر العسكري المباشر، بحيث تشمل المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية كافة. يُنظر إلى خطاب ما بعد الكولونيالية عبر القضايا أو الموضوعات والثيمات التي تندرج في مخطط معرفي بهدف اكتناه النصوص الأدبية، التي يحاول أن يخضعها للتحليل، حيث تتوافق جملة المصادر حول هذه الموضوعات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: التمثيلات التي ترتبط بالاستشراق، بالإضافة إلى قضايا الهوية، والاختلاف الثقافي، والمركزية الغربية، والعنف، والأنا، والآخر، والذاتية، والإمبريالية، والوطنية، والهيمنة، والشتات، والتابع، والوكلاء الوطنيين، والهجنة، والتدمير، والخراب، والفوضى، والمقاومة، والقراءة الطباقية وقضايا العرقية، والعنصرية، ودراسات الجندر، وتمثيلات الجغرافيا الكولونيالية، والحركة النسوية والهيمنة، والثنائيات التي تنهض على الشرق والغرب، أو الشمال والجنوب، كما تلك التي تتعلق بالطبقية، كما يمكن أن نضيف أيضاً قضايا العبودية، والشتات، والترجمة، ودراسات نوع الصدمة، وغير ذلك من القضايا التي يمكن أن تطرأ تبعاً للتحولات التي تتميز بها خطابات كل من المستعمِر، التي يطلقها تجاه موضوع المستعمَر، أو العكس.
ينبغي التأكيد على عدد من الملحوظات الشديدة الأهمية، ومنها، أن النظرية ما بعد الكولونيالية دائمة التأمل لاستراتيجيتها، ومفاهيمها، كما أنها تتسم بأنها نوع من أنواع النشاط أو الممارسة، التي تتخذ من التحليل العابر للمستويات أداتها النقدية، في حين أنها تستفيد أيضا من أي مقاربة أو منهجية في سبيل تعضيد منهجيتها النقدية، بما في ذلك الدراسات النفسية، والدراسات البنيوية، والدراسات السيمائية، والماركسية، والتاريخانية الجديدة وغير ذلك، بهدف الكشف عن طبقات عميقة من الصيغ الإنشائية المتصلة بتعقيدات العملية الإمبريالية.
تحضرني عبارة وردت في رواية «الأشياء تتداعى» للروائي النيجري تشينو أتشيبي تقول: «وإلى أن تمتلك الأسود مؤرخيها فإن تاريخ الصيد سوف يمجّد الصياد دائما». لا شك بأن هذه العبارة تعبر عن تجذر هذا الوعي بالقوة والهيمنة، بما في ذلك الخطاب والخطاب الآخر، وفي هذا السياق نستدعي سينما هوليوود إذ أن الكثير من أفلامها تناولت الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، أو الحرب على أفغانستان، ومنها على سبيل المثال لا الحصر «خزانة الألم» من إخراج كاثرين بجلو ، و«القناص الأمريكي» من إخراج كلينت إيستوود، وغيرها، بيد أن ما يجمع بين هذه الأفلام لا يقتصر على رصد تداعيات الحرب النفسية والمعنوية والمادية على الأمريكيين، إنما ما نشاهده بصرياً من صور الخراب والدمار تلك البلدان، جراء سنوات من الحرب التي أطلقت جواً من الكآبة ظللت المكان نتيجة القصف والتفجيرات والاقتتال المستمر؛ ما أدى إلى تدمير بلد بأكمله، وتعطيل عملية التنمية والتطور، بالتجاور مع فائض العذر والخوف نتيجة عمليات التفجير؛ فلا جرم – إذن- أن ينتج هذا ارتباطاً بنيوياً بين الواقع الناتج، والتدخل الأمريكي، وهنا نسترجع مقولة المفكر والناشط السياسي نعوم تشومسكي في كتاب «الدول الفاشلة» بأن الأمريكيين والبريطانيين كانوا على دراية تامة بأن تدخلهم سوف يلهب جذوة الإرهاب في الشرق الأوسط، والعالم»، وهذا ما تحقق فعلياً.
وهكذا نخلص إلى أن الممارسة الكولونيالية، حملت معها الكثير من التداعيات، غير أن هذه الهجمة الكولونيالية، جاءت بناء على مسوغات جديدة أثبت الزمن أنها غير حقيقية، أو مبررة، ولاسيما من حيث التهديدات المباشرة، غير أن ما يهمنا في هذه الشأن كيفية تقديم نموذجين في الممارسة، ونعني الاحتلال العسكري، وما نتج عن ذلك من صيغ جديدة تهدف إلى تحقيق ما يعرف بالكولونيالية الجديدة، التي دشنتها الولايات المتحدة الأمريكية، تمييزاً لها عن تلك المرحلة التي قادتها بريطانيا وفرنسا وغيرهما من الدول الأوروبية، وعلى الرغم من وجود توافق على أن تلك الحقبة الكولونيالية انقضت، بيد أن ذلك لم يحل دون ابتكار أساليب كولونيالية جديدة تمثلت من خلال التأسيس لنظام عالمي جديد، من خلال عدة أشكال جديدة للهيمنة والسيطرة، تتجنب الفعل العسكري المباشر، في حين أن التجربة الأمريكية في القرن الواحد والعشرين، بدت معقدة بعض الشيء، حيث كان اللجوء إلى القوة العسكرية واجباً، بهدف تمكين نمط من أنماط الكولونيالية؛ ما أوجد نمطاً جديداً أو مختلطاً. وهذا ما يتوافق مع ما يعرف بتغيير العالم الاستعماري الذي وصفه فرانز فانون في كتابه «معذبو الأرض» حيث يقول: «تغيير المستعمِر للعالم الاستعماري ليس معركة عقلية بين وجهتي نظر. ليس خطاباً في المساواة بين البشر، وإنما هو تأكيد عنيف لأصالة تفرض مطلقة. إن العالم الاستعماري عالم ثنائي. والمستعمر لا يكتفي بأن يحد مجال المستعمر، أي بوساطة شرطته ودركه، وإنما هو يجعل من المستعمر روح الشر، وخلاصته، كأنه يدل بذلك على أن الاستغلال الاستعماري كلي وشامل».
إننا نهدف إلى التركيز على بيان تجليات ما بعد الكولونيالية، وصولاً إلى تحقيق الكولونيالية الأمريكية الجديدة، كما تجلت في العديد من الصّيغ السردية لأعمال رصدت هذه الظاهرة انطلاقاً من الاحتلال المباشر، يأتي بوصفه مظهراً من مظاهر الحقبة الاستعمارية، غير أن ما يعنينا منهجياً «الصيغ والتمثيلات لما بعد الكولونيالية، والكولونيالية الجديدة»، ولاسيما من حيث وضوح تجليات الفعل الاستعماري على السطح، ونعني بالتحديد ظاهرة تمثيل الأنا المستعمرِة (الأمريكية) التي تبدو متوارية، أو متراجعة، غير أن أثرها يعدّ الأعمق لكونها من أنتجت هذا الوضع الجديد.
لقد احتملت التدخلات صيغ التعبير عن كينونة كاملة من الإسقاطات التي طالت مستويات البنية الحضارية كافة لبلد كان مستقراً إلى حد ما، من منطلق أن الاحتلال، أعطب الكثير من البنى الحضارية والثقافية التي تحققت في عهد الاستقلال، وهنا نسترجع صدى فرانز فانون مرة أخرى بخصوص الدعوات الأوروبية الغربية، التي قامت بوصفها مسوغات واهية للسّيطرة على شعوب العالم إبان العهد الاستعماري الكلاسيكي، فقد تكرر هذا النسق، مع انطلاق الغزو الأمريكي، الذي جمّد تقدم الدول التي قام بغزوها، وأعادها إلى الخلف، مع فيض من الخوف والرعب، وبذلك فالكولونيالية الأمريكية لم تختلف في تكوينها، وأثرها عن النماذج الكولونيالية الأوروبية الكلاسيكية التي يصفها فرانز فانون قائلاً: «لقد انقضت قرون وأوروبا تجمد تقدم البشر الآخرين، وتستبعدهم لتحقيق أهدافها وأمجادها. انقضت قرون وهي باسم «مغامرة روحية» مزعومة، تخنق الإنسانية كلها تقريباً».
وختاماً، فإن خلاصة الأمر تتمثل بأن العالم على ما يبدو لم يتخلص من النموذج الكولونيالي، فهو ما زال مستمراً بوصفه سلوكاً بشرياً لا يمكن تجاوزه، فمحاولة الاستيلاء على فضاءات الآخر لعنة الإنسان، والرغبة بالتحكم والهيمنة هي من النماذج العميقة التي تحكم السلوك البشري، ولكنها في بعض الأحيان تتخذ دوافع ومسميات مختلفة، حيث تبدو المبررات المنطلق، ولهذا فإن مفردات الانتداب والتدخل الإنساني، وغير ذلك أفضت إلى المزيد من الفوضى، وربما المزيد من التدمير، ولا يمكن إلا أن نستعيد صدى ما قاله إدوارد سعيد في مقال نشره في صحيفة «لوس أنجلس تايمز» بتاريخ 20 يونيو/حزيران 2003: «على كل حال فإن كل إمبراطورية تقول لنفسها وللعالم بأنها لا تشبه الإمبراطوريات الأخرى، وأن مهمتها لا تتمثل بالسلب والسيطرة إنما بالتثقيف والتحرير».
- عن القدس العربي