موجز عن جريس سماوي

  • معن البياري

 …/ أنا سارقُ الخيل ليلاً/ وسائسُها/ ومدجّنها في المراعي/ بقيثارتي سوف أسحرُ كل الثعابين/ أرقصُ مثل عريسٍ من الجن منتشيا/ …”. هذا مقطعٌ من واحدةٍ من قصائد مجموعة جريس سماوي الشعرية “زلّة أخرى للحكمة” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2004). نَسَب هذه القصيدة لنفسه جزائريٌّ تقدَّم بها باسمه في مسابقةٍ في بلاده. كانت الواقعة غريبةً ومثيرةً. انفضح ذلك الشاب، ونشرت الصحافة عن فعلته الساذجة التي دلّت على أن في القصيدة، الجميلة حقا، ما أغوته، إلى حدّ أنه أراد سرقتها. (فعل شيئا مثيلا شاعرٌ مصريٌّ نسب قصيدةً ليوسف أبو لوز لنفسه وقرأها في ملتقىً في القاهرة). تُستعاد تلك الحادثة هنا للتذكير بأن جريس الذي ضربَنا بحجرٍ ثقيلٍ موتُه، فجر يوم أمس، نحن أصحابه الذين بلا عدد، محبّيه الذين نحتفظ منه بأنهرٍ من الذكريات والطرائف، كان شاعرا من قبلُ ومن بعد، لكنه شاعر المجموعة الوحيدة والقصائد القليلة التي تنوّعت مناخاتها، وأمزجتها، وإشراقاتها، ثمّة، إلى ارتحالات بعضها إلى أساطير وأناجيل وتراثياتٍ غير قليلة، الرعوية الضافية، كالتي في هذه القصيدة التي يسرق فيها جريس الخيل ليلا، ثم يسرق كلماتِه شاعرٌ في بلدٍ بعيد. وثمّة الحسّي، بل والجسدي المحض أحيانا، وهو يكتب قصائد حبٍّ، شفيفةٍ، لا أظن أن تسميتها قصائد غزل صحيحةً تماما. .. “../ والماء يُشعل شهوة الأنثى/ ويحبو مثل طفل الغيم/ يحبو كالندى/ فتكاد تصحو الفتنةُ الرعناءٌ في الطقس الشفيف/ تكاد تصفو إذ يراودها السرير”.

ظلّت صفة جريس سماوي (مواليد 1956) شاعرا أردنيا دائمةً معه، ليست كما صفته وزيرا للثقافة، في العام 2011، لمّا أمضى في موقعه ذاك شهورا فقط، قبل أن يضطرّ لمغادرته، بسبب قرارٍ يتعلق بحملة الجنسيات الأخرى. وجريس الذي أقام في نيويورك سنواتٍ أميركي الجنسية أيضا، لم تكن لتلحظ عليه أي علائم أمركةٍ. ولم يكن لك أن تقع فيه على غير المثقف المحبّ للناس، الذي يفيض بساطةً وتهذيبا وانفتاحا على العموم. ولهذا، عباراتُ توديعِه في منصّات السوشيال ميديا، والتي نطقت بألمٍ غزيرٍ على فقده، بعد أن ضربه فيروس كوفيد الكريه (وشقيقه رحمهما الله)، لم تكن مسترسلةً في لحظة أسىً على صديق رحل، وإنما نمّت، حقيقةً، عن خسران باهظٍ يستشعره كل من اتصل بالعمل الإعلامي والنشاط الثقافي في الأردن، وفي أوساط عربية غير قليلة، إذ لمثلِ جريس تبكي البواكي، كما كتب أستاذنا إبراهيم السعافين. ذلك أن الصديق الكبير، إبّان إدارته مهرجان جرش للثقافة والفنون، سنواتٍ، ثم عمله أمينا عاما لوزارة الثقافة، ثم وزيرا، وقبل ذلك في برامجه الثقافية في التلفزيون الأردني، ظلّ أنيس الجميع، الممتلئ دفئا. وفي كل الأثناء، كان متخّففا من بيروقراطيات المناصب والمواقع العامة، المتقدّمة، ومراسمها وفلكلورياتها.

رُحماك، يا الله، لم يعد في معاجم الرثاء ما يسَع. لسنا قادرين على أن نتآلفَ أكثر مع كل هذا الموت، من الصنف الذي يباغتنا به الفيروس الكريه، كلّما تجولنا في صفحات الفضاء الأزرق كل صباح .. رُحماك. لو تلطُف، وأنت القديرُ على كل شيء، بنا. أرى روحي في نشيجٍ صامت، وأنا أقرأ جريس، عابثا، متجلّيا، شاعرا فحسب: “… أبانا الذي في السماء/ أبانا الجميل الحبيب الغفور المقدّس/ اغفر لنا يا أبانا/ سرقْنا النبيذ المقدّس/ ثم شربْناه حتى ثملنا/ أبانا/ رأينا بقصد/ بكامل شهوتنا/ جسد الراهبة/ ولمحنا كما يبرقُ الضوء فضّتها العارية/ … “.

  • عن العربي الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *